انعقد يومذاك بيني وبينه الحوار . ولم أفهم أني بذلك كنت أعبر البوابة إلى هنا من هناك.
وجدت يومذاك على طاولتي بطاقة باسمي من المدير، تدعوني إلى اجتماع . وقبل ذلك اليوم، كانت حتى رسائلي الشخصية تضيع في غرفة البواب. قرأت اسمي على البطاقة وتساءلت دهشاً : ماذا جرى؟ وسمعت الجواب! يقيم المدير احتفالاً مصوراً يجب ألا يغيب عنه أحد.
مشيت إلى الإحتفال. ورأيت لأول مرة صالون المدير الذي كان محجوزاً للضيوف الكرام . أدهشني أن المدير كان واقفاً عند الباب يستقبل كل واحد منا، يصافحه ويستوقفه ليسأله عن صحته وأسرته وحاله. جلست مع الجالسين في حلقة كبيرة ، وجلس هو في الصدر. قدمت لنا القهوة المرة، وسلال السكاكر . ثم بدأ مديرنا الكلام فقال:
اغفروا لي ما مضى! لنقل معاً: طواه العالم القديم! كان لابد لي ، كرؤساء المؤسسات، من حاجب يمنع وصولكم إلي. كان لابد لي من سكرتير ينقل لي صورة الواقع كيلا تشوشها الآراء. ولابد من سائق يفتح لي باب السيارة وباب المصعد وينحني فتنحنوا لي مثله. كنت في سياق ذلك الزمان!
من حظنا جميعاً أن ذلك العالم البيروقراطي انهار، كما انهار سور برلين، وأشرق عصر الديمقراطية ، وأصبحنا مجتمعين معاً فيه.
ألتقي بكم اليوم، لأطلب أولاً اعتراف كل شخص به، ولأعلن ثانياً أن مكتبي سيكون كالبيت الأبيض، تستطيعون أن تجتمعوا أمامه رافعين ما تشاؤون من يافطات. بل تستطيعون أن تدوروا أمامه دورات كما يدور المواطنون في تلك البلاد. الحرية شعار هذا الزمن! فلا تخافوا أحداً، ولا تخافوا من شيء! سندخل بجرأة العصر الجديد، وسنبرهن للعالم على مستوانا الحضاري ! فلنقتلع العداوة والكره من القلوب ! أعلن لكم على مسؤوليتي: لا يوجد عدو!
كان مديري الذي ألقى علينا تلك الخطبة بصوت عميق حنون، واقفاً أمامنا ثم أمر لنا بالمشروبات ، قد سجن مرة أحد الموظفين في الحمام، وحسم رواتب كثير من الموظفين ، وفرض أن تكون جدران مكاتبنا من الزجاج ليرانا ولا نراه . كان يرفض اللقاء بنا، لكنه يفتح بواباته للرجال المهمين أكانوا تجاراً أم سياسيين . وقد صادفه سكرتيره مرة ينحني للتلفون كأنه ينحني لمن كلمه به. كان ذا أعاصير. وقد عانيت شخصياً منه يوم قصف حلمي كما يقصف الورد. كنت مرشحاً للسفر بمنحة لم تتوفر شروطها إلا لدي: لست متزوجاً، وعمري هو المطلوب، اللغة التي أعرفها هي المرغوبة، والخبرة نفسها تماماً. لكنه رشح مكاني ابن أخته من فوق السطوح دبر له المنحة وأبعدني. قبل أن أتذمر أرسل حاجبه فقال لي: لا نريد كلاماً لا طعم له! تذكر أن مصير الإنسان في لسانه! ما حدث هو القانون في المؤسسات والأحزاب والمنظمات والهيئات، وهو سنة في الشرق أكثر مما هو في الغرب، وفي الجنوب أكثر مما هو في الشمال. أيمكن ألا يفضل الواحد قريباً يعرفه على الغرباء الذين لا يعرفهم ولو كانوا أبناء حزبه ومؤسسته وبلده؟! فافهم أنه لا يوجد أحد تشكو ما حدث إليه!
بعد تلك الحادثة لم أرشح نفسي لأمر أبداً، ولو كان السفر إلى الواق الواق. فهمت أن السفر والمنح والوفود والرحلات ليست كما تصورتها، بل لجني المال والفائدة الشخصية. ويوم أدركت ذلك كنت قد فهمت قوانين الحياة.
قلت لنفسي وأنا أسمع كلام مديرنا، انقلب العالم عاليه أسفله إذن، فلم لا ينقلب مديرنا مثله! مع أن ما رأيته حتى الآن هو التحول من الأحسن إلى الأسوأ! لعل صاحبنا جمعنا ليستنجد بنا كي نحميه من الإعصار!
كان زملائي حذرين فأظهروا أنهم يتلقون كلماته كما يتلقون السكاكر. لكنهم من الحذر اكتفوا بتعبير الوجه وتفادوا التعليق. أنا تهورت! قد يكون سبب اندفاعي فوضى العالم التي أكلت صبري. وكنت كثيراً ما أردد في تلك الأيام مهزوز القلب: فليكن! أكثر من القرد ما مسخ الله! فسألته: نحن أحرار إذن كالعصافير، في هذا العالم الجديد؟ ضحك: طبعاً، أعني ما أقول! وهل تظنني دون شغل كي أبعثر وقتي وأوافق علي هدر وقتكم!
كدت أضحك، فقد خطر لي أن قوات الأمم المتحدة وممثلي الدولتين سيؤكدون بالضمانات كلماته. وكثيراً ما كان يخطر لي كلما وقع خلاف بين الجيران أني سأرى قوات الطوارىء تنزل بمروحياتها بينهم، وأن المفاوضين سيتدخلون ويجعلون الخلافات الصغيرة مسائل عظيمة. وقد تشترك في ذلك شركات السلاح! لكني كبحت ضحكتي وقلت في جد: اذن سأجهر بما في النفوس. أعلن في هذه المناسبة التاريخية: لا يستهيويني هذا العالم المولود! افتتح بالكذب والتدجيل. ولأنقل لك ما يقوله الناس: حروب جديدة، فيها ما في القديمة من قتل واحتلال. العالم أسوأ مما كان. عالم وحشي، تقصف فيه المدن وتغتصب فيها لنساء. فيه قتل على الهوية، على الفكر، أو العنصر، أو الدين، أو الضمير. يحاسب الانسان حتى على ماضيه. ويفرض عليه أن يخلع جلده ويرميه. والعرب في هذا العالم في أردأ حال، تقصف مدنهم، يقتلون، يحاصرون بالنار والجوع والبرد، ويحكم عليهم بأن يعلنوا أن القاصفين الغرباء أصدقاؤهم الحكماء. أمس كنت في التعزية بصديق، فتبينت أن الحاضرين نسوا الميت وجعلوا التعزية بما هو أعظم منه . حتى تصورت أنهم يهزون الأعلام السوداء. وأشد ما أغضبهم أن يبدو المهزومون كالمنتصرين وقالوا غاضبين: زمن لا جغرافية فيه ولا تاريخ! الجديد أن يطلب منا أعداؤنا وأصحابهم من أقربائنا، أن نعلن: العار شرف، والاحتلال تحرير، والوحشية حضارة، والعدو صديق . باختصار: أن نقول اللبن أسود! وهذا ما لن نفعله!
رويت ذلك لمديري أمام الجمع، وقبل أن ألاحظ أنه أصفر، قلت له:أنا مثل اولئك الرجال !ردد بعد أن فكر زمناً: مستحيل!ذلك مستحيل! سألته: ما هو المستحيل؟ قال: تصور أننا على شاطىء والمركب الذي انتظرناه وصل. وأنا مدير رحلتكم، فهل أترك بعضكم يتخلف عنها؟ فيصبح جزء منا في البحر وجزء على البر؟ قلت له: كأننا لم نكن كذلك حتى اليوم!
جرى بيننا حوار متوتر، تابعه زملائي وهم يخفون ابتسامتهم مرة وينظرون إلي مرة نظرتهم إلى متهور أو مجنون، ويشجعونني مرة خفية كأني أعبر عن المخبأ في نفوسهم. ودفعني ذلك فقلت إن المركب الذي وصل ليس المركب الذي انتظرناه. المهم أن نعرف مسار الرحلة قبل أن نقفز إلى الزورق! والمهم أن نفحصه قبل أن نتراحم عليه ونندفع إليه! يحتمل أن يكون مثقوباً، وأن نحشد فيه كي نغرق! إذا صح أننا في زمن الحرية فلكل منا الحق في أن ينتظر رحلته التي رغب بها طول عمره، لا أن يربط على مركب الشيطان!
ارتبك مديري وقال لي: أنت أفهم من المؤسسات العالمية، والأحزاب العربية والكونية، ومن البارلمانات المحلية والغربية، ومن مجالس الوزراء الدنيوية، وشخصيات العالم القديم التي هرولت إلى بوابات العالم الجديد راجية الدخول إليه؟ أنت أفهم من المنظّرين الذين كتبوا مئات الصفحات في مدح الاصلاحات، وبحثوا في أسسها الفلسفية والاقتصادية، في ثمارها الإنسانية والفنية وبينوا آفاقها الملونة، وتسابقوا في سبل استدانتها واستلهامها في أنحاء الأرض؟ لن ترغمني أن أكون خارج الإجماع العظيم الذي لم يسبقه مثيل في التاريخ!
قلت له: تسمه إجماعاً ويسميه الناس مثلي "هوبرة" لكنه لم يسمعني، بل قال: لن أسمح لك بأن تشوه سمعتنا! لن أربط قدميك وساقيك كيلا تستخدم صورتك وثيقة ضدنا! لكنك ستسير إلى المركب كما نسير إليه. فلو عرف العالم المتحضر أني أسمح لك بمعارضة قضية الحرية والسلام لقصف بيتك الذي يقع على بعد خطوتين من بيتي أو لكلفني بأن أقصفك بيدي. ولا أظن أنك ترغب لي بمثل هذا الموقف بعد حياتنا المشتركة في مؤسسة واحدة!
انقلب الموقف فأصبحت أنا الذي يجب أن أشفق عليه، وأنقذه من ورطته! قال: كي يمتنع التشويش، ستوقعون مجتمعين على هذا الدفتر فنكون معاً متعاونين متعاضدين. ولم يترك برهة الحوار.
نشر سكرتيره دفتراً مزيناً بشرائط مذهبة، مغلقاً بجلد أزرق، دفتراً ثخيناً لكل منا فيه خانة تعرف به، فيها صورته وفيها مكان بارز لتوقيعه. استل السكرتير القلم، فارتعشنا. قال في حزم ووقار ومهابة: سيتقدم من أعلن اسمه ليوقع بخط واضح أمام اسمه وصفته. قلت: هذا إذن احصاء! أو إلزام! أجابني: هذا من تحديات الحضارة والحوار والسلام! وستوقع عندما يحين دورك! غضبت: أين حرية الرأي إذن؟ متى باليتم بتوقيعي إلا في لائحة الدوام؟! رماني بنظرة سامة: توقيعك كان ضرورياً في الانتخابات والاستفتاءات! نسيت؟ هذا أيضاً استفتاء! أعلنت في تهور: لن أوقع إلا على ما أختار! لم أختر هذا العالم ولم أسع إليه بل سجل أني ضده! وأني لا أوافق على هذا السلام فإلى جهنم وبئس المصير! هذا ليس تحدي الحضارة بل تحدي الضمير!
قال مديري في هدوء: أعرف أنكم تحتاجون زمناً كي تألفوا الحرية وتتربوا على استعمالها دون أن تضيعوا صوابكم! أعرف ذلك من تجربتي الشخصية! كان عندي مرة طير جميل خطر لي أن أطلقه في الغرفة، فضاع صوابه. كسر الأكواب الثمينة والثريا الجميلة، ووسخ الأرائك المخملية. جن! ولم يعد عقله إليه إلا عندما أعدته إلى القفص. لا أقفاص في العالم الجديد! لكننا يجب أن نتدرب على استعمال الحرية فلا نشمت بنا العدو.
انسحب في مهابة بعد ذلك الكلام . أسرع موظف ففتح له الباب، وانحنى له آخر كما كان ينحني في الزمن القديم. انسحب لأنه يخشى أن ينقل أنه سمع ما أقول! بعد خروجه استقام السكرتير وأعلن في قسوة باردة: تحسب أنك ستسجل اسمك في حلم بعيد؟! لا، لن نسمح بأن يقال أنا تهاونا أو زللنا أو خفنا من الغوغاء! لن نسمح بذلك لمن هو أكبر منك ولا لمن هو أصغر منك! مشكلتك أنك تفكر بعقل العالم القديم. لم تفهم حتى الآن أنه اندثر!
قرر السكرتير أن يقدمني على الآخرين في التوقيع. التفت إلى رجاله المخلصين فدفعوني إلى الدفتر الأزرق ذي الشرائط المذهبة. وعندئذ وقعت. سمعت زملائي يرددون: جلطة! وخلال جنازتي سمعتهم يحصون من سكت قبله في ذلك اليوم. تحدثوا هامسين أحاديث فيها حزن علي وعلى الراحلين. لكن المكبرات كانت تعلن أن قلبي لم يتحمل أفراح الاحتفال بنهاية أكبر صراع في هذا القرن، وبالانتقال من عالم التوحش إلى عالم الحضارة والسلام. حاولت أن أدفع غطاء التابوت كي أعلن الحقيقة للسائرين في الموكب، فوجدته مغلقاً بالمسامير والأقفال. وتذكرت القول الذي كانت أمي تردده: الكذب على الموتى وليس على الأحياء! وقررت أن أصحح لها مثلها عندما نلتقي.
ولهذا وجدت نفسي أفتش الشواهد باحثاً عن اسمها. لم أجده! فطرقت القبور متسائلاً هل سرق مأواها؟ ثم سمعت همس جارتها: أمس طلب من الموتى التوقيع في دفتر ذي شرائط مذهبة يعلن نهاية أطول صراع في القرن! حاولت أمك الانتحار. لكنها لم تستطع الموت مرة ثانية فهربت. وما زالوا يبحثون عنها بالأنوار الكشافة والكلاب. أنصحك يا ابني، لا تذكر اسمها!