لست متأكداً تماماً إن كان تّشبهاً بهتلر- مالئ الدنيا حرباً وانشغالاً في ذلك الحين - كان والدي يترك لي ذؤابة مميزة عندما يقصّ شعري، أو أن ذلك ليس أكثر من ترضية لي، إذ يقول: "سأقص شعرك وسأترك لك (عرّوبة) يحسدك عليها رفاقك!" ربما لأن انقباضاً، وكآبة، ورفضاً مكبوتاً، سرعان ما ترتسم جميعها على وجهي وحركاتي حين تحين الساعة. ولعل السبب في هذا أني كنت أفضل أن يقوم بهذا العمل أبو إبراهيم حلاق القرية الوحيد. لكن قلة البيض عندنا، واعتداد والدي بنفسه كانا يفوّتان عليّ هذه الرغبة التي تحمل معها إجازة قصيرة كافية لمتعة إضافية، قبل العودة إلى حارتنا البعيدة، أو أن السبب هو المقص الذي ليس له علاقة بالقص، بل يصلح (ملقط شعر)- رغم أني لم أكن أعلم عن هذا الإختراع شيئاً بعد- إذ ينتزع كثيراً من شعر رأسي في كل مرة. ولو لم يكن شعري غزيراً وقويّاً، لكان دخل في عهد الانقراض من زمن طويل؛ كذلك كان شعر "قطّوش"، عنزتنا الشامية، قوياً وغزيراً. وكذلك كانت حالتها من الانقباض والقلقلة والنط والتحرك والتصويت، أثناء استخدام المقص ذاته، في المناسبة عينها. ولم أعد أذكر إن كانت تسترضى (بالعروبة) نفسها! مع ذلك فربما كانت أفضل حالاً مني، فبعد انتهاء الطقوس المؤسية، تنسى ما حصل معها، ولا تستذكره إلاّ حين تراني، مرة تالية، مطأطأ الرأس على كرسي القشّ المُهَلْهَل، أنشج بصوت خافت. فتشد الرباط من يدِ أمي، أو تحاول انتزاعه من وثاقه، وتتحرك حركات هيستيرية، كأن حشرة مشاغبة حطت على مؤخرتها فجأة في ضحىً حار، أو أنها استشعرت هزة أرضية قادمة.. وحين نلتقي بعد وقت قصير في الحرش القريب، أحسدها على نسيانها، إذ تكب على قضم أغصان الشجيرات الفتية الكثيفة ورعي الأعشاب بينها بنهم شديد. بينما أنا أتحسس مواضع الوجع الذي يتوزع جلدة رأسي كلها، وقد يشمل أذنّي ورقبتي أيضاً. وأحس خشونة الشعر المقطوع بلا انتظام، تماماً كما هو على جلد هذه المخلوقة المسكينة المتسامحة الفخورة بذؤابتها، أو أني أنا الفخور بها، لأنها تذكرني بذؤابتي التي أستطيع أن أرى أطرافها حين أشدها بيديّ إلى الأمام، عند كل محاولة تخفيف عن آلام مضغوطة. وأتغاضى للحظاتٍ عن شكلها الناشز عما يجاورها، والذي أحس تدرّج الأبيض والأسود فيه، من إمرار راحة كفي، أو عبور النسيم. ليس هذا وجه الشبه الوحيد بيني وبين (قطّوش)، بل هناك أمور كثيرة أخرى؛ ففطنتها وطاعتها وانقيادها رغم بعض محاولات التمرد الفاشلة، وغصتها التي تظهر دموعاً في عينيها وبحة في صوتها وقلقاً في ليلنا المشترك، كلها أمور تدعو للدهشة. حتى أن وجهها المتطاول الذي يبدو خاصاً بأبناء جنسها، يمكن أن يشبهني، هذا ما اكتشفته حين حان طيف التفاتة مني على ظل وجهي الذي يرسمه ضوءُ السّراج على الحائط المبَيّض. فبدا ذقني وأنفي نتوأين متطاولين لا يبعدان كثيراً عن بعضهما. ولو التقيا بأي احتمال، لكان (بوزاً) عنزياً حقيقياً. لكني لا أستطيع دفن رأسي في الأرض كما تفعل هي، رغم أن هناك رغبة بذلك، فأدفنه بين كفّي أحياناً، وبين ركبتيّ أحياناً أخرى؛ حتى أذناها المقصوصتان القصيرتان جداً، كأنما حدد طولهما بحيث يكون كطول أذني. أما الذنب فمقصوص أيضاً، مما يترك عورتها مشرعة دون خجل، ولعل هذا هو الاختلاف الوحيد، إذ أن (بنطالاً) - وإن كان مجمعاً من قطع مختلفة الألوان والأشكال- يسترني وربما كان شيء ما مضغوطاً تحت الجلد، ضمُر من زمن بعيد، قد ينبتُ ذات يوم! أيام طويلة وساعات مديدة قضيناها معاً وأنا و(قطوّش)، حتى أني نسيت مَن منّا يرافق الآخر، وموجودٌ من أجله؛ فقد صارت تعرف الدروب، بتعرجاتها، إلى المراعي الصباحية والمسائية. وحين أشردُ قليلاً تنبهني بصوتها المتقطع، حتى إذا ما تأخرنا في العودة قبل الظهر أو عند الغروب، فإنها تطلق أصواتاً متتالية، ثم تتجه صوب البيت، فأتبعها ببلادة أو حياديّة! أما صوتي فقد استخدمته في الرفض مراراً، وكان قويّاً حاداً ، ثم صار أجش متقطعاً، ثم توقفت عن التصويت، وتركت لصوتها المتهدّج التعبير عما في داخلي!! *** خلت بعد سنين أن زمن قطوش قد انتهى، لكني تذكرتها حين تلقيت دعوة السَّوق إلى الخدمة، فقد كانت أمي تقول: هيا.. لقد حان وقت السَّوق؛ ألا ترى الشمس تكاد تطلع، أو تغيب؟! وتذكرتها وبكيت بدموع صامتة، حين قصّوا شعري، بعد دقائق من دخولي تلك الفسحة المسوّرة الكابية، بشكل لم يكن ليختلف كثيراً عن الطريقة التي تعودتُها، سوى أن القص كان سريعاً، والآلة لا تصلح ملقطاً للشعر! وحين نظرت حولي لأرى شكل (العرّوبة) على رؤوس زملائي، لأتكهن بها على رأسي، علمت أنْ لا ذؤابة ولا شعر ولا من يحزنون. وتأكدتُ من ذلك، حين أمررتُ أصابعي فوق جلدة رأسي التي تشبه صخرة ناعمة باردة. وتذكرتها، حين كانت صفات الحيوان تهطل علينا بسبب أو من دونه. وكنا نزيدها نحن بعد كل حفلة قصّ؛ إذ تبدو رؤوسنا الجرداء ذات الأحجام المختلفة، والتحدُّبات المتنوعة، والآذان الملتصقة أو المشوّحة بعيداً عن الرأس، والتي تشبه آذاناً غير بشرية، أو مشروعاً لها، فتعلو التشبيهات والتعليقات: أنت كالصوص، وذاك كالحمار، وآخر كالخروف. وسمعت أحدهم يشير إليّ ويقول: وهذا كالجدي! فعادت إليّ ذكرى (قطوش) وذريتها المتعاقبة من جديد. وكثيراً ما تساءلتُ عن سر هذا التوافق بين ما يفعلونه بنا، وبين ما كان يفعله أبي معي ومع (قطوّش)، ولم أكن أعلم أنه عقوبة، إلا حين كان يساق أي منّا إلى الحّلاق، بعد أية مخالفة، مهما كانت صغيرة أو كبيرة. ومهما كان طول الشعر، حتى لو لم يكن إمساكه ممكناً، فإن آلةً حادة شرهة، ويداً حاذقة، وحيويّة دافقة، وشبقاً محموماً، تعيده إلى الصفر. كان العداء للشّعر شرساً ومسعوراً يصل حدود المرض، فالتهديد بالحلاقة وتنفيذها سيد التدريب، خاصة قبل الأعياد والإجازات المقررة. والبحث المحموم عن أي أثر للشّعر على الذقن، وعقوبة ذلك، عنوانه كل صباح. مما خلق لدى الكثيرين رغبة في تربية الشوارب، حتى تكاد تحتل نصف الملامح. أما أنا فلم أفكر في هذا، ربما لأن وجود الشاربين يؤدي إلى خسارة بضع ثوانٍ قيمّة في الصباح الباكر، أثناء الحلاقة اليومية، أو تضامناً مع (قطوش)، لكن شعراً كثيفاً تركته ينمو- وأظن أن كثيرين تركوه مثلي- في أماكن أخرى، لا يستطيع أعداء الشعر ملاحظته أو ملاحقته، حتى أثناء دروس الرياضة، أو عقوبات التعرّي شبه الكاملة! *** حلاقون كثيرون سلمتهم رأسي يتلاعبون به، يرفعونه ويخفضونه، يميلونه ذات اليمين وذات الشمال. يبتعدون عنه ويقتربون، يحفرون جلدته بأدواتهم، المسرعون منهم لازدحام المنتظرين، أو المبطئون الذين يتسلّون بقضم الوقت لانقطاع الزبائن، أصحاب المحلات المهجورة والكراسي القديمة، والأدوات الصدئة، والمرايا المهشمة، والحكايات العتيقة، الذين يبدؤون العمل دون مقدمات أو رتوش، أو المزيّنون ذوو اللافتات الزاهية، والواجهات المغرية، والآلات المتنوعة، والأنوار المشرقة، والمرايا المتقابلة، والصور المعلقة عن آخر الموضات والتسريحات، الذين يغسلون الرأس دون رغبتي أو مشورتي، ويرشون عليه الروائح الزكية. كل هؤلاء وأولئك، ورغم الثرثرة، والكلام عن المقدرة والتاريخ العريق أو الحداثة المدهشة والمهارة وشهادات التقدير والإطراء والاستدلال من المعارف والأصدقاء، لم يستطع أي منهم أن يقنعني بالشكل الأثير لرأسي، والوضع المُرضي لتسريحتي. صار هماً لديّ وانشغالَ بال ووسواساً. وصرت أنّى مشيتُ أنظر إلى تسريحات الناس، أتلفت في كل الاتجاهات، أراقب كل أوضاع الشعر. وأحاول أن أركز على شكل معيّن، أنقله شرحاً متعثراً إلى الحلاق التالي. فتكون النتيجة شكلاً آخر، فيقول: شعرك لا يلائمه إلا هذا القصّ، أو رأسك يلزمه هذا الوضع، أو وجهك تناسبه هذه التسريحة. وصرتُ مضحكة أمام الناس، مرة إلى اليمين، ومرة إلى اليسار. ومراراً نحو الأعلى، أو الأسفل، وهل ينفع الاحتجاج أو العتاب أو الوجوم؟! جربتُ كل الحلاقين في الحارة والمدينة والمدن التي أزور. صرت أبدأ من أول الشارع إلى نهايته، دون تمييز، حتى الذين ارتحت إلى أسلوب تعاملهم، ونتائج عملهم مرة، يتغير الحال في المرة الثانية؛ فأقول: إن ما حدث كان مصادفة، وليس عن دراية وحسن تدبير.. حين أنظر إلى المرآة، وأشاهد ما تفعله الأدوات الشرهة بشعري، يهطل اكتئاب العالم على وجهي فيسألني بعض المنتظرين أدوارهم: هل تتألم يا هذا؟! أهزُّ رأسي نافياً؛ فيصرخ فيّ الحلاق: اهدأ! لقد شوهتَ كل عملنا..! وفي مرات كثيرة، وبعد إمعان النظر في وجهي المكفهر، غادر بعض الحاضرين ولم يعودوا. وتذرع بعضهم بأعمال مهمة نسيها، أو مواعيد لا يمكن التأخر عنها أكثر من ذلك. فيشيعه المزيّن بنظرات حاقدة، وتمتمات لا تحمل كلاماً جميلاً. وربما لعن ساعة الشؤم التي أتيت بها إليه.. *** إذا كان معظم فلاسفة العالم وعلماؤه الذين رأيت صورهم وأشكالهم، يتركون شعورهم على حالها رؤوساً وذقوناً؛ لماذا لا أفعل مثلهم؟! ليس لأني فيلسوف أو عالم، بل لأني، وبكل بساطة، لا أرتاح لما يفعلونه برأسي! ولست مقتنعاً بالحلاقة من أساسها، أو أصبحت كذلك؛ تركت شعري ينمو بهدوء، ويأخذ أمداءه اللازمة دون توجيه. أحسست بارتياح وبانزياح همٍّ كبيرٍ عن كاهلي. ولم أعد أشغل نفسي برؤوس الناس كثيراً. لكن الأمر لم يستمر على هذا الحال، فقد صار يلزمني وقت طويل لغسله، وصرت أشعر بثقله، وتشابكه، وبكثافة الغبار والدخان فيه. وفي أيام كثيرة حين أعود بعد يوم مضنٍ، أتغافل عن (شوشتي) كما صار يسميها الناس. وأتثاقل عن القيام بما يلزمها من تنظيف وتسريح. ويعوزني الوقت الصباحي لذلك. فتصبح متداخلة ومعقودة بحيث يصعب حلها أو تهذيبها. وصارت محطة للحشرات، ودريئة للكلام الذي تكاثر حتى صار حملاً ثقيلاً آخر، فوق رأسي وداخله. *** من المسؤول عما يحدث؟! أأنا الذي جنيتُ على نفسي وشعري؟! أم أبي ومقصه البدائي العنيد؟! أم اختلاف الأيدي والأدوات التي عبثت به؟! أم أنه قضاءٌ وقدر؟! صحيح أني أنا الذي حلقته آخر مرة، بعد ما صار غابة موحشة من الديس والشربين والشوك. وصار عاراً عليّ، وعلة في نفسي، وحملاً أنقضَ رأسي. نعم، أنا الذي حلقته، وتذكرت أبي و(قطوش)، حين استخدمتُ مقصاً قد يصلح لشيء آخر. وصار رأسي مساحة جرداء غير مسواة جيداً، ودُون ذؤابة. وعاد كرأس الجدي.. أخفيتُه بأنواع مختلفة من أغطية الرأس: كوفيات وقبعات صغيرة وكبيرة، سألني الكثيرون عن الجناية التي حلقوا لي رأسي بسببها! قعدتُ في البيت لا أبرحه، منتظراً نموّه، لم أفكر ماذا سأفعل به في المستقبل، ولمن سأسلمه، أو هل سأدعه مرة أخرى على سجيته. بل إن شيئاً آخر شغلني، فقد نما قليلاً وببطءٍ شديد ثم توقف عن النموّ. ثم بدأ يتساقط رويداً رويداً. لم يستطع الأطباء، ولا الأدوية الشعبية أو المعملية، إيقاف تساقطه الذي يزداد بإطّراد، وأزداد معه عزلة وحيرة وأسىً وقنوطاً..
لست متأكداً تماماً إن كان تّشبهاً بهتلر- مالئ الدنيا حرباً وانشغالاً في ذلك الحين - كان والدي يترك لي ذؤابة مميزة عندما يقصّ شعري، أو أن ذلك ليس أكثر من ترضية لي، إذ يقول: "سأقص شعرك وسأترك لك (عرّوبة) يحسدك عليها رفاقك!" ربما لأن انقباضاً، وكآبة، ورفضاً مكبوتاً، سرعان ما ترتسم جميعها على وجهي وحركاتي حين تحين الساعة. ولعل السبب في هذا أني كنت أفضل أن يقوم بهذا العمل أبو إبراهيم حلاق القرية الوحيد. لكن قلة البيض عندنا، واعتداد والدي بنفسه كانا يفوّتان عليّ هذه الرغبة التي تحمل معها إجازة قصيرة كافية لمتعة إضافية، قبل العودة إلى حارتنا البعيدة، أو أن السبب هو المقص الذي ليس له علاقة بالقص، بل يصلح (ملقط شعر)- رغم أني لم أكن أعلم عن هذا الإختراع شيئاً بعد- إذ ينتزع كثيراً من شعر رأسي في كل مرة. ولو لم يكن شعري غزيراً وقويّاً، لكان دخل في عهد الانقراض من زمن طويل؛ كذلك كان شعر "قطّوش"، عنزتنا الشامية، قوياً وغزيراً. وكذلك كانت حالتها من الانقباض والقلقلة والنط والتحرك والتصويت، أثناء استخدام المقص ذاته، في المناسبة عينها. ولم أعد أذكر إن كانت تسترضى (بالعروبة) نفسها!
مع ذلك فربما كانت أفضل حالاً مني، فبعد انتهاء الطقوس المؤسية، تنسى ما حصل معها، ولا تستذكره إلاّ حين تراني، مرة تالية، مطأطأ الرأس على كرسي القشّ المُهَلْهَل، أنشج بصوت خافت. فتشد الرباط من يدِ أمي، أو تحاول انتزاعه من وثاقه، وتتحرك حركات هيستيرية، كأن حشرة مشاغبة حطت على مؤخرتها فجأة في ضحىً حار، أو أنها استشعرت هزة أرضية قادمة..
وحين نلتقي بعد وقت قصير في الحرش القريب، أحسدها على نسيانها، إذ تكب على قضم أغصان الشجيرات الفتية الكثيفة ورعي الأعشاب بينها بنهم شديد.
بينما أنا أتحسس مواضع الوجع الذي يتوزع جلدة رأسي كلها، وقد يشمل أذنّي ورقبتي أيضاً. وأحس خشونة الشعر المقطوع بلا انتظام، تماماً كما هو على جلد هذه المخلوقة المسكينة المتسامحة الفخورة بذؤابتها، أو أني أنا الفخور بها، لأنها تذكرني بذؤابتي التي أستطيع أن أرى أطرافها حين أشدها بيديّ إلى الأمام، عند كل محاولة تخفيف عن آلام مضغوطة. وأتغاضى للحظاتٍ عن شكلها الناشز عما يجاورها، والذي أحس تدرّج الأبيض والأسود فيه، من إمرار راحة كفي، أو عبور النسيم.
ليس هذا وجه الشبه الوحيد بيني وبين (قطّوش)، بل هناك أمور كثيرة أخرى؛ ففطنتها وطاعتها وانقيادها رغم بعض محاولات التمرد الفاشلة، وغصتها التي تظهر دموعاً في عينيها وبحة في صوتها وقلقاً في ليلنا المشترك، كلها أمور تدعو للدهشة. حتى أن وجهها المتطاول الذي يبدو خاصاً بأبناء جنسها، يمكن أن يشبهني، هذا ما اكتشفته حين حان طيف التفاتة مني على ظل وجهي الذي يرسمه ضوءُ السّراج على الحائط المبَيّض.
فبدا ذقني وأنفي نتوأين متطاولين لا يبعدان كثيراً عن بعضهما. ولو التقيا بأي احتمال، لكان (بوزاً) عنزياً حقيقياً.
لكني لا أستطيع دفن رأسي في الأرض كما تفعل هي، رغم أن هناك رغبة بذلك، فأدفنه بين كفّي أحياناً، وبين ركبتيّ أحياناً أخرى؛ حتى أذناها المقصوصتان القصيرتان جداً، كأنما حدد طولهما بحيث يكون كطول أذني. أما الذنب فمقصوص أيضاً، مما يترك عورتها مشرعة دون خجل، ولعل هذا هو الاختلاف الوحيد، إذ أن (بنطالاً) - وإن كان مجمعاً من قطع مختلفة الألوان والأشكال- يسترني وربما كان شيء ما مضغوطاً تحت الجلد، ضمُر من زمن بعيد، قد ينبتُ ذات يوم!
أيام طويلة وساعات مديدة قضيناها معاً وأنا و(قطوّش)، حتى أني نسيت مَن منّا يرافق الآخر، وموجودٌ من أجله؛ فقد صارت تعرف الدروب، بتعرجاتها، إلى المراعي الصباحية والمسائية. وحين أشردُ قليلاً تنبهني بصوتها المتقطع، حتى إذا ما تأخرنا في العودة قبل الظهر أو عند الغروب، فإنها تطلق أصواتاً متتالية، ثم تتجه صوب البيت، فأتبعها ببلادة أو حياديّة! أما صوتي فقد استخدمته في الرفض مراراً، وكان قويّاً حاداً ، ثم صار أجش متقطعاً، ثم توقفت عن التصويت، وتركت لصوتها المتهدّج التعبير عما في داخلي!!
***
خلت بعد سنين أن زمن قطوش قد انتهى، لكني تذكرتها حين تلقيت دعوة السَّوق إلى الخدمة، فقد كانت أمي تقول: هيا.. لقد حان وقت السَّوق؛ ألا ترى الشمس تكاد تطلع، أو تغيب؟! وتذكرتها وبكيت بدموع صامتة، حين قصّوا شعري، بعد دقائق من دخولي تلك الفسحة المسوّرة الكابية، بشكل لم يكن ليختلف كثيراً عن الطريقة التي تعودتُها، سوى أن القص كان سريعاً، والآلة لا تصلح ملقطاً للشعر! وحين نظرت حولي لأرى شكل (العرّوبة) على رؤوس زملائي، لأتكهن بها على رأسي، علمت أنْ لا ذؤابة ولا شعر ولا من يحزنون. وتأكدتُ من ذلك، حين أمررتُ أصابعي فوق جلدة رأسي التي تشبه صخرة ناعمة باردة. وتذكرتها، حين كانت صفات الحيوان تهطل علينا بسبب أو من دونه. وكنا نزيدها نحن بعد كل حفلة قصّ؛ إذ تبدو رؤوسنا الجرداء ذات الأحجام المختلفة، والتحدُّبات المتنوعة، والآذان الملتصقة أو المشوّحة بعيداً عن الرأس، والتي تشبه آذاناً غير بشرية، أو مشروعاً لها، فتعلو التشبيهات والتعليقات: أنت كالصوص، وذاك كالحمار، وآخر كالخروف. وسمعت أحدهم يشير إليّ ويقول: وهذا كالجدي! فعادت إليّ ذكرى (قطوش) وذريتها المتعاقبة من جديد.
وكثيراً ما تساءلتُ عن سر هذا التوافق بين ما يفعلونه بنا، وبين ما كان يفعله أبي معي ومع (قطوّش)، ولم أكن أعلم أنه عقوبة، إلا حين كان يساق أي منّا إلى الحّلاق، بعد أية مخالفة، مهما كانت صغيرة أو كبيرة. ومهما كان طول الشعر، حتى لو لم يكن إمساكه ممكناً، فإن آلةً حادة شرهة، ويداً حاذقة، وحيويّة دافقة، وشبقاً محموماً، تعيده إلى الصفر.
كان العداء للشّعر شرساً ومسعوراً يصل حدود المرض، فالتهديد بالحلاقة وتنفيذها سيد التدريب، خاصة قبل الأعياد والإجازات المقررة. والبحث المحموم عن أي أثر للشّعر على الذقن، وعقوبة ذلك، عنوانه كل صباح. مما خلق لدى الكثيرين رغبة في تربية الشوارب، حتى تكاد تحتل نصف الملامح. أما أنا فلم أفكر في هذا، ربما لأن وجود الشاربين يؤدي إلى خسارة بضع ثوانٍ قيمّة في الصباح الباكر، أثناء الحلاقة اليومية، أو تضامناً مع (قطوش)، لكن شعراً كثيفاً تركته ينمو- وأظن أن كثيرين تركوه مثلي- في أماكن أخرى، لا يستطيع أعداء الشعر ملاحظته أو ملاحقته، حتى أثناء دروس الرياضة، أو عقوبات التعرّي شبه الكاملة!
حلاقون كثيرون سلمتهم رأسي يتلاعبون به، يرفعونه ويخفضونه، يميلونه ذات اليمين وذات الشمال. يبتعدون عنه ويقتربون، يحفرون جلدته بأدواتهم، المسرعون منهم لازدحام المنتظرين، أو المبطئون الذين يتسلّون بقضم الوقت لانقطاع الزبائن، أصحاب المحلات المهجورة والكراسي القديمة، والأدوات الصدئة، والمرايا المهشمة، والحكايات العتيقة، الذين يبدؤون العمل دون مقدمات أو رتوش، أو المزيّنون ذوو اللافتات الزاهية، والواجهات المغرية، والآلات المتنوعة، والأنوار المشرقة، والمرايا المتقابلة، والصور المعلقة عن آخر الموضات والتسريحات، الذين يغسلون الرأس دون رغبتي أو مشورتي، ويرشون عليه الروائح الزكية.
كل هؤلاء وأولئك، ورغم الثرثرة، والكلام عن المقدرة والتاريخ العريق أو الحداثة المدهشة والمهارة وشهادات التقدير والإطراء والاستدلال من المعارف والأصدقاء، لم يستطع أي منهم أن يقنعني بالشكل الأثير لرأسي، والوضع المُرضي لتسريحتي.
صار هماً لديّ وانشغالَ بال ووسواساً. وصرت أنّى مشيتُ أنظر إلى تسريحات الناس، أتلفت في كل الاتجاهات، أراقب كل أوضاع الشعر. وأحاول أن أركز على شكل معيّن، أنقله شرحاً متعثراً إلى الحلاق التالي. فتكون النتيجة شكلاً آخر، فيقول: شعرك لا يلائمه إلا هذا القصّ، أو رأسك يلزمه هذا الوضع، أو وجهك تناسبه هذه التسريحة. وصرتُ مضحكة أمام الناس، مرة إلى اليمين، ومرة إلى اليسار. ومراراً نحو الأعلى، أو الأسفل، وهل ينفع الاحتجاج أو العتاب أو الوجوم؟!
جربتُ كل الحلاقين في الحارة والمدينة والمدن التي أزور. صرت أبدأ من أول الشارع إلى نهايته، دون تمييز، حتى الذين ارتحت إلى أسلوب تعاملهم، ونتائج عملهم مرة، يتغير الحال في المرة الثانية؛ فأقول: إن ما حدث كان مصادفة، وليس عن دراية وحسن تدبير.. حين أنظر إلى المرآة، وأشاهد ما تفعله الأدوات الشرهة بشعري، يهطل اكتئاب العالم على وجهي فيسألني بعض المنتظرين أدوارهم: هل تتألم يا هذا؟! أهزُّ رأسي نافياً؛ فيصرخ فيّ الحلاق: اهدأ! لقد شوهتَ كل عملنا..!
وفي مرات كثيرة، وبعد إمعان النظر في وجهي المكفهر، غادر بعض الحاضرين ولم يعودوا. وتذرع بعضهم بأعمال مهمة نسيها، أو مواعيد لا يمكن التأخر عنها أكثر من ذلك. فيشيعه المزيّن بنظرات حاقدة، وتمتمات لا تحمل كلاماً جميلاً. وربما لعن ساعة الشؤم التي أتيت بها إليه..
إذا كان معظم فلاسفة العالم وعلماؤه الذين رأيت صورهم وأشكالهم، يتركون شعورهم على حالها رؤوساً وذقوناً؛ لماذا لا أفعل مثلهم؟! ليس لأني فيلسوف أو عالم، بل لأني، وبكل بساطة، لا أرتاح لما يفعلونه برأسي! ولست مقتنعاً بالحلاقة من أساسها، أو أصبحت كذلك؛ تركت شعري ينمو بهدوء، ويأخذ أمداءه اللازمة دون توجيه. أحسست بارتياح وبانزياح همٍّ كبيرٍ عن كاهلي. ولم أعد أشغل نفسي برؤوس الناس كثيراً.
لكن الأمر لم يستمر على هذا الحال، فقد صار يلزمني وقت طويل لغسله، وصرت أشعر بثقله، وتشابكه، وبكثافة الغبار والدخان فيه. وفي أيام كثيرة حين أعود بعد يوم مضنٍ، أتغافل عن (شوشتي) كما صار يسميها الناس. وأتثاقل عن القيام بما يلزمها من تنظيف وتسريح. ويعوزني الوقت الصباحي لذلك. فتصبح متداخلة ومعقودة بحيث يصعب حلها أو تهذيبها. وصارت محطة للحشرات، ودريئة للكلام الذي تكاثر حتى صار حملاً ثقيلاً آخر، فوق رأسي وداخله.
من المسؤول عما يحدث؟!
أأنا الذي جنيتُ على نفسي وشعري؟! أم أبي ومقصه البدائي العنيد؟! أم اختلاف الأيدي والأدوات التي عبثت به؟! أم أنه قضاءٌ وقدر؟!
صحيح أني أنا الذي حلقته آخر مرة، بعد ما صار غابة موحشة من الديس والشربين والشوك. وصار عاراً عليّ، وعلة في نفسي، وحملاً أنقضَ رأسي. نعم، أنا الذي حلقته، وتذكرت أبي و(قطوش)، حين استخدمتُ مقصاً قد يصلح لشيء آخر. وصار رأسي مساحة جرداء غير مسواة جيداً، ودُون ذؤابة. وعاد كرأس الجدي.. أخفيتُه بأنواع مختلفة من أغطية الرأس: كوفيات وقبعات صغيرة وكبيرة، سألني الكثيرون عن الجناية التي حلقوا لي رأسي بسببها!
قعدتُ في البيت لا أبرحه، منتظراً نموّه، لم أفكر ماذا سأفعل به في المستقبل، ولمن سأسلمه، أو هل سأدعه مرة أخرى على سجيته. بل إن شيئاً آخر شغلني، فقد نما قليلاً وببطءٍ شديد ثم توقف عن النموّ. ثم بدأ يتساقط رويداً رويداً.
لم يستطع الأطباء، ولا الأدوية الشعبية أو المعملية، إيقاف تساقطه الذي يزداد بإطّراد، وأزداد معه عزلة وحيرة وأسىً وقنوطاً..