تنقل المنادي في المقبرة : انهضوا ايها الموتى، انهضوا ! فجمعوا أطراف أكفانهم، ونهضوا في أول الليل، والقمر يسري في السماء. ومعهم نهضت فتاة لم تكن استراحت بعد من أصوات المقرئين وحزن الوداع.
نهضت في خفة كأنها الهواء. التفتت فرأت أردية تتحرك في الليل، أمواجاً بيضاء، رفعت رأسها فصادفت: مرة أخرى هذه النجوم وتلك السماء؟!
ظل صوت المنادي يردد متنقلاً : " لا يمكن بعد الصمت! انهضوا أيها الموتى، انهضوا!" ورأت الفتاة امرأة تتقدم، فسألتها: عم لا يمكن بعد الصمت؟ أجابتها المرأة : جديدة؟ اصبري إذن..سنتنحدث عن ذلك في الاجتماع . وقادتها إليه. وفي الطريق روت لها ما يحدث في مملكة الصمت. هي هنا منذ عشر سنوات. قطعت خلالها أيام الحزن على الحياة، والقلق على الباقين من الأحياء. وتجاوزت الشوق إلى الأخبار. وصلت إلى زمن تستمتع فيه بسماء الليل، حرة الخطوة تتجه حيث تشاء. غير مربوطة بانتظار الزوج والإبن وبمواعيد الطعام وملعقة الدواء. تجمع رداءها وتتجول، تجري كضوء القمر والماء. لا يزعجها هنا غير الزحمة . فالقبور متقاربة كأنها أبنية الأحياء . لم يصل بعد إلى قبرها المشردون، ولم يستلق بعد فوقه شخص ثقيل، ولم ينشر أحد بعد ثيابه عليها، ولم يهزها بعد شخص يرتعد من برد الليل. لم يعلق أحد بعد فوق شاهدتها سلة أو بنطالاً ، ولم تفح بعد حولها رائحة الحشيش!
كثيراً ما مشت وحيدة، ومن التأمل وصلت إلى مجردات لخصت بها الأوضاع . وكانت قادرة على ذلك بعد أن عبرت السنوات الأولى التي تعتبرها الآن متصلة بالحياة. بل تكاد تضحك، فهي الآن فقط تشترك أحياناً في استقبال القادمات . يوم وصلت هذه الجارة الجديدة، كانت مشغولة في الطرف الآخر، بامرأة أحرقت نفسها بالكاز. اجتمعت حولها النساء. وقلن لها: أحرقت نفسك.. مجنونة ! منذ عشرين سنة لم نعد نستعمل هذه الطريقة للخلاص! ماذا دفعك إلى هذا العذاب؟ ظلم الزوج؟ اف، ما زال ذلك يحدث حتى اليوم! ما نراه من أعمدة التلفزيون التي تشوه السطوح، لا يعلّم الأحياء الحياة!
عندما تستقبل النساء امرأة جديدة لا ينبشن قصتها من الفضول، كما يفعل الأحياء. بل يعاتبنها ويصنحنها ليصلن إلى قرار، كي تختصر فرصة الشفاء من الحياة. فإذا بكت أو تقلبت في القبر فأقلقت الجارات، دعونها إلى اجتماع ليجففن ما بقي لديها من دموع الحياة، وليفهمنها أنها انتقلت إلى مكان فيه قوانين وعادات، وإمكانيات وآفاق.
نعم، الأيام الأولى هنا كالامتحانات في الجامعات! لكن الناس يساعدون الناس، والكبار يساعدون الصغار، والأقوياء الضعفاء. وليس الصمت المطلوب في مملكة الصمت من الخوف، بل من الرغبة في الراحة والهدوء. فالموتى نجوا مما يهدد به انسان: الضرب، والعذاب، والمنع من السفر والعمل، ومصادرة الأموال والأملاك. هذه القطعة الصغيرة من الأرض هي مملكة الحكمة . يتأمل الناس فيها ما فاتهم أن يتأملوه، ويكتسب فيها حتى المجانين العقل، بالشفاء من الشوق إلى الحياة خارج الأسوار.
حكت المرأة للفتاة عن جمال الظلال أيام القمر. وعن وحدة المجموعة التي لا تفرقها أحقاد أو أملاك. هنا كثيراً ما يجتمع الرجال والنساء من عدة أجيال، ويلتقي من عاش قبل خمسمئة عام بمن عاش قبل خمسين سنة. وتجمع من ذكرياتهم أمسيات تمتع المتنزهين والمستمعين . ويحكي الرواة في رشاقة وسلاسة، كأنهم يروون حكاية حدثت لآخرين وليسوا هم أبطالها. ويصفون البلاد والأشجار التي كانت موجودة، والطرقات والخانات. وبعد تلك الأمسيات لم يكن أحد من الحاضرين يتمنى العودة إلى المدينة الموجودة الآن خارج الأسوار.
كانت المعلومات تصلهم فيعرفون مصير الأبنية التي شيدوها، والمكتبات التي اشتروها وجمعوها، والبلاد التي حرروها، والأنهار التي اجتازوها، والأشجار التي زرعوها، والأسوار الشاهقة التي رفعوها، والأسواق التي غطوها. ولو لم يجتازوا العتب والحزن، لتردد من المقبرة نواح يوقظ الأحياء!
في تلك الأمسيات كان الموتى يزدادن ثقافة ومعرفة ، ويقدرون حظهم الذي جمع في مكان واحد الأمراء الشجعان الذين جابوا البلاد، والعلماء الذين حفظوا آلاف الصفحات، والشعراء والمعماريين. كان حتى السياسيون الخائبون الذين يحكون عن تجربتهم حتى إعدامهم أو سقوطهم، يستنتجون في تلك الأمسيات ما كان يجب أن يستنتجوه في الحياة.
ولم توجد هناك حواجز بين النساء والرجال. ففي اللقاء يتجاورون لا فرق في السن والجنس , تنفرد النساء فقط عندما يستقبلن امرأة لم تألف بعد العادات في مملكة الصمت، ولم تقطع بعد علاقتها بعالم الأحياء. وتحتاج الحنان الذي ينتزع الانسان من الأحزان. انعقدت تجمعات صغيرة لبحث أمور تفصيلية، كلما دفع حارس المقبرة بقدمه قبراً ما عاد يزار، خاصة في الأعياد. ثم نبشه وجعله مأوى لقادم جديد. كان حارس المقبرة يعجز عن فهم الحقيقة التي يعرفها الموتى: أن الذين هاجروا أو تغيروا هم الأحياء. أما الميت فما يزال في مكانه، يزداد حكمة وهو يستمتع بالخلود!
لكن ما كان صدفة قبل عشر سنوات، أصبح وضعاً يومياً الآن. فالحارس يبيع القبور ويحشر في الواحد منها ما لا يتسع له بيت عربي قديم. ذلك هو سبب الاجتماع الكبير الذي دعا المنادي إليه!
لم يبق رجل أو امرأة أو ولد، قديم أو حديث، إلا نهض. وكان المشهد جميلاً فالقمر بدر، وظلال السرو القليلة مرسومة على الأرض، ومثلها ظلال الشواهد، وبين ذلك تتحرك في هدوء ثياب بيضاء فضية، وضحت ثنياتها الظلال. ظهر ضيوف قدموا من الصالحية والباب الصغير ومن مقابر خاصة، وأتى المشردون الذين سرقت قبورهم فصاروا يمضون الأيام في الحدائق وتحت الجسور.
في الصدر وقف نور الدين الشهيد، وصلاح الدين، وست الشام، والصاحبة خاتون، أختا صلاح الدين، وسودون الذي هدمت مئذنته في سوق ساروجا وأجرت مخزناً . وينال الذي هدم ضريحه مقابل الشامية . ومعين الدين أنُر الذي هدمت قبته وضريحه في سوق ساروجا. والمزدقاني، المقتول، في القلعة الذي هدم مسجده فلجأ إلى بيت الجيران . وست ستيتة زوجة تنكز التي أجر ضريحها لبائع قماش. وابن أبي عصرون، والكندي، وزوجة نور الدين، بنت معين الدين أنُر، والزهراوي والعسلي.. وبدا أن بعض الضيوف لم يلتق ببعضهم الآخر منذ زمن طويل . كيف حدث ذلك ؟ الموت وهو حرية ؟ الحزن والعتب وهو ممنوع؟ لكن كان منهم من يزور ويزار ويلتقي بمن تمنى أن يراه يوم كانت تبعده عنه مئات السنوات.
انساب الكلام في هدوء. كان الاجتماع يليق بأولئك الرجال والنساء. رصينا دون تصفيق، دون مقدمات، دون رغبة في رضا من يتحدثون إليه. فبدت اللغة نقية كأنها الماء النظيف. وسمعت كل كلمة تقال من أقصى المقبرة إلى أطرافها المقابلة. وبدا أن كلمة الاجتماع:" لا يمكن بعد الصمت " تعني ترتيب الأمور لا الغضب الأهوج، معالجة المشكلة لا إضافة مشكلة إلى ما هو موجود.
قدم الضيوف إلى الصف الأول حيث يقف العقلاء والحكماء. لكن الجميع كانوا متساوين في الكلام. بينوا في دقة واختصار ما تعاني منه مملكة الصمت. ووصلوا مشكلة الفرد بالجمع، فظهرت جمهورية عظيمة أهلها حكماء. ومع أن الانفعال محرم، منسي، بدا التأثر لمحة خاطفة على نور الدين فأمسك بيد صلاح الدين. وبدا كل منهما كما كان في القمة . ولم تكن في المقبرة أعلام أو شعارات. ولم تعلق أقمشة وخروق . فكان الاجتماع مذهل الجمال.
رسموا حارس المقبرة كاملاً، في عدل. يعالج بنته المريضة، في الغرب، لذلك يسرق القبور. ويوزع المال ليبقى حارساً . لكن هذه المسروقات ليست من أرض سائبة. بل من أشخاص موجودين. يدفع الميسورون للحارس ألوفا ليفتح القبر القديم، ويضع فيه القادم الجديد. حتى أصبحت القبور كالقواويش لا تتسع ولو وقوفاً للقدماء والمحدثين.
ابتسم شرف الدين بن أبي عصرون. ماذا يقول؟ باسمه سميت المدرسة العصرونية في الأيام الذهبية. فمن يعرف مكانه اليوم؟! من يستطيع أن يراه وقد سد المنفذ إليه؟ نعم، تباع الأوقاف، ومنها وقفك يانور الدين!
بدا لنور الدين أن المشاكل التي حلها في حياته، ومنها تحرير دمشق، وتوحيد الامارات، والانتصار على الفرنجة، أهون من حل المشاكل التي ينظر فيها الآن. لكنه ابتسم هو أيضاً : ماذا أقول لك يا ابن أبي عصرون، وأنت على بعد خطوات مني، وكم رأيتك أمامي في أول الليل! ألم تر السراويل معلقة على جداري، ألم تر علب المسكة ودهان الأظافر، وزينة الشعر، مصفوفة على نافذتي؟ من يعرف من الناس أني هنا، وكنت محرر دمشق، وبنيت هنا المدرسة النورية ، وعلى بعد خطوات البيمرستان، مدرسة الطب، الذي تفتنني حتى اليوم قبابه الجميلة !
كان الكندي يبتسم." لماذا؟ لم يسرق قبري وتلك مكافأة عظيمة! لكن الغبار يخنقني. حولي مستودع لما فاض عن السوق والموممين. وفي نافذتي يغسل الباعة الخروق. أتذكر أني مشيت في ذلك السوق، وفي آخره انعطفت . وإلى هناك وصل المعظم عيسى، قريبك يا صلاح الدين. وانتظرني حتى أكملت درس الشعر الذي كنت ألقيه. انتظرني في أدب حتى حان دوره! زرت الأموي وبحثت عن المكتبة التي استقدمتها وانتقيتها من مخطوطات مصر. فماذا وجدت؟!"
كان صلاح الدين يقف مهيباً ويستمع إليه . ماذا يقول هو، ماذا يقول؟" يوم دخل الملك فيصل إلى دمشق مع الجيش، زارني . ودخل خلفه لورنس، فسرق الإكليل البرونز الذي أهداه الامبراطور غليوم لضريحي! ولو استطاع لسرق الضريح."
ما تزال الفسحة جميلة، هادئة، أمامه. يتنزه فيها في الليل. لكن من يتذكر المدرسة المهدومة التي كانت في تلك الفسحة! وماذا يحكي صلاح الدين، أعن المصاحف النادرة المهداة التي سرقت، أم عن الكازات الجميلة المنهوبة، أم عن القيشاني الذي انتزع من جدار الأموي وبيع! رأى ذلك وهو يتجول كحاكم يحرس بلده. وهمس: " يا نور الدين، هل عرفت أن حطين نفسها مسروقة؟!".
هز نور الدين رأسه. كان يطل على مئات السنين، ويعرف أن المسروقات الصغيرة كالمجوهرات والقبور ولوحات الخط والسجاد والمخطوطات تتناثر وتضيع. لكن البلاد التي تسرق تعود مهما طال الزمان، يوم يفيق الناس من البؤس ومن النعيم.
لم تهمس ست الشام . فعادتها أن تتحدث بصوت واضح. مقابلها سرق ضريح ينال، وسرق جزء من باحة مدرستها. عمر التجار أبنية أعلى من مئذنتها، وسدت الطريق التي ظلت سالكة منذ القرن الثاني عشر الميلادي. قالت ست الشام ما سكت عنه معين الدين انر: " هدموا قبره وقبته في سوق ساروجا، هو الذي دافع عن دمشق ! هو أبو خاتون زوجة نور الدين، صار يأوي إلى مدرستي أو يتشرد تحت الجسر!"
عادت إلى مسمع خاتون، الصاحبة، زوجة الكوكبوري، ضجة التلميذات والمعلمة.هل تطمئن الجمع عن حالها؟ يزورها كل سنة مئات الغرباء من أنحاء الأرض، ويتفرجون على مدرستها التي لم تكملها فبقيت أقواسها معلقة بالسماء. لا تعرف من سرق ضريحها المزخرف الجميل، ووضع صندوقاً من الخشب في مكانه، جلست عليه التلميذات زمناً، ثم جعلته المعلمة طاولة لها. ضحكت ضحكة لطيفة. لا! لن تتحدث عن ذلك . فأين هي من أمة اللطيف، أستاذتها وصاجبتها! انتزع قبر أمة اللطيف وصارت تربتها مكتباً. وكثيراً ما لجأت أمة اللطيف إلى زوجة نور الدين في الصالحية!
هزت خاتون، زوجة نور الدين، رأسها موافقة على ما فكرت فيه الصاحبة. ما أقل ما نزل بها، هي! عزلتها في عمق الجامع الجديد، وجفاف نهر يزيد الذي كان يطرب الليل، وتجتمع عنده مع زوجة المعظم عيسى بانية المدرسة في الصالحية!
ارتفع صوت من الحاضرين:" حررنا البلاد، ركبنا الخيل سنوات، وقتلنا لأجل هذا الزمان؟" رد صوت آخر ليقرر حقيقة أخرى:" لا. ليس لهذا الزمان فقط . بل لزمن قادم بعده!" سأل صوت ثالث: " وهل سيبقي اللصوص شيئاً منا للزمن القادم؟!" رد صوت هادىء: " لهذا نجتمع اليوم. نجتمع لنبحث ما يمس مئات السنوات الماضية، ومئات السنوات التالية ."
تذكر عبد الرحمن الزهراوي الضربات التي كسرت شاهدته ، فبقي منها ما نقش أنه تحدى الموت الزؤام. نقش ضريحه من الرخام في أحلى صورة. وكان الإتقان فيه إعلاناً عن التمرد على قاتليه. وكانت تسمع في انحناءات النقوش دموع أشخاص لم يعرفهم، أحبوه. تجول الزهراوي مرات مع الذين أعدموا في ساحة المرجة، وتساءل: أضاع ما كتبناه، وتبددت كالغيوم والأيام، الغصة والخطأ والصواب، ونداؤنا المدينة في غبش الفجر؟
وكان إلى جانبه شيخ مهيب، نضر الوجه، ابيضت لحيته في القمر. هل يعرفه ؟ نعم!
" يسمونني عثمان. لم يبق من أهل التربة الأيوبية سواي! كنت أميراً محارباً حتى مرت السنوات ونسي الناس أصل المجد الذي غمروني به، فجعلوني ولياً من الأولياء. ووضعوا الشموع في نافذتي، ورجوني وشكوا لي.. ففهمت أن الأقوياء لا ينجدون الضعفاء. ثم أغلقت نافذتي وسمعت الحفر والبناء في الجوار . وفهمت لماذا كومت فوقي الأنقاض. أتاني اللاجئون من التربة الكركية حتى ضاق المكان. وفي الليل رأيت عظام الأبطال القدماء ترمى كالأنقاض."
وروى للزهراوي حكاية أمير طرد مع ضريحه إلى القلعة. وحكى له أن النوافذ التي يطل منها أمراء وعلماء ومحاربون محررون أغلقت في الصالحية، وصارت تربهم بيوتاً شخصية.وسمعت خلال ذلك الحديث ضحكات لأن المستمعين والرواة كانوا كمن يراقب أمراً يتعلق بغرباء، يريد كالباحث أن يصل إلى قرار، لكنه لا يكاد يصدق ما يراه.
أعاد الموت الرؤوس التي علقت على أسوار دمشق وعلى أبواب دمشق، إلى الأجسام التي دفنت وحيدة. وحرر المصلوبين. ترك الموتى الأحقاد في الدنيا، تركوا الأملاك والبيوت والأثاث، وكل ما سفكوا فيه الحياة، وما قتلوا لأجله الأعزاء، واغتالوا لأجله الإخوة، وغدروا لأجله بالمستجير. في مملكة الصمت لا مالك ولا سيد ولا عبد. المكانة فقط لمن سجلهم الحب كالكنز. لذلك لم يرد قرار المجتمعين خوف أو تردد، وقبلوا ما اقترحه العقلاء: الخروج إلى المدينة في هدوء وحزم . ستتجمع أصوات النساء والرجال والأولاد في نداء واحد:" أفيقوا أيها النيام! الذاكرة التي تضيعونها ليست لكم، بل للزمان. أنتم فجوة الحاضر، ونحن حق الغد. انظروا! لديكم صحاري وقفار تضيفون إليها كل يوم قفاراً. هناك اتركوا بصماتكم، إذا كنتم تتحملون مسؤولية صورتكم أمام الزمان!"
أدهش الفتاة، القادمة الجديدة إلى مملكة الصمت، ذلك الإجتماع وتدفق فيها ما لم تشف بعد منه من السخرية والغضب والأفراح، من عواطف الأحياء . أخطأت إذن بالحزن وقت الوداع على الحياة التي تومض كالبرق هناك. فهنا يمتد الزمان، وهنا يجتمع الأحياء. قالت للمرأة :" مخظوظة لأني وصلت إلى هنا في الأوان!"
لم تر بوابة المقبرة ، ولم يعرف الشارع الواسع مثل ذلك الحشد قبل ثورة مملكة الصمت. رجال مهيبون، نساء جميلات ، رشاقة وأناقة ، والأكفان البيضاء متموجة في القمر! انحنى حتى السرو كأنه يريد المشاركة في مظاهرة الموتى . وسار علىعرض الشارع في هدوء، فنانون لم تبق لوحاتهم في البلاد. ورجال علماء كتبوا عشرات المجلدات في ضوء الشموع والسراج. وصناع نقشوا الخانات والقصور والبيوت والبحرات منحنين عليها عشرات السنوات. قادة معارك بين الشرق والغرب. نساء درسن الرجال في المدارس قبل خمسمئة سنة . شاعرات عاشقات بعثر الزمان أشعارهن في الهواء.
سمع حارس المقبرة حفيف الأكفان، فأيقظ شرطة البلدية التي ستتهيأ في الفجر للنزول إلى الأسواق، لتقلب سحارات الخضار وتصادر الفواكه والموازين والعربات، وتركل باقات النعناع، وتدعس البندورة والخيار. واستدعى الذي يصادرون الدراجات ويكومونها في سيارات ثم يرمونها في فناء. وسمع في المدينة صوت الأقفال والخزائن والكراسي التي تحصن الأبواب. وأنزلت الستائر وأخفي الأطفال. وصفت طاسات الرعبة، وصواني النحاس قرب الجدران ثم.. انطلق الرصاص. رصاص لم يهطل حتى المطر في مثل غزارته في أيام الخيرات. فتطايرت العظام، وتمزقت الأكفان، واستدارت شجرات السرو القليلة إلى الجدران. وضاعت المرأة والفتاة. وبعد قليل، لم يبق على الأرض سوى حطام، وخليط من أكفان وعظام، وقمر لم يشأ أن يغيب رغم رغبته في الغياب، وانهمر فوق الأكفان والعظام في رنين كأنه ينوح ، بعد أن سكت الرصاص