تغفو الأشجار في الليل، تهجع العصافير، تتدثر الجبال بالعتمة. تنام. إلا هو! محرم عليه أن ينام! كيف ينام وهذه، كما يبدو، أسوأ الأيام! يقول: جن الناس! نعم، يقول: الناس! مع أن علاقته بالفقراء تختلف عن علاقته بالأغنياء. يقول: الناس، لأن أبسط رجل في الرعية لم يعد كما كان. من الغضب، من الغبن، من اليأس صار كل منهم يهمس: ألايعيش القانون إلا اذا التزمت أنا به؟! فلان يخترق صدره وفلان يفتت كبده، وفلان يأكل قطعة من قلبه. ومع ذلك لايموت إلا اذا قصصت أنا قطعة قدر الكف من ذيل ثوبه؟! طوال دهور ظل القانون ساهرا ليمسك بيد قاتل قبل أن ينزل سكينه، وبسارق قبل أن يسطو. كان يهدئ الفقراء قبل أن يندفعوا إلى جريمة. ويردع الأشرار قبل أن يستمتعوا بالإثم. كان يفلت منه كثيرون فيقتلون ويسرقون. فيجلس تحت قوسه، ويمسك بميزانه، ويضع الذنب في كفة، وفي الكفة الأخرى يضع الرحمة والعدل معا. ويقرأ ضمير المذنب وضمير البريء، معا. يعرف أنه غش وغرر به! رأى الضعفاء يقبلون بقروش أن يتحملوا جرائم المجرمين! ورأى الأبرياء يسترون السارقين كي يحفظوا وظائفهم ورواتبهم! رأى الخوف على الرضيع والطفل والبنت! ومع ذلك كان يحكم مضطرا حكما ظالما على بريء اعترف "بجرم" لم يقترفه. آه، لو قدر له يوما أن يكتب مذكراته لروى كيف هرب مجرمون حكم عليهم قبل أن يصلوا إلى السجن! وكيف وضعت أمامه أوراق ملفقة لكنها موقعة ومدموغة لايستطيع إلا الاعتراف بها! وكيف تبين أن الحرائق افتعلت كي تمحو الأدلة على السارقين، فجعلت رمادا أطنانا من الخشب وقت كان الطالب يتمنى رفا يضع عليه كتبه، أو طاولة يدرس عليها. والفقير يتمنى "نملية" يحمي بها خبزه وجبنه من القطط! احترقت أطنان من الرز والسكر والفقراء يراقبون في كمد حريقها! رغم كل مارأى، قدر له ألا يشيب، وألا يهرم، وألا يضعف. قدر له أن يبقى مستقيم العود بثوبه الأسود العريض، وياقته المرتفعه، ووجهه الأبيض السمح الذي لاتمسه غضون، وشعره الفاحم. وقدر له ألا يشعر بما يشعر به الأحياء من عطش وجوع ووهن ونعاس! فاتصلت حوله الدهور، وهو جالس تحت قوسه الذهبي، وبيده الميزان. تعبره نسمات الشتاء وحر الصيف، يبيضّ أمامه الأفق البعيد ببعض الثلوج أو ضوء الصباح، ولايلاحظ أن الناس عبروا حقبة أو قرنا من الزمان إلا عندما ينتبه إلى أنهم بدّلوا زيهم وغطاء رؤوسهم. لكنه في هذه الأيام يتبين مالاحظه في الناس على عتبات قرون الزمان. وقت كانوا يصابون بالذعر أو الجنون، فيندفعون إلى نهش الحياة كأن القيامة غدا! يبدل الأغنياء ملابسهم وبيوتهم وزوجاتهم وأصدقاءهم، ويندفع الفقراء في أحلام يرون أنفسهم فيها كالأغنياء! كان القانون يفكر في أمور الناس، ويلمس القضايا التي تراكمت أمامه وفي كل منها مايخجل الإنسان من الاعتراف ببعضه. ومع ذلك أعلن أصحابها شهادات الزور، واعتدوا على الأخ والضعيف والمرأة والعجوز. سرقوا أهلهم وأصدقاءهم، خطفوا قوت الفقير والعاجز. في الملفات أمامه شهادات على رشوة القضاة، ورجال الحدود، وعلى سرقة أسئلة الامتحانات وشروط المناقصات وأسرار المسابقات. أكوام من الأموال أنفقت كي تفسد الضمائر والبلاد، أموال مهدورة اشترت مالايلزم، واستبعدت مايلزم البلاد. حسابات سرية في البنوك من أموال البلاد المسروقة. بيوت تديرها الشرطة، تؤجر فيها الفتيات وتقدم فيها المخدرات، والحراس واقفون على البوابات. لديه شكاوى تفرم القلب من الألم، وطلبات نجدة، ونداءات استغاثة! وماذا يعدّ مما تراكم في رفوف قاعته الواسعة؟! كان القانون يفكر في ذلك عندما شعر برغبة في النوم تشبه الغيبوبة. تلفت وفحص ماحوله لعله يتبين سبب ذلك الدوار. كان القوس الذهبي الذي جلس تحته دهورا مايزال في مكانه. لكن السماء خلفه بدت كأنها تتحرك. فهل هذا دوار أم رغبة في غفوة قصيرة؟ تذكر أنه فحص مرة حالة فتاة سقطت في النوم كأنها تسقط في بئر. لم تكن راغبة فيه. ولم يسقها أحد مخدرا. لكنها ألقت فيه بنفسها كي تهرب من إثم تخاف أن تراه. خوفا من أن تشهد جريمة لاتستطيع أن تمنعها. خوفا من أن تكون شاهدة زور لاتستطيع أن تبوح بالحقيقة. فهل هو الآن ضعيف عاجز مثل تلك الفتاة؟ كان آخر ماوزنه بميزانه مقتل شابتين. واحدة قصد الفتى صاحب السيارة أن يغازلها فلحقها على الرصيف بسيارته فدعسها. وصديقتها. كانت القضية واضحة، والمعلومات تبين أن الفتاة كانت تهرب من ذلك الفتى وتستغلظه، لكنه كان مدللا لايفهم أن فتاة يمكن أن ترفضه! أدى الشهود شهاداتهم. فكيف يقبل هو، القانون المهيب، اعتراف سائق أتي به ليعترف بأنه كان، هو، يقود السيارة؟ قلب الأوراق بين يديه وقال: هذا الرجل هو سائق الأب فمن الذي دفعه الى الاعتراف بأنه قاتل الفتاتين؟! ارتكب الأب ذنبين: الأول أنه أفسد ابنه. والثاني أنه يعلمه الهرب من الحساب! هاتوا الأب الى التحقيق! أصدر القانون المهيب أمره إلى شرطيين واقفين أمامه. فنظر كل منهما إلى الآخر، وابتسما! أصدر القانون أمره مرة ثانية، لكن الشرطيين لم يتحركا. ولاحظ القانون أن أحدهما غمز بعينه الآخر. فهل شعر القانون عندئذ بالدوار؟ أرخى يده وترك الميزان على الطاولة، وضع رأسه على كفيه، وأغمض عينيه. لعله كان متوترا! لعله شعر بخفقان في قلبه! وبعد ذلك شعر برغبة في النوم! هل النعاس الذي اجتاحه رغبة في الهرب مما رآه؟ هل هو غيبوبة أم هرب من اليأس؟ كانت غفوته كحفرة سوداء عميقة، ليس فيها ومض أحلام، وليس فيها مذاق النوم اللذيذ. في البرهة التي غفا فيها القانون تفتحت الأحلام في المدينة التي يطل عليها قوسه الذهبي. اجتاحتها حركة بناء، حركة سير، حركة إقلاع طائرات وهبوط طائرات. تدفق زوار ورحل رجال أعمال، حطت جميع الأحلام في مخططات. طرد القمر من البلاد، وطرد النسيم والحب والصداقة والإخلاص والوفاء. واكتشف الناس أمورا مهمة تلمس وتأكل وتلبس وتمتطى. ورأوا في أنفسهم مالم يتوقعوه. وكان الأغنياء في مقدمة ذلك البحث، وخلفهم الفقراء يحاولون أن يتبعوهم، فيسقط بعضهم تحت أقدام المسرعين، لكن بعضهم يتقدم الجمع ويصبح في الطليعة. وحول المسرعين كان أشهر الشعراء وأشهر الكتاب ينشد للمتسابقين ويثير الحماسة فيهم ويصور لهم أيام الرخاء العظيم. استمرت غيبوبة القانون زمنا. لكن من زار تلك المدينة ماكان ليتصور أن مثل تلك الإصلاحات والتغيرات تحدث في مثل ذلك الوقت القصير. فكان مضطرا إلى خلع بعض نظرياته في الحياة واعتماد أخرى واقعية. منها أن القرار يمكن أن يخلق طبقة ذات ذوق ورغبات وقوة وأحلام. وأن الفكرة يمكن أن تنبت الأرض المناسبة لها. ومنها أن الحياة إذا ضاقت بالأحلام الكبيرة، اتسعت لصغارها! في سرعة كسرعة الضوء حفرت الأحلام مساراتها وتدفقت فيها. وأصبح كل مافي تلك المدينة يوحي بالعظمة. رفعت بوابات عالية تفنن الناس في ابتكار ارتفاعاتها وزخارفها. اقتلعت واجهات البيوت ورصفت بالمرمر. اقتلعت الأشجار وغرست مكانها أبنية عالية. حدث ذلك في سرعة لأن شيخ كل حارة جمع رجاله وقال لهم: افعلوا مايريحكم! فانشغل كل منهم بخطف الأرض القريبة منه، والحديقة التي تجاوره، والرصيف الذي يطل عليه. فأكل كل واحد من الناس بمقدار قوة أسنانه وذراعيه. وبنيت قصور وغرف بسيطة وشرفات وأكواخ. واختفت جبال وأنهار وغابات وحدائق وشواطئ، وصغرت حتى رقعة السماء. فحيث كان الرجل يعجز عن رد جاره الذي يأكل شمسه وهواءه، كان يبحث عن جهة يأكل هو فيها شمس وهواء الآخرين. وفي تلك المدة القصيرة صنعت ملابس براقة من أقمشة تذوب اذا لامستها الشمس، ورصعت صدور ثياب الرجال والنساء بالخرز والحلي والزجاج البراق، وابتكرت أرائك ضخمة يصغر الجالس فيها، وأطعمة زاهية نصح صانعوها أهلهم بأن يتفادوها كيلا يصابوا بالأمراض، وأنواع من الشراب ملونة بالصباغات ذات أسماء رنانة، واستوردت مركبات عجيبة الأشكال، وأنشئت شرفات دوارة ومطاعم دوارة وأبراج دوارة تطل على أبراج. ولم تغضب تلك الألوان الصاخبة والأنوار المتوهجة الجياع في تلك المدينة، بل رتقوا ملابسهم ليظهروا في أحسن حال، وبحثوا عن قطعة من طريق توصلهم الى مشروع ما، ولو كان صبغ الخروق لتقدم كشرائط زاهية للاحتفالات. بل عرفت حتى حاويات القمامة مشروعا يمد منها الازدهار. فسمى الباحثون زمن غيبوبة القانون زمن الصحو والإعمار والرفاه. وأضافوا إلى تلك الصفات فيما بعد: الأمان. في ذلك الزمن المليء بالحركة مشت فتاة تبحث عن طريق توصلها إلى بوابة تتسلل منها هاربة من البلاد والزمان. يامسكينة، إلى أين؟ الطرقات فقط لمن يسعى إلى مشروع ما! وبمثل مشيتك لايسعى أحد إلى منفعة! لا! يجب أن يكونوا حذرين! إلى أين يافتاة؟ ماذا تقصدين؟ آه، يخشون أن تكون اكتشفت مشروعا سريا لايعرفونه بعد، اتفاقا مع شركة استثمارية خطفته! أو لعلها مكلفة بالبحث عن سمسار له! تخاف أن تعترف بالحقيقة! لحقوها، فركضت هاربة. التقطوها: قولي إلى أين؟ من أرسلك؟ مع من اتفقت؟ اعترفي، الصفقة كم؟ من وراء ظهورنا ولكل جهة مرجع في الإتفاقات؟! تلاعب وغدر! عندئذ صرخت الفتاة: النجدة أيها القانون! نادت القانون الذي أنقذها ذات يوم من الشبهة ومن الدليل، والتقط في ضميرها الصدق وعرف الحقيقة! صرخت: النجدة أيها القانون! فذهل الرجال. هذه الفتاة من زمن مضى فكيف وصلت إلى هذا الزمن؟ في أي عصر ضلت الطريق؟ مسكينة، تنادي الميت لينقذ الحي! أحاط بها الرجال وتفرجوا عليها كمن يتفرج على حيوان منقرض. ضحكوا، ثم قال أحدهم: اتركوها! هي الوحيدة في هذه البلاد، في هذا الزمان، التي لاتعرف أن القانون في غيبوبة! ذلك دليل غربتها أو جنونها أو غبائها! دعوها! وأنت يابنت، إلى أين ترحلين؟ آه، تخاف أن تقول أبحث عن بوابة لأهرب من البلاد، من الزمان! قالت: أريد أن أخرج من المدينة! ضحك رجل: مسكينة! لاتعرفين أيضا أن البلاد كلها اليوم سواء؟! ولذلك لاتوجد طرقات إلا للساعين الى الأرزاق! أمامك بلاد وحيدة فقط تستقبل.. الأبرياء! ورفع رأسه إلى السماء. فأطرقت الفتاة. قالت راجية: دلوني إذن الى مأوى القانون، أريد أن أودعه قبل الرحيل! أشار الرجال إلى أرض مهجورة نبت حولها الشوك: هناك! مايزال تحت القوس الذهبي في غيبوبة منذ دهر طويل! لن يسمعك ولن يراك، ومع ذلك لن نمنعك من القيام بواجبك الأخير! مشت الفتاة مسرعة إلى القوس الذهبي. فرأت مكانا كأسطورة ممزقة، ووجدت القانون غافيا والميزان على الطاولة. انحنت عليه في حنان، ولمست ميزانه المهمل. ياللعجب، في سرعة تراكم الغبار عليه؟! لمست شعره وانسكبت من عينيها دموع على وجنتيه الشاحبتين. وعندئذ فتح عينيه. رآها فتذكر الفتاة التي أنقذها. وفهم أنها تبكي عليه. وعرف أنه غفا زمنا، من اليأس أو من التعب أو من العجز. لمست الفتاة شعره، كما تلمس شعر طفل صغير. ففي تلك البرهة فهمت أنه هو المهيب الجليل الشاب أبدا أصبح مهملا، لاحاجة لأحد به، ولارغبة لأحد به. قالت له: انهض، انهض! لاقيمة له الآن، لكنها مع ذلك تخاف عليه. خلال غيبوبته فك أهل المدينة الزخارف من القوس الذهبي الذي جلس تحته دهورا! سيخطر لهم أن مهابته من معالم المدينة التي يجمعون من السياح ثمن زيارتها. سينظمون لجانا وشركات لترميم قوسه الذهبي وتلميع ميزانه، ويرفعون الفنادق حوله، وينظمون الزيارات إليه! قالت له: أسرع! ونزعت عنه ثوبه الأسود، وألبسته بعض ثيابها، ولفت رأسه بمنديلها. وبدءآ يغوصان في غمامة شفافة. لم يسألها: لماذا؟ لأنه وهو يبتعد رأى الناس يردمون البحر ويقصون الجبال ويدفنون الأنهار ويقطعون الأشجار، ينهشون الحياة قبل أن ينهش أحدهم الآخر. فأمسك بيد الفتاة، واستدارا إلى مملكة الصمت.
تغفو الأشجار في الليل، تهجع العصافير، تتدثر الجبال بالعتمة. تنام. إلا هو! محرم عليه أن ينام! كيف ينام وهذه، كما يبدو، أسوأ الأيام! يقول: جن الناس! نعم، يقول: الناس! مع أن علاقته بالفقراء تختلف عن علاقته بالأغنياء. يقول: الناس، لأن أبسط رجل في الرعية لم يعد كما كان. من الغضب، من الغبن، من اليأس صار كل منهم يهمس: ألايعيش القانون إلا اذا التزمت أنا به؟! فلان يخترق صدره وفلان يفتت كبده، وفلان يأكل قطعة من قلبه. ومع ذلك لايموت إلا اذا قصصت أنا قطعة قدر الكف من ذيل ثوبه؟!
طوال دهور ظل القانون ساهرا ليمسك بيد قاتل قبل أن ينزل سكينه، وبسارق قبل أن يسطو. كان يهدئ الفقراء قبل أن يندفعوا إلى جريمة. ويردع الأشرار قبل أن يستمتعوا بالإثم. كان يفلت منه كثيرون فيقتلون ويسرقون. فيجلس تحت قوسه، ويمسك بميزانه، ويضع الذنب في كفة، وفي الكفة الأخرى يضع الرحمة والعدل معا. ويقرأ ضمير المذنب وضمير البريء، معا. يعرف أنه غش وغرر به! رأى الضعفاء يقبلون بقروش أن يتحملوا جرائم المجرمين! ورأى الأبرياء يسترون السارقين كي يحفظوا وظائفهم ورواتبهم! رأى الخوف على الرضيع والطفل والبنت! ومع ذلك كان يحكم مضطرا حكما ظالما على بريء اعترف "بجرم" لم يقترفه. آه، لو قدر له يوما أن يكتب مذكراته لروى كيف هرب مجرمون حكم عليهم قبل أن يصلوا إلى السجن! وكيف وضعت أمامه أوراق ملفقة لكنها موقعة ومدموغة لايستطيع إلا الاعتراف بها! وكيف تبين أن الحرائق افتعلت كي تمحو الأدلة على السارقين، فجعلت رمادا أطنانا من الخشب وقت كان الطالب يتمنى رفا يضع عليه كتبه، أو طاولة يدرس عليها. والفقير يتمنى "نملية" يحمي بها خبزه وجبنه من القطط! احترقت أطنان من الرز والسكر والفقراء يراقبون في كمد حريقها!
رغم كل مارأى، قدر له ألا يشيب، وألا يهرم، وألا يضعف. قدر له أن يبقى مستقيم العود بثوبه الأسود العريض، وياقته المرتفعه، ووجهه الأبيض السمح الذي لاتمسه غضون، وشعره الفاحم. وقدر له ألا يشعر بما يشعر به الأحياء من عطش وجوع ووهن ونعاس! فاتصلت حوله الدهور، وهو جالس تحت قوسه الذهبي، وبيده الميزان. تعبره نسمات الشتاء وحر الصيف، يبيضّ أمامه الأفق البعيد ببعض الثلوج أو ضوء الصباح، ولايلاحظ أن الناس عبروا حقبة أو قرنا من الزمان إلا عندما ينتبه إلى أنهم بدّلوا زيهم وغطاء رؤوسهم.
لكنه في هذه الأيام يتبين مالاحظه في الناس على عتبات قرون الزمان. وقت كانوا يصابون بالذعر أو الجنون، فيندفعون إلى نهش الحياة كأن القيامة غدا! يبدل الأغنياء ملابسهم وبيوتهم وزوجاتهم وأصدقاءهم، ويندفع الفقراء في أحلام يرون أنفسهم فيها كالأغنياء!
كان القانون يفكر في أمور الناس، ويلمس القضايا التي تراكمت أمامه وفي كل منها مايخجل الإنسان من الاعتراف ببعضه. ومع ذلك أعلن أصحابها شهادات الزور، واعتدوا على الأخ والضعيف والمرأة والعجوز. سرقوا أهلهم وأصدقاءهم، خطفوا قوت الفقير والعاجز. في الملفات أمامه شهادات على رشوة القضاة، ورجال الحدود، وعلى سرقة أسئلة الامتحانات وشروط المناقصات وأسرار المسابقات. أكوام من الأموال أنفقت كي تفسد الضمائر والبلاد، أموال مهدورة اشترت مالايلزم، واستبعدت مايلزم البلاد. حسابات سرية في البنوك من أموال البلاد المسروقة. بيوت تديرها الشرطة، تؤجر فيها الفتيات وتقدم فيها المخدرات، والحراس واقفون على البوابات. لديه شكاوى تفرم القلب من الألم، وطلبات نجدة، ونداءات استغاثة! وماذا يعدّ مما تراكم في رفوف قاعته الواسعة؟!
كان القانون يفكر في ذلك عندما شعر برغبة في النوم تشبه الغيبوبة. تلفت وفحص ماحوله لعله يتبين سبب ذلك الدوار. كان القوس الذهبي الذي جلس تحته دهورا مايزال في مكانه. لكن السماء خلفه بدت كأنها تتحرك. فهل هذا دوار أم رغبة في غفوة قصيرة؟ تذكر أنه فحص مرة حالة فتاة سقطت في النوم كأنها تسقط في بئر. لم تكن راغبة فيه. ولم يسقها أحد مخدرا. لكنها ألقت فيه بنفسها كي تهرب من إثم تخاف أن تراه. خوفا من أن تشهد جريمة لاتستطيع أن تمنعها. خوفا من أن تكون شاهدة زور لاتستطيع أن تبوح بالحقيقة. فهل هو الآن ضعيف عاجز مثل تلك الفتاة؟ كان آخر ماوزنه بميزانه مقتل شابتين. واحدة قصد الفتى صاحب السيارة أن يغازلها فلحقها على الرصيف بسيارته فدعسها. وصديقتها. كانت القضية واضحة، والمعلومات تبين أن الفتاة كانت تهرب من ذلك الفتى وتستغلظه، لكنه كان مدللا لايفهم أن فتاة يمكن أن ترفضه! أدى الشهود شهاداتهم. فكيف يقبل هو، القانون المهيب، اعتراف سائق أتي به ليعترف بأنه كان، هو، يقود السيارة؟ قلب الأوراق بين يديه وقال: هذا الرجل هو سائق الأب فمن الذي دفعه الى الاعتراف بأنه قاتل الفتاتين؟! ارتكب الأب ذنبين: الأول أنه أفسد ابنه. والثاني أنه يعلمه الهرب من الحساب! هاتوا الأب الى التحقيق! أصدر القانون المهيب أمره إلى شرطيين واقفين أمامه. فنظر كل منهما إلى الآخر، وابتسما! أصدر القانون أمره مرة ثانية، لكن الشرطيين لم يتحركا. ولاحظ القانون أن أحدهما غمز بعينه الآخر.
فهل شعر القانون عندئذ بالدوار؟ أرخى يده وترك الميزان على الطاولة، وضع رأسه على كفيه، وأغمض عينيه. لعله كان متوترا! لعله شعر بخفقان في قلبه! وبعد ذلك شعر برغبة في النوم! هل النعاس الذي اجتاحه رغبة في الهرب مما رآه؟ هل هو غيبوبة أم هرب من اليأس؟ كانت غفوته كحفرة سوداء عميقة، ليس فيها ومض أحلام، وليس فيها مذاق النوم اللذيذ.
في البرهة التي غفا فيها القانون تفتحت الأحلام في المدينة التي يطل عليها قوسه الذهبي. اجتاحتها حركة بناء، حركة سير، حركة إقلاع طائرات وهبوط طائرات. تدفق زوار ورحل رجال أعمال، حطت جميع الأحلام في مخططات. طرد القمر من البلاد، وطرد النسيم والحب والصداقة والإخلاص والوفاء. واكتشف الناس أمورا مهمة تلمس وتأكل وتلبس وتمتطى. ورأوا في أنفسهم مالم يتوقعوه. وكان الأغنياء في مقدمة ذلك البحث، وخلفهم الفقراء يحاولون أن يتبعوهم، فيسقط بعضهم تحت أقدام المسرعين، لكن بعضهم يتقدم الجمع ويصبح في الطليعة. وحول المسرعين كان أشهر الشعراء وأشهر الكتاب ينشد للمتسابقين ويثير الحماسة فيهم ويصور لهم أيام الرخاء العظيم.
استمرت غيبوبة القانون زمنا. لكن من زار تلك المدينة ماكان ليتصور أن مثل تلك الإصلاحات والتغيرات تحدث في مثل ذلك الوقت القصير. فكان مضطرا إلى خلع بعض نظرياته في الحياة واعتماد أخرى واقعية. منها أن القرار يمكن أن يخلق طبقة ذات ذوق ورغبات وقوة وأحلام. وأن الفكرة يمكن أن تنبت الأرض المناسبة لها. ومنها أن الحياة إذا ضاقت بالأحلام الكبيرة، اتسعت لصغارها!
في سرعة كسرعة الضوء حفرت الأحلام مساراتها وتدفقت فيها. وأصبح كل مافي تلك المدينة يوحي بالعظمة. رفعت بوابات عالية تفنن الناس في ابتكار ارتفاعاتها وزخارفها. اقتلعت واجهات البيوت ورصفت بالمرمر. اقتلعت الأشجار وغرست مكانها أبنية عالية. حدث ذلك في سرعة لأن شيخ كل حارة جمع رجاله وقال لهم: افعلوا مايريحكم! فانشغل كل منهم بخطف الأرض القريبة منه، والحديقة التي تجاوره، والرصيف الذي يطل عليه. فأكل كل واحد من الناس بمقدار قوة أسنانه وذراعيه. وبنيت قصور وغرف بسيطة وشرفات وأكواخ. واختفت جبال وأنهار وغابات وحدائق وشواطئ، وصغرت حتى رقعة السماء. فحيث كان الرجل يعجز عن رد جاره الذي يأكل شمسه وهواءه، كان يبحث عن جهة يأكل هو فيها شمس وهواء الآخرين.
وفي تلك المدة القصيرة صنعت ملابس براقة من أقمشة تذوب اذا لامستها الشمس، ورصعت صدور ثياب الرجال والنساء بالخرز والحلي والزجاج البراق، وابتكرت أرائك ضخمة يصغر الجالس فيها، وأطعمة زاهية نصح صانعوها أهلهم بأن يتفادوها كيلا يصابوا بالأمراض، وأنواع من الشراب ملونة بالصباغات ذات أسماء رنانة، واستوردت مركبات عجيبة الأشكال، وأنشئت شرفات دوارة ومطاعم دوارة وأبراج دوارة تطل على أبراج. ولم تغضب تلك الألوان الصاخبة والأنوار المتوهجة الجياع في تلك المدينة، بل رتقوا ملابسهم ليظهروا في أحسن حال، وبحثوا عن قطعة من طريق توصلهم الى مشروع ما، ولو كان صبغ الخروق لتقدم كشرائط زاهية للاحتفالات. بل عرفت حتى حاويات القمامة مشروعا يمد منها الازدهار. فسمى الباحثون زمن غيبوبة القانون زمن الصحو والإعمار والرفاه. وأضافوا إلى تلك الصفات فيما بعد: الأمان.
في ذلك الزمن المليء بالحركة مشت فتاة تبحث عن طريق توصلها إلى بوابة تتسلل منها هاربة من البلاد والزمان. يامسكينة، إلى أين؟ الطرقات فقط لمن يسعى إلى مشروع ما! وبمثل مشيتك لايسعى أحد إلى منفعة! لا! يجب أن يكونوا حذرين! إلى أين يافتاة؟ ماذا تقصدين؟ آه، يخشون أن تكون اكتشفت مشروعا سريا لايعرفونه بعد، اتفاقا مع شركة استثمارية خطفته! أو لعلها مكلفة بالبحث عن سمسار له! تخاف أن تعترف بالحقيقة! لحقوها، فركضت هاربة. التقطوها: قولي إلى أين؟ من أرسلك؟ مع من اتفقت؟ اعترفي، الصفقة كم؟ من وراء ظهورنا ولكل جهة مرجع في الإتفاقات؟! تلاعب وغدر! عندئذ صرخت الفتاة: النجدة أيها القانون! نادت القانون الذي أنقذها ذات يوم من الشبهة ومن الدليل، والتقط في ضميرها الصدق وعرف الحقيقة! صرخت: النجدة أيها القانون! فذهل الرجال. هذه الفتاة من زمن مضى فكيف وصلت إلى هذا الزمن؟ في أي عصر ضلت الطريق؟ مسكينة، تنادي الميت لينقذ الحي! أحاط بها الرجال وتفرجوا عليها كمن يتفرج على حيوان منقرض. ضحكوا، ثم قال أحدهم: اتركوها! هي الوحيدة في هذه البلاد، في هذا الزمان، التي لاتعرف أن القانون في غيبوبة! ذلك دليل غربتها أو جنونها أو غبائها! دعوها! وأنت يابنت، إلى أين ترحلين؟ آه، تخاف أن تقول أبحث عن بوابة لأهرب من البلاد، من الزمان! قالت: أريد أن أخرج من المدينة! ضحك رجل: مسكينة! لاتعرفين أيضا أن البلاد كلها اليوم سواء؟! ولذلك لاتوجد طرقات إلا للساعين الى الأرزاق! أمامك بلاد وحيدة فقط تستقبل.. الأبرياء! ورفع رأسه إلى السماء. فأطرقت الفتاة. قالت راجية: دلوني إذن الى مأوى القانون، أريد أن أودعه قبل الرحيل! أشار الرجال إلى أرض مهجورة نبت حولها الشوك: هناك! مايزال تحت القوس الذهبي في غيبوبة منذ دهر طويل! لن يسمعك ولن يراك، ومع ذلك لن نمنعك من القيام بواجبك الأخير!
مشت الفتاة مسرعة إلى القوس الذهبي. فرأت مكانا كأسطورة ممزقة، ووجدت القانون غافيا والميزان على الطاولة. انحنت عليه في حنان، ولمست ميزانه المهمل. ياللعجب، في سرعة تراكم الغبار عليه؟! لمست شعره وانسكبت من عينيها دموع على وجنتيه الشاحبتين. وعندئذ فتح عينيه. رآها فتذكر الفتاة التي أنقذها. وفهم أنها تبكي عليه. وعرف أنه غفا زمنا، من اليأس أو من التعب أو من العجز. لمست الفتاة شعره، كما تلمس شعر طفل صغير. ففي تلك البرهة فهمت أنه هو المهيب الجليل الشاب أبدا أصبح مهملا، لاحاجة لأحد به، ولارغبة لأحد به. قالت له: انهض، انهض! لاقيمة له الآن، لكنها مع ذلك تخاف عليه. خلال غيبوبته فك أهل المدينة الزخارف من القوس الذهبي الذي جلس تحته دهورا! سيخطر لهم أن مهابته من معالم المدينة التي يجمعون من السياح ثمن زيارتها. سينظمون لجانا وشركات لترميم قوسه الذهبي وتلميع ميزانه، ويرفعون الفنادق حوله، وينظمون الزيارات إليه! قالت له: أسرع! ونزعت عنه ثوبه الأسود، وألبسته بعض ثيابها، ولفت رأسه بمنديلها. وبدءآ يغوصان في غمامة شفافة. لم يسألها: لماذا؟ لأنه وهو يبتعد رأى الناس يردمون البحر ويقصون الجبال ويدفنون الأنهار ويقطعون الأشجار، ينهشون الحياة قبل أن ينهش أحدهم الآخر. فأمسك بيد الفتاة، واستدارا إلى مملكة الصمت.