ليلة المسرحية

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : د. ناديا خوست | المصدر : www.awu-dam.org

 

 

لايذكر الموتى أنهم رأوا مثل هذه الليلة. لا ! تبدو كأنها نهاية الأيام! لارغبة لي في الفرجة على هذا الهوان، لكني تفرجت بملء عيني كيلا تفوتني لمحة مما أراه. جددت مااؤمن به، وجلوت الحب والحكمة والغضب! ورأيت مرة أخرى صلة الرحم بين الأرض والناس!‏

 

تجدد ماتؤمن به؟ وأنت ممن لاتشيخ قلوبهم! وأنت ممن تمر الحياة أمامه وتبقى موازينه مناسبة لها. ولأعترف لك: أخشاك أحيانا يانور الدين، وأنت تستشف مالايرى! لست متسرعا، حاشاك، لكنك تسبق بحكمك مالايحيط به النظر. وأعرفك إذا صمت! فذلك لأنك تتحاشى أن تفاجئ من حولك بما لايتوقعه! أنت وقتئذ تتريث حتى يتهيأ من حولك لما لم يتضح بعد.‏

 

حدثت ضجة، في تلك الليلة، في مملكة الصمت. توافد أهلها إلى الساحة ليطلوا على الدنيا التي تركوها من زمان . ففي وسطها نصب مسرح. وفي القاعة أمامه صف الشهود والمتفرجون.‏

 

هؤلاء هم رجال العالم اليوم، ياصلاح الدين؟!‏

 

لم تخف السخرية على صلاح الدين. فنور الدين يلمح الضعف والغرور حتى في الملابس، ويخترق الصوت ليقدر الصدق والكذب. فيرتبك أمامه أكبر الناس ارتباكه أمام المتصوفين.‏

 

في حطين محا صلاح الدين ماكان بينه وبين معلمه نور الدين من فتور. ولعله محا أكثر من ذلك وهما يتابعان، من مملكة الصمت، البلاد التي تركاها، ويتبينان أن أفكارهما تسلك طرقات متشابهة. ولكن لماذا يخيل إلى صلاح الدين هذه الليلة، أنه أقدر من نور الدين على تحمل المسرحية التي تعرض في الدنيا؟ وهل كان يستطيع إبعاده عنها، وأصغر سكان مملكة الصمت سار إلى الساحة للفرجة!‏

 

في طريقهما إليها صادفا حشدا متنوعا، فيه أهل دمشق الذين وقفوا على الأسوار يوم وصل الفرنجة إلى الربوة. والشباب الذين هرعوا لينقذوا صفد. وإحسان كم ألماظ الذي اغتيل في سمخ. ومطران اللد الذي رافق عسكر صلاح الدين وبقي في حطين. وطيار شاب اسمه عمر صفر أسقطت طائرته. وفتيان كان في ظنهم أنهم سيصلون إلى طبرية. شباب في عمر واحد تقريبا. ماالذي جعلهم يخلعون ثيابهم البيضاء، ويأتون كما كانوا في آخر أيامهم هناك؟ هل خيل إليهم أنهم يستطيعون العودة إلى هناك ليدفعوا ماحاولوا أن يدفعوه حتى الرمق الأخير؟ لماذا تنظر إليهم يانور الدين؟ لماذا؟ تتبين أنهم فقراء! أنهم كانوا أحيانا معيلي أسرهم، وكانوا أحيانا عشاقا تركوا حبيبات شابات، فلاحين دون أرض، توهموا أن بلادهم هي أرضهم. شباب، متصوفون تبعوا حلمهم الخفاق. لولاهم ماذا كان يمكن أن يفعل سعيد العاص، والشيخ القسام، وفوزي القاوقجي، ذلك الفقير الذي نهشوه بالكلام. وفرحان السعدي الذي لم يرحم عمره السبعيني الحكم بالإعدام!‏

 

لم ينظر صلاح الدين إلى نور الدين! لماذا ياصلاح الدين؟ هل نخجل نحن عن الضحايا، أم عن الإسم والبلاد؟ فكر كل منهما في السلطة التي تحيي أو تميت. تسهر على العدل أو تمتص رمق البيوت، وتكبل المدن بالخوف. وتذكر نور الدين الشدة التي أخذ بها نفسه وقاوم بها في نفسه مايهبه السلطان. وفكر صلاح الدين بما اضطر إليه من السياسة كي يقيم الملك الممتد، ويعبر الزمن حتى حطين. اضطر في حياته إلى اللين حيث لم يشأه، لكنه لم ينشر رحمته على من يجب ألا تنشر عليه. قدم لأعدائه الماء بعد حطين، لكنه منعه عمن هاجم الأبرياء.‏

 

خلفهما على بعد وقف معين الدين أنر. لعله كان معنيا أكثر من الآخرين بما يراه! شغل معين الدين التفكير في الملك مرات. أمسك العصا من الوسط. وعد وراوغ. وحاول أن يخيف أهله بأعدائهم! هو، يعرف معنى أن يقف عدو في عاصمة البلد! لعنه الناس يومذاك، وسعوا إلى نور الدين. لكن هل ينسى أهل مدينته أنه خرج إلى لقاء الفرنجة؟ فما بال هؤلاء يحتفلون بالهزيمة كأنها انتصار؟‏

 

انتفض معين الدين. نعم، ارتكب الإثم! وحاسبه على ذلك أهل مدينته. لكنه، خرج بنفسه إلى الفرنجة يوم وصلوا إلى الربوة. وصادف في طريقه شيخين حاول أن يثنيهما فقاطعاه: بعنا واشترى! لايزال يذكر تلك الأيام، والناس على الأسوار، والحرب في بساتين دمشق قائمة، وهو يطلب في سواد الليل النجدة من المدن، ينتظرها ولايستسلم، فتأتي راكبة وراجلة، وتطرد الفرنجة وتلاحقهم.‏

 

رأى معين الدين فتيات يلبسن جاكيتات حمراء ويحركن أعلاما من الورق. تحية لمن يابنات؟ وابتساماتكن لمن؟ ولماذا؟ هل تحتفلن بانتصار؟ أليس لكن أقرباء من النائمين في الرمال؟ كيف استنبتم؟ هل ألفتم في المدارس حفظ جواب محدد على كل سؤال، فسهل أن تنفذوا أوامر الحكام ولو كانت استقبال الأعداء؟‏

 

تساءل صلاح الدين هل تعبر نظرة نور الدين عن الاحتقار أم عما هو أكثر من ذلك مما لايستطيع أن يسميه؟ هز رأسه وقال لنفسه: نور الدين متصوف من المتصوفين في حب البلاد! أشد مايؤلمه أن يبتسم المهزومون، وتبدو الخيانة سياسة، والمتخاذلون سياسيين!‏

 

- ياصلاح الدين كيف أصبح هؤلاء حكاما، لهم أن يتدخلوا في شؤون كبرى كشؤون الحرب والسلام؟ ماذا جرى للبلاد حتى ارتفع هؤلاء إلى هناك!‏

 

آه يامعلمي، هل تسألني عما تعرفه وأعرفه؟ دهاء الحاكم، وخوف الرعية! صفق الناس للحاكم. شكروه على الهواء الذي تنفسوه والخبز الذي أكلوه. شكروه على الشمس وعلى السماء والقمر والنجوم. نسوا أنهم هم الذين يزرعون ويخبزون. من الخوف نسوا العصيان. نسوا حتى الأفراح والأعياد. قدر لهم الفرح والحزن في أوقات. وعندما وصل موكب الأعداء كانوا مايزالون يصفقون. فقيل للأذكياء منهم: قدر لامفر منه! وقيل للباقين: انتصار! والبسوا ملابس الفرح الحمراء، وصفوا في المسرح ووضعت في أيديهم الأعلام. فكانوا كما رأيت، زينة في القاعة، مثل رسوم القدماء.‏

 

سمع نور الدين حركة فالتفت. رأى الشباب خلفه وحوله وأمامه، في ملابسهم التي وصلوا بها إلى مملكة الصمت في قديم الزمان.‏

 

- هؤلاء الشباب عرفوا تلك البلاد! وماتوا هناك! قل لي ياصلاح الدين، ماعلاقة هؤلاء الواجمين باولئك المبتسمين السعداء؟ أهكذا يبتكر الحكام قطع الأجيال عن الأجيال؟‏

 

- يقال هناك: "زمن جديد "، "عصر جديد". يجب إذن أن ينقطع اولئك عن هؤلاء!‏

 

كان القسام آخر من وصل. هل في متابعة هذه المسرحية الصغيرة من فائدة؟ لايزال الصراع بين الشرق والغرب كما تركناه! تغيرت فقط البيارق والأعلام! وكان القسام يتابع الأوهام التي تصور للأحياء أن المدن الباقية تنجو إذا هجروا حيفا ويافا وعكا وطبرية... وأدهشه أن ينسى اولئك الأحياء أن في المدن التي يسامحون بها العدو قبورا، منها قبره، ومزارات، وذكريات. وأن منها حطين نفسها، مقابر شهدائها وقادتها، والبحيرة التي أوى إليها المتنبي، شيخ الشعراء! قال: آه، من يفرّط ببلد يخسر جميع البلاد! وهل يملك واحد أو مجموعة ذلك القرار؟ كان يعرف حيفا أكثر من بلده. ويقول لنفسه بلدي حيث الخطر على العرب! وكان الخطر حيث تدفقت الهجرة وحماها الانتداب. فهل تغير الزمان؟ سيبوح بأمر! الخطر حيث يفسد المال الذمة والأخلاق! قال: وطن الأغنياء رحالة، متنقل، لذلك بدأت من الفقراء.‏

 

ردد كلمته سعيد العاص. "نعم ياشيخ! وطن الأغنياء رحالة، متنقل! لم نلتق، وكم التقينا حيث مررت! لم نفكر يومذاك بما يسميه هؤلاء الأحياء، التوازن الكوني". "لو فكرنا مثلهم، ياسعيد، لما كان لهذه البلاد تاريخ! فأيامنا كانت أسوأ من هذه الأيام. هؤلاء عرفوا زمنا كانوا فيه أقوياء، مسلحين، بحارة في المسرات، لهم أصدقاء. نحن كنا نبحث عن الفشكة والقميص وقطعة الخبز!‏

 

يا سعيد، أعرف أنك كنت في قميص ممزق! استحى منك من أراد أن يهديك قميصا، لما يعرفه من عزة نفسك. لكن، انظر إلى هؤلاء! مزينون، خاط لهم عدوهم الياقات والأردان، ولعلهم معطرون وعطرهم من هناك!"‏

 

صمت الجمع فجأة. كأنما حدث أمر جلل تحت، في الدنيا. وبدا لهم أنهم يسمعون لغة لايعرفونها. تناوب رجال على أوراق وقعواعليها. " آه، محوا الزمان والمدن والأحلام والقبور والأسماء!" ودوى عندئذ التصفيق. بعد زمن من الصمت استدار صلاح الدين عن ذلك المسرح. اسمعهم يانور الدين، اسمعهم! يقولون: "ظلت القضية خمسا وأربعين سنة دون حل". هكذا حلوها؟! استمر الاحتلال الفرنجي مئتي عام! جدعت الأنوف، دمرت المدن، سبيت النساء، ولكن لم يجرؤ أحد منا على التنازل عن البلاد! قبلنا الهدنة في حرب طويلة، ولم نقبل إلغاء مقاومة الاحتلال. هل يتصورون أنهم بضعفهم، سيأخذون "الأرض مقابل السلام"؟ كلام! إذا تدفق الغرباء، خسروا الأرض والأمان!‏

 

حدث اضطراب في المسرح! خرائط مغشوشة! خلاف ! استمع نور الدين إلى الخبر وتبادل النظر مع القسام. وقال لناقل الخبر: يابني، الخطأ ليس ذلك. الخطأ أنهم يستقبلون العدو في بلادهم، ويقبلون توطينه بينهم. هل فاتهم أنهم قبلوا سيادته الكبرى في هذه اللحظة؟‏

 

قال القسام في كبرياء: يانور الدين، لسنا شهودا! في زمننا، لم نقبل أقل من ذلك بكثير! وكان الإنتداب يدرب المستوطنين ويجعلهم جيشا، ويغضي عن طائراتهم ومصفحاتهم، ويجهز مجموعات منهم لتلاحقنا. كانت بنادقنا من مخلفات الحرب، يحكم علينا بالإعدام إذا اكتشفت معنا. ومع ذلك، قاومنا المستوطنين ودولة كبرى. ولم نهب الإحتلال اسما آخر!‏

 

تقدم من القسام رجاله الحكماء، وأحاط بسعيد العاص رجاله الأشداء، ثم تقدم شباب وفتيات، غطوا الساحة بالنضارة. كانوا في تلك البرهة بالثياب التي قتلوا فيها، في لون كاكي، وفي ألوان مزهرة. كانوا جنودا من الاحتياط تصوروا أنهم سينتصرون ثم يعودون إلى قراهم. كانوا جنودا قطعوا الطريق وهم يرفعون الشحم عن أسلحتهم. كانوا جنودا طردت أمهاتهم وآباؤهم من القرى وقت الإحتلال. كانوا أصدقاء قتلى ومهجرين. كانوا يسكنون في غرف تحت السلالم، وفي أقبية معتمة، وفي غرف من الطين في البساتين. وكانوا أطباء وطيارين، وكانوا فدائيين لم يعرف أهلهم قرارهم إلا بعد أن نفذوه. رددوا فرادى كلمة القسام ونور الدين: لم نوقع! ثم تجمعت الأصوات وأصبحت صوتا واحدا! وتبين نور الدين عندئذ أن يوسف العظمة في وسطهم بملابسه التي خرج بها إلى ميسلون. وسمعه يقول: كنت أعرف أن الإحتلال مقرر، وأننا دون سلاح ولاطيران. لكننا بميسلون حجبنا الإعتراف بالعدو، وقاومناه.‏

 

في تلك البرهة وصلت أفواج من الأطفال والشباب والفتيات. لاتزال جروحهم ظاهرة في رؤوسهم وفي موضع القلب. كانت في وجوههم الصرخة الأخيرة التي صرخوها في الحارات. وماتزال تفوح منهم الغازات. كانت عظامهم ماتزال مكسورة. كان الشباب منهم يحملون أطفالا خنقوا في المهد. وصلوا كما وصلوا إلى دمشق سنة 1936 وفي سنة 1948. وأحاط بهم الجمع. وبدا الجمع ملونا، جميلاً ، مهيبا ورشيقا. حتى ذهل معين الدين أنر من الفرق بينهم وبين الجمهور الذي كان يحضر المسرحية في أسفل الدنيا، ويمثل الفرح والانتصار.‏

 

سمع نور الدين همسة فتاة: لهؤلاء مملكة الصمت فقط، ولاولئك الدنيا! فتوقف، والتفت كما كان يلتفت إلى جريح: يابنتي، لاتخافي من المنتصرين!‏

 

في أسفل الدنيا استمر الاحتفال. قيل إن زمنا جديدا يبدأ، وطلب من الضحايا أن يكونوا عقلاء وأن يبرهنوا على نية حسنة. طلب منهم ألا يخيبوا ظن الشهود والمحتفلين. وروي أن المباحثات سترسم سور الحديقة التي سيوضع فيها أهل البلاد، وستنظف اللغة من كلمات احتلال، مستوطنات، هجرة، عدوان، وستزين قاعات أخرى للاحتفال بالمساواة بين الأقوياء والضعفاء، وبين الغرباء وأهل البلاد.‏

 

من طرف كتفه لمح القسام آخر صور المسرحية وقال: انتفضنا سنة 1936 لنوقف الهجرة، ولم تكن كما هي اليوم! فجذبه سعيد العاص من يده إلى الأمام حيث الشباب. ياشيخ، لسنا اليوم في مسجد حيفا الكبير، فلاتبدأ درسك! قل لي، من بقي في ذاكرة جيلي وجيلك، عبد الرحمن اليوسف، أم يوسف العظمة! لاتقلق على الأحياء إذا ظل إنسان منهم يذكرنا هناك! سيهربنا المخلصون من جيل إلى آخر، ومن حلم إلى حلم! قلقي على الأحياء فقط، ياسعيد؟ قلقي على هؤلاء الشباب الذين يقتلون اليوم مرة أخرى!‏

كان نور الدين كعادته قد حزر مايجب أن ينجزه. وعندما التفت سعيد رأى رايات مرفوعة، ورجالا على جياد، ومشاة، وآليات حديثة، حشودا متنوعة الأسلحة والملابس والألوان، وملامح تركمانية وشركسية وكردية وعربية. وتبين جمالا نادرا لم يصادف مثله في حياته. جمع نور الدين كل من دافع عن هذه البلاد، وأعاد القادة المنتصرين كي يكرروا نجاحهم، والقادة المهزومين كي يحاولوا الانتصار، وتناسى الأخطاء الصغرى التي فرقت الأصحاب والأقرباء. جمع من الأزمنة الطويلة كل من استطاع. نادى حتى أسراب الطيارين وطواقم الدبابات. ولم يتخلف أحد من شيوخ القسام حتى الجنود الصغار والفدائيين الشباب. وبينهم كانت فتيات بالبنطال ونساء بملابس مطرزة وأغطية بيضاء. وجميع المحكومين بالإعدام. مشى الحشد مهيبا، جميلا. فاستعجل القسام سعيدا، وهو يمسح من عينيه الدموع. " يالحزن من يفكر في كل هؤلاء، ويالقوة من يفكر في كل هؤلاء !"