تعود أهل المدينة المسحورة أن يملأوا الساحات إذا ناداهم راعي مدينتهم. حتى أدعى الغرباء، من الغيرة، أن أهل تلك المدينة خائفون من راعيها! لم يفهم الغرباء كيف يهرع رجال بإرادتهم على نداء، مسرعين ولو كاد أحدهم يدوس الآخر! وقالوا: اولئك مضبوعون، فالعاقل لا يركض ليرى طرف وجه المحبوب! واستمر ذلك زمناً طويلاً. حتى نزل المنادون مرة إلى الأسواق، كالعادة، يتقدمهم الطبل والمزمار. ونادوا كالعادة: ياأهل المدينة المسحورة! ونشروا لفافة من جلد الغزال وقرأوا المكتوب فيها. فرددت الأسواق الصامتة نداءهم، ولكن لم يخرج إليهم أحد. ولم يلحقهم ولد. رددت الحارات والجدران نداءهم، ولكن لم تفتح نافذة ولم تتحرك ستارة. حتى سمعوا أصوات خطواتهم كأنها الطبول. فرجعوا إلى راعي المدينة وأعلنوا له: الأسواق مفتوحة، والبيوت والأشجار والمياه موجودة. الرعية فقط متخلفة! أيصدقهم؟ كيف يمكن أن يختفي سكان مدينة كاملة في ليلة؟ قال: يعرف زمننا تهجير شعوب وقوميات، واستقدام سكان، وتبديل هويات، لكن لذلك إشارات من قصف أو حرائق أو زلازل أو، على الأقل، مؤتمرات! لم أسمع ولم أر مثل تلك العلامات! أكد له حراسه ما قال: نعم لم نسمع حتى تنفس الطفل. فهل يهاجر أو يهرب سكان مدينة دون أن نسمع على الأقل صوت أقدام؟ وأعلن حراس الأبراج والبوابات أنهم لم يلمحوا في الليلة الماضية مسافراً أو هارباً أو مهاجراً. مر فقط قطيع من الذئاب كأنه قطعة واحدة. رأوه واضحاً، لكن ضبابة غطته بعد ذلك فلم يعرفوا اتجاهه، واجتاحتهم عندئذ رغبة مفاجئة بالنوم فناموا. فلا تسلوهم عن مساره. بوابات السور، على كل حال، مغلقة لن يعبرها الطير الطائر فهل يعبرها قطيع من الذئاب! قال راعي المدينة: آه! لا يشعر حتى حراس السور بالمسؤولية مثلي! أنا الذي تابعت قطيع الذئاب من برجي الذي يعلو جميع الأبراج، ورأيته يحوم حول المدينة! كنت إذن أكتب النداء إلى رعيتي عندما كانت الرعية والحراس نائمين! ونزل باحثاً عن رعيته. رأى مدينة غريبة . كانت الأبواب كلها تنفتح إذا دفعها. وكانت الأسواق كلها مفتوحة، كأن الناس سيقصدونها بعد برهة . فتذكر أنه كان يتمنى في بعض الأيام، وقت يضيق بثرثرة أهل مدينته، وطلباتهم، ورغباتهم، لو كانت المدينة دون سكانها. ها هي الآن كذلك! فلماذا يشعر بالوحشة؟ لاحظ أنه يمشي وحيداً. اختفى حراسه كما اختفت الرعية! أهربوا خوفاً من الذئاب، أم تسللوا هرباً منه؟ تركوه! ولا مجال الآن لأن يهدد أحداً. لا يستطيع الآن أن يشهر الخوف سلاحاً. لا يستطيع أن يكون ملكاً أو أميراً أو غنياً لأنه في مدينة دون ناس، أكان أولئك الناس راضين أم خائفين، أكانوا سعداء أم أشقياء. اندفع باحثاً عن شعبه. دفع أول باب صادفه، فرأى بيتأ فقيراً، نظيفاً ساكناً. في المطبخ رأى مقعداً عليه طراحة مغطاة بقماش نظيف، لكن الرفوف فيه فارغة، فخرج مسرعاً. في الباحة رأى شجرة ليمون مثمرة .فقال لنفسه: لدى أصحاب البيت إذن ما يؤكل! ولاحظ على البلاط أثر الماء. كل شيء يشير إلى الأحياء، فأين هم؟ في البيت التالي، رأى وهو يقف على عتبة غرفة، أصحاب البيت جالسين. لكنهم لم يتحركوا وهو يتقدم إليهم. ولم يلتفتوا إليه. اقترب ولمسهم، فلم يرتعشوا. شعر ببرودة الحجر تحت أصابعه. فتراجع ذاهلاً، وخرج من البيت. في الطريق الساكن انتبه إلى قطة. اقترب منها ورفع قدمه كمن يهم بأن يرفسها. لم تتحرك. ضرب بقدمه الأرض أمامها فبقيت ساكنة. فاندفع إلى بيت آخر، وفتح الغرف واحدة إثرأخرى. فوجد في إحداها أسرة مجتمعة كأنها تنتظر أمراً. لم يتحرك أحد منها وهو يقترب منها. في البيت الثالث والرابع والخامس تكرر المشهد نفسه: أشخاص جالسون أو واقفون كأنهم يصغون إلى بلاغ مهم أو ينتظرون إعلاناً عن حدث. لكنهم جامدون، ساكنون، بشر من حجر. اجتاحه الغضب. صاح: مؤامرة ! يا للماكرين! لم يجرؤوا على الخلاص منه فخلصوه من أنفسهم . لم يتركهم فتركوه. ثم خطر له أن أعداءه أرسلوا إلى مدينته، في السر، ساحراً أو شريراً انتقم منه فحول رعيته إلى تماثيل من حجر. تلفت. لا أنس ولا جن! آه، ليعترف لنفسه بأن أمنيته كانت أن يتحول سكان مدينته إلى تماثيل تسمع ولا تتكلم، تشتغل ولا تطلب، تحضر ولا تناقش أو تفكر. لكن كيف تحقق ذلك؟! ولماذا تحقق ذلك الآن وهو في حاجة إلى رعية يحشدها لترد قطيع الذئاب! سمع هدير الذئاب! اقتربت اذن! تسلقت الأسوار واندفعت إلى المدينة! لم يغنه حراسه ولم تسعفه أبراجه! صرخ: ياناس، انهضوا! ياناس هجمت الذئاب على مدينتكم! رددت الجبال صراخه. ولكن لم يهرع إليه أحد من سكان مدينته.وتذكر عندئذ أنه أعلن مرات قبل هذا اليوم أن الذئاب تهاجم المدينة. أعلن ذلك يوم انعقد الصراع بينه وبين أولاد عمه على الميراث. ويوم كاد منافسه يحتل قصره. ويوم..ويوم.. فكان الناس يتجمعون تحت برجه، وكل منهم يحمل ماتيسر له، عصاً أو سكيناً أو حجراً. فكان يكسب بهم معاركه ضد منافسيه، والناس يظنون أنه يكسبها ضد الذئاب. كانت المرة الأخيرة التي طلب فيها معونة الناس على الذئاب، يوم شيد مائدة من الأحجار الكريمة، حشد فوقها أنواعاً من الثمار النادرة والأطعمة التي نقلت من بلاد بعيدة، خلال مجاعة اجتاحت مدينته، فتنقل الرسل يروون الأخبار عن ذلك قائلين: أموالكم تهدر وأولادكم يموتون من الجوع! صرخ يومذاك: هجمت الذئاب، فنسي الناس ما قيل لهم، وركضوا لينقذوا المدينة من الذئاب! وقف في وسط الطريق وصرخ: أقسم أن الذئاب تجتاح المدينة الآن! يا ناس، أقسم لكم..! لم تتحرك على ندائه ستارة، ولم يرتجف باب، لم يظهر ولد أو قطة على سطح. لم يخرج إليه أحد! صرخ: النجدة! النجدة، ياناس! فرددت الحارات والأسواق نداءه. في السكون سمع صوت الذئاب. ومع ذلك ظلت حتى الأشجار ساكنة . كان كل شيء في المدينة جامداً حتى الهواء. وعندئذ انتبه إلى أنه الحي الوحيد الآن، وأن الذئاب التي أخاف بها رعيته، يمكن أن تمزقه، فاجتاحه الخوف، الخوف نفسه الذي كان سلاحه ودرعه في مدينته! فتلفت باحثاً عن الجهة التي يمكن ألا تهاجمه منها الذئاب. لكن الأصوات وصلت إليه من الجهات كلها، كأنها تقصده. ثم رآها. وفي برهة خاطفة كالبرق فهم أن رعيته اجتمعت إلى ساحر وطلبت نصيحته كي يخلصها منه ومن الذئاب معاً. كان الحل الذي وجده لها، إذن، أن يحولها إلى صخر بانتظار الزمن المأمول؟ وأن تتركه وحده للذئاب تنهشه؟ ألذلك رأى الناس في وضع من يبحث أمراً أو ينتظر حدثاً عظيماً؟ شعر بغضب هائل، وصرخ: أيتها الذئاب، تعالي! سأدلك إلى جميع المخابىء! وسأبحث لك عن الإكسير الذي خبأه الساحر ليوم الخلاص المنتظر! أيتها الذئاب اتبعيني، أنا الآن راعيك، ودليلك في المدينة المسحورة! سأنبش حتى حجارة الأرض باحثاً عن الأسرار، ولن أسمع بأن يكون الموت الظاهر اليوم موتاً مؤقتاً. بل سأجعله موتاً أبدياً. سأكسر الصخور، وأفرق المجتمعين ولو كانوا تماثيل. سأبدد هذه المدينة في الريح. هيا أيتها الذئاب، أنت وأنا عليها! سأربي هذه الرعية في مرعى ذي أسوار، أفلح ببعضها أرضي وأحصد زرعي، وتتناولين أنت منها لحمها وشحمها! علىهذا النداء حضر حراسه الذي كانوا قد اختفوا كأن الريح بعثرتهم. حضروا كأنهم منتصرون. لم يسألهم الراعي أين كانوا، ولم يسألوه كيف صاحب الذئاب، ولم السؤال وكل منهم يشعر بالأمان. انتهى زمن الخشية من الذئاب، وهاهو ينتقل مع حراسه من جانب المهزومين إلى جانب المنتصرين! لم يستطع أهل المدينة المسحورة أن يدهشوا لأن راعي المدينة دعا الذئاب ووعدهم بالبحث عن إكسير خلاصهم، هو الذي عاش عمره كله يهددهم باجتياح الذئاب، فيطعمونه ويسقونه ويخدمونه في انتظار المعركة المنتظرة التي ستخلص المدينة من الذئاب وتنشر فيها الأمان! لم يستطيعوا أن يدهشوا لأن حراسه الذين عاشوا في أبراجهم المرتفعة كي يكونوا قادرين على رصد قطيع الذئاب في الليل والنهار فيحذروا المدينة منه، ناموا في ليلة المصير، ثم اختفوا ولم يسمعوا إلا نداء الراعي الأخير! لم يدهش أهل المدينة .. لأنهم كانوا من حجر وصخر. وقد غربت الشمس في ذلك اليوم من الشرق، ولاحظت وهي تغرق في العتمة أن على الصخور ندى كالدموع، وقبل أن تتساءل: أيبكي الحجر؟ اجتاحتها العتمة، وسمعت صوت قطيع الذئاب ممزوجاً بهتافات المنتصرين .
تعود أهل المدينة المسحورة أن يملأوا الساحات إذا ناداهم راعي مدينتهم. حتى أدعى الغرباء، من الغيرة، أن أهل تلك المدينة خائفون من راعيها! لم يفهم الغرباء كيف يهرع رجال بإرادتهم على نداء، مسرعين ولو كاد أحدهم يدوس الآخر! وقالوا: اولئك مضبوعون، فالعاقل لا يركض ليرى طرف وجه المحبوب! واستمر ذلك زمناً طويلاً.
حتى نزل المنادون مرة إلى الأسواق، كالعادة، يتقدمهم الطبل والمزمار. ونادوا كالعادة: ياأهل المدينة المسحورة! ونشروا لفافة من جلد الغزال وقرأوا المكتوب فيها. فرددت الأسواق الصامتة نداءهم، ولكن لم يخرج إليهم أحد. ولم يلحقهم ولد. رددت الحارات والجدران نداءهم، ولكن لم تفتح نافذة ولم تتحرك ستارة. حتى سمعوا أصوات خطواتهم كأنها الطبول.
فرجعوا إلى راعي المدينة وأعلنوا له: الأسواق مفتوحة، والبيوت والأشجار والمياه موجودة. الرعية فقط متخلفة!
أيصدقهم؟ كيف يمكن أن يختفي سكان مدينة كاملة في ليلة؟ قال: يعرف زمننا تهجير شعوب وقوميات، واستقدام سكان، وتبديل هويات، لكن لذلك إشارات من قصف أو حرائق أو زلازل أو، على الأقل، مؤتمرات! لم أسمع ولم أر مثل تلك العلامات! أكد له حراسه ما قال: نعم لم نسمع حتى تنفس الطفل. فهل يهاجر أو يهرب سكان مدينة دون أن نسمع على الأقل صوت أقدام؟
وأعلن حراس الأبراج والبوابات أنهم لم يلمحوا في الليلة الماضية مسافراً أو هارباً أو مهاجراً. مر فقط قطيع من الذئاب كأنه قطعة واحدة. رأوه واضحاً، لكن ضبابة غطته بعد ذلك فلم يعرفوا اتجاهه، واجتاحتهم عندئذ رغبة مفاجئة بالنوم فناموا. فلا تسلوهم عن مساره. بوابات السور، على كل حال، مغلقة لن يعبرها الطير الطائر فهل يعبرها قطيع من الذئاب!
قال راعي المدينة: آه! لا يشعر حتى حراس السور بالمسؤولية مثلي! أنا الذي تابعت قطيع الذئاب من برجي الذي يعلو جميع الأبراج، ورأيته يحوم حول المدينة! كنت إذن أكتب النداء إلى رعيتي عندما كانت الرعية والحراس نائمين! ونزل باحثاً عن رعيته.
رأى مدينة غريبة . كانت الأبواب كلها تنفتح إذا دفعها. وكانت الأسواق كلها مفتوحة، كأن الناس سيقصدونها بعد برهة . فتذكر أنه كان يتمنى في بعض الأيام، وقت يضيق بثرثرة أهل مدينته، وطلباتهم، ورغباتهم، لو كانت المدينة دون سكانها. ها هي الآن كذلك! فلماذا يشعر بالوحشة؟ لاحظ أنه يمشي وحيداً. اختفى حراسه كما اختفت الرعية! أهربوا خوفاً من الذئاب، أم تسللوا هرباً منه؟ تركوه! ولا مجال الآن لأن يهدد أحداً. لا يستطيع الآن أن يشهر الخوف سلاحاً. لا يستطيع أن يكون ملكاً أو أميراً أو غنياً لأنه في مدينة دون ناس، أكان أولئك الناس راضين أم خائفين، أكانوا سعداء أم أشقياء.
اندفع باحثاً عن شعبه. دفع أول باب صادفه، فرأى بيتأ فقيراً، نظيفاً ساكناً. في المطبخ رأى مقعداً عليه طراحة مغطاة بقماش نظيف، لكن الرفوف فيه فارغة، فخرج مسرعاً. في الباحة رأى شجرة ليمون مثمرة .فقال لنفسه: لدى أصحاب البيت إذن ما يؤكل! ولاحظ على البلاط أثر الماء. كل شيء يشير إلى الأحياء، فأين هم؟ في البيت التالي، رأى وهو يقف على عتبة غرفة، أصحاب البيت جالسين. لكنهم لم يتحركوا وهو يتقدم إليهم. ولم يلتفتوا إليه. اقترب ولمسهم، فلم يرتعشوا. شعر ببرودة الحجر تحت أصابعه. فتراجع ذاهلاً، وخرج من البيت. في الطريق الساكن انتبه إلى قطة. اقترب منها ورفع قدمه كمن يهم بأن يرفسها. لم تتحرك. ضرب بقدمه الأرض أمامها فبقيت ساكنة. فاندفع إلى بيت آخر، وفتح الغرف واحدة إثرأخرى. فوجد في إحداها أسرة مجتمعة كأنها تنتظر أمراً. لم يتحرك أحد منها وهو يقترب منها. في البيت الثالث والرابع والخامس تكرر المشهد نفسه: أشخاص جالسون أو واقفون كأنهم يصغون إلى بلاغ مهم أو ينتظرون إعلاناً عن حدث. لكنهم جامدون، ساكنون، بشر من حجر.
اجتاحه الغضب. صاح: مؤامرة ! يا للماكرين! لم يجرؤوا على الخلاص منه فخلصوه من أنفسهم . لم يتركهم فتركوه. ثم خطر له أن أعداءه أرسلوا إلى مدينته، في السر، ساحراً أو شريراً انتقم منه فحول رعيته إلى تماثيل من حجر. تلفت. لا أنس ولا جن! آه، ليعترف لنفسه بأن أمنيته كانت أن يتحول سكان مدينته إلى تماثيل تسمع ولا تتكلم، تشتغل ولا تطلب، تحضر ولا تناقش أو تفكر. لكن كيف تحقق ذلك؟! ولماذا تحقق ذلك الآن وهو في حاجة إلى رعية يحشدها لترد قطيع الذئاب!
سمع هدير الذئاب! اقتربت اذن! تسلقت الأسوار واندفعت إلى المدينة! لم يغنه حراسه ولم تسعفه أبراجه! صرخ: ياناس، انهضوا! ياناس هجمت الذئاب على مدينتكم! رددت الجبال صراخه. ولكن لم يهرع إليه أحد من سكان مدينته.وتذكر عندئذ أنه أعلن مرات قبل هذا اليوم أن الذئاب تهاجم المدينة. أعلن ذلك يوم انعقد الصراع بينه وبين أولاد عمه على الميراث. ويوم كاد منافسه يحتل قصره. ويوم..ويوم.. فكان الناس يتجمعون تحت برجه، وكل منهم يحمل ماتيسر له، عصاً أو سكيناً أو حجراً. فكان يكسب بهم معاركه ضد منافسيه، والناس يظنون أنه يكسبها ضد الذئاب. كانت المرة الأخيرة التي طلب فيها معونة الناس على الذئاب، يوم شيد مائدة من الأحجار الكريمة، حشد فوقها أنواعاً من الثمار النادرة والأطعمة التي نقلت من بلاد بعيدة، خلال مجاعة اجتاحت مدينته، فتنقل الرسل يروون الأخبار عن ذلك قائلين: أموالكم تهدر وأولادكم يموتون من الجوع! صرخ يومذاك: هجمت الذئاب، فنسي الناس ما قيل لهم، وركضوا لينقذوا المدينة من الذئاب!
وقف في وسط الطريق وصرخ: أقسم أن الذئاب تجتاح المدينة الآن! يا ناس، أقسم لكم..! لم تتحرك على ندائه ستارة، ولم يرتجف باب، لم يظهر ولد أو قطة على سطح. لم يخرج إليه أحد! صرخ: النجدة! النجدة، ياناس! فرددت الحارات والأسواق نداءه. في السكون سمع صوت الذئاب. ومع ذلك ظلت حتى الأشجار ساكنة . كان كل شيء في المدينة جامداً حتى الهواء.
وعندئذ انتبه إلى أنه الحي الوحيد الآن، وأن الذئاب التي أخاف بها رعيته، يمكن أن تمزقه، فاجتاحه الخوف، الخوف نفسه الذي كان سلاحه ودرعه في مدينته! فتلفت باحثاً عن الجهة التي يمكن ألا تهاجمه منها الذئاب. لكن الأصوات وصلت إليه من الجهات كلها، كأنها تقصده. ثم رآها. وفي برهة خاطفة كالبرق فهم أن رعيته اجتمعت إلى ساحر وطلبت نصيحته كي يخلصها منه ومن الذئاب معاً.
كان الحل الذي وجده لها، إذن، أن يحولها إلى صخر بانتظار الزمن المأمول؟ وأن تتركه وحده للذئاب تنهشه؟ ألذلك رأى الناس في وضع من يبحث أمراً أو ينتظر حدثاً عظيماً؟
شعر بغضب هائل، وصرخ: أيتها الذئاب، تعالي! سأدلك إلى جميع المخابىء! وسأبحث لك عن الإكسير الذي خبأه الساحر ليوم الخلاص المنتظر! أيتها الذئاب اتبعيني، أنا الآن راعيك، ودليلك في المدينة المسحورة! سأنبش حتى حجارة الأرض باحثاً عن الأسرار، ولن أسمع بأن يكون الموت الظاهر اليوم موتاً مؤقتاً. بل سأجعله موتاً أبدياً. سأكسر الصخور، وأفرق المجتمعين ولو كانوا تماثيل. سأبدد هذه المدينة في الريح. هيا أيتها الذئاب، أنت وأنا عليها! سأربي هذه الرعية في مرعى ذي أسوار، أفلح ببعضها أرضي وأحصد زرعي، وتتناولين أنت منها لحمها وشحمها!
علىهذا النداء حضر حراسه الذي كانوا قد اختفوا كأن الريح بعثرتهم. حضروا كأنهم منتصرون. لم يسألهم الراعي أين كانوا، ولم يسألوه كيف صاحب الذئاب، ولم السؤال وكل منهم يشعر بالأمان. انتهى زمن الخشية من الذئاب، وهاهو ينتقل مع حراسه من جانب المهزومين إلى جانب المنتصرين!
لم يستطع أهل المدينة المسحورة أن يدهشوا لأن راعي المدينة دعا الذئاب ووعدهم بالبحث عن إكسير خلاصهم، هو الذي عاش عمره كله يهددهم باجتياح الذئاب، فيطعمونه ويسقونه ويخدمونه في انتظار المعركة المنتظرة التي ستخلص المدينة من الذئاب وتنشر فيها الأمان! لم يستطيعوا أن يدهشوا لأن حراسه الذين عاشوا في أبراجهم المرتفعة كي يكونوا قادرين على رصد قطيع الذئاب في الليل والنهار فيحذروا المدينة منه، ناموا في ليلة المصير، ثم اختفوا ولم يسمعوا إلا نداء الراعي الأخير! لم يدهش أهل المدينة .. لأنهم كانوا من حجر وصخر. وقد غربت الشمس في ذلك اليوم من الشرق، ولاحظت وهي تغرق في العتمة أن على الصخور ندى كالدموع، وقبل أن تتساءل: أيبكي الحجر؟ اجتاحتها العتمة، وسمعت صوت قطيع الذئاب ممزوجاً بهتافات المنتصرين .