حوار مع قزم

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : محمد بلقاسم خمار | المصدر : www.awu-dam.org

 

 

لم أعد أتعذب.. ذاكرتي القديمة خمدت، انطفأت شعلتها المجنونة، وانسدت خصائص بصيصها .. اصبحت جمجمة مجوفة فارغة، كطاسة لا تحمل شيئاً، ولا يتسرب منها شىء.. ويبدو أن ذاكرة جديدة، بدأت تتبرعم، وتنمو داخل تلافيف دماغي. وإلا.. فما معنى هذه الصور الغريبة التي أخذت تتراقص أمام مخيلتي، وكأنها من بنات ذكرياتي، مع أني لا أشعر نحوها بأية ثقة أو اعتراف أو أطمئنان ...؟!‏

 

أصبحت لا أعرف من أكون .. وفي الوقت ذاته أحس كأنني أنا هو الآخر..‏

 

ورغم أن هذا الآخر مجهول عندي، وغير واضح، فإنني أشعر نحوه بنوع من الطرافة والاعجاب ..!‏

 

صرت أشعر برغبة جامحة في تلاوة التوراة. واهتم باصحاحاته وفصوله.. ولا أعير التفاتاً لمن يقول لي: إنه (مفبرك ):‏

 

-سمعت أحدهم يقول. إن أصل اليهود من منطقة(عسير) بالجزيرة العربية، ولا علاقة لهم بأرض فلسطين، وهذا فتح في التاريخ !‏

 

-وقال آخر : من منطقة عسير، هذا ( صعب ) ..؟‏

 

-وقال آخر: إنهم بلا أصل .. وقد أخذوا فلسطين ، وهم الآن فيها ، ولسنا مخولين لنبحث لهم عن مكان آخر للاستيطان ..!‏

 

كنت أستمع إلى هذا الحديث، وأنا أحفر في ذاكرتي المنهارة، وأتساءل : من أكون ..؟ لقد نسيت هويتي ..!‏

 

ولدي يؤكد لي بانني عربي مسلم، ولكنني أشك في ذلك ! الشيء الوحيد الذي أصبح لا يفارق بالي، هو عشقي المدله في الوحدة الأوربية ..!؟-والافريقية .. والمتوسطية والأوسطية .. هذه الكلمات أصبح لمعانيها رنين جذاب، له فعل السحر في تذوقي .. أما كلمة الوحدة العربية ، فقد كدت أنساها ، لم يعد ذكرها متداولاً، وقد امسى نطقي بها يسبب لي الحرج والخجل، إنني أخشى أن أهمس بها فيتهمني ( التقدميون) من أبناء وطني بالرجعية والتأخر .. جلّ أهتمامي تركز حول مسارات ومساعي تحقيق الوحدة الأوربية، وكلما بلغني خبر عن اقترابها من هدفها المنشود هزتني نشوة السعادة، والاعتزاز .‏

 

حتى كوارث وطني لم تعد تشغلني كثيراً، وانساها بمجرد سماع أنبائها ، إنني بكل مالدي من عواطف جياشة أعيش خارج حدود وطني ..! كمتشرد بلا حدود ...!؟‏

 

أنا هو الآخر في غرامي، وأنبهاري، وتشبثي بأذياله.. والأخر هو أنا بكل ذلي، ومسكنتي، وأحباطي، وأحس كأن (الأنت ) يقول في أعماقي: الأخر هو الآخر، وأنت (أنا ) لاشيء.. ولكنني لا أصدق ..!‏

 

وقفت صدفة أمام مرآة مستطيلة في منزلي، فتفاجأت بشكل ولون الصورة البشرية التي تواجهني.. صرخت بأعلى صوتي، من أنت أيها الرجل الغريب ..؟ ماذا تفعل في داري ..؟ ورفعت يدي ، ففعل مثلي ..‏

 

صرخت مرة ثانية.. ماذا تريد يا رجل ..!؟ فركض ولدي نحوي، وهو يقول لي: أهدأ .. أهدأ .. ياأبي .. لا يوجد في دارنا أي رجل ..! وصاحت زوجتي وهي قادمة: استحي ياولد..‏

 

أليس أبوك رجلاً .. واقتربت مني. وأشارت إلى الصورة في المرآة ، وهي تقول برقة تهكمية: هذا أنت يازوجي العزيز .. أنت رجل الدار، ولا أحد غيرك . وهذه صورتك منعكسة على قلوبنا .. وداخل مقلنا .. (القرد في عين أمه غزال ).‏

 

تأملت الوجه المنعكس، واحسست بموجة من الغثيان تداهمني " هل هذه صورتي .. أعوذ بالله ..! وسألت : هل أنا أسمر، وبشع إلى هذه الدرجة ..".‏

 

-قالت زوجتي: إنك تبدو في عيوننا أجمل من كل الرجال.. قلت : ألم أكن أبيض البشرة كالثلج، وشعري أشقر، وعيني كلون البحر الأبيض المتوسط ..!؟‏

 

-قالت: لم تكن أبداً أشقر يا محمد .. إنك نسخة من أبيك عبد الله، ولكن يبدو أن نسيانك قد أنساك حتى نفسك، وأصلك :‏

 

-قلت : لم أنس اصلي الأبيض المتوسطي، فأنا مثل الطليان والأسبان والفرنسيين، كلنا من شاطئ دائري واحد‏

 

-قالت: لماذا لاتقول انك مثل المصريين، والسوريين واللبنانيين الذين تنحدر من سلالاتهم القديمة، وكلنا من شاطئ واحد..؟‏

 

-قلت : لا تنسي بأن مرض ذاكرتي قد خلق لي شخصية جديدة، وانساني كل قديم.. إنني الآن ابن يومي وغدي القريب أما أمسي، وغدي البعيدين، فلا طاقة لي على تصورهما.. وإن القصور الذي تعاني منه ذاكرتي الزمنية، هو نفسه القصور الذي تعاني منه ذاكرتي المكانية، لهذا، فالبلد الأقرب لي مسافة ، هو الأقرب إلى قلبي .. ومالطا ، أقرب لي من لبنان ..‏

 

-قالت: يظهر أن ذاكرتك القلبية أتعس من ذاكرتك المكانية، وأنك بالفعل مريض، ولكن لا تستحق الشفقة ..وإلاّ فلماذا كل العاقلين في مختلف الأزمنة والأمكنة ، يعتزون بشساعة أراضيهم واتساع مجالات تحركهم القومي ، وبعد مسافات ممتلكات أجدادهم، وعظمةالانتشار المكاني لأمتهم.. وأنت في عصر المواصلات السريعة، تبحث وتفكر في البقعة الأصغر والأقرب. .!؟ لماذا تتنازل عن عملقتك العربية يازوجي الحبيب أبحث عنها في نفسك تجدها ..!‏

 

-قلت بمرارة غريبة : هل يستطيع قزم مثلي، أن يكتشف في نفسه، وجود عملاق..؟‏

 

إن ذاكرتي في الواقع، ليست معدومة، وإنما هي مريضة فقط، ومنحرفة بعض الشيء .. إنني أحياناً أنسى أموراً كثيرة، مثل هويتي، ولغتي، وثقافتي، وحجمي، ولوني، وماضي ومستقبلي البعيدين، وأنساك حتى أنت ، وأبناءك .. ولكنني أحياناً اخرى لا أنسى، وإنما أتذكر الأشياء وهي في حالة تشوه وتشويش .. أنها تلوح لي صغيرة، هزيلة متداعية ..ومن خلالها أتصور أوضاعنا، وأحياناً تواجه ذاكرتي وتحتلها، وهي أكبر، وأقوى وأعظم من حجمها الطبيعي حالة أجنبية ..!؟‏

 

-قالت زوجتي : إنني على علم بالفوضى الضاربة في أطناب ذاكرتك منذ أكثر من ثلاثين سنة.. وهي فوضى عامة في هذه الأيام الكسيحة، ولقد أصيب بها الكثير من / النجوميين / الذين كنا نعتقد أن عقولهم لن تقع أبداً في مطبات الانتكاس..!‏

 

إنني أذكرك يا زوجي المريض ..بأيام تشرين 1973م. الم تكن تقسم أمامنا بان اسرائيل ( غولة ) عملاقة، ولن يستطيع أحد مغالبتها .. ثم لما قهرها العرب في سورية ومصر قلت لنا - باسماً- ليس هناك رأي ثابت في مفهوم العملقة، وإنما الذاكرة القزمة ، هي الوحيدة التي تعملق الأقزام..! أتذكر ذلك ..!؟‏

 

-قلت : ربما أكون قد قلت ذلك ..!‏

 

قالت: ذكرت أنك ميال إلى الشواطئ الأبيضية القريبة والمقابلة.. وهزك الحنين إلى مالطا أكثر من لبنان..! هل نسيت بأنك قد أخبرتنا أكثر من مرة، بميولك العاطفية نحو أمريكا، وكندا، واليابان ..! هل هذه الدول النائية قريبة منك مثل مكة، ودمشق، وبغداد والقاهرة ..!؟ ألم تحاول أن تتذكر بان أجدادك جاءوا إلى هنا من أحضان الجزيرة العربية ، على ظهور الخيل والجمال، وعلى الأقدام، حيث رسموا على الأرض، خريطة هذا الوطن العربي الكبير، وأنت اليوم تفكر في رسم خريطة طفيلية جديدة على الماء ..!؟‏

 

الا تستطيع يا رجل دارنا، أن تتخلص من تقزمك هذا وتعود إلى طبيعتك الإنسانية..!؟‏

 

كنت اتحاور مع زوجتي، وأسترق النظرة إلى المرآة بين الفينة والأخرى ، وفجأة أحسست بغشاوة من الكلل المضني، تشد صدغي بقبضة حديدية وتتحول إلى صداع ضاغط، يكتسح جفوني فيثقلها، ثم يجعدها ويشرعها كعيني محتضر. ولم أعد أعي من كلام زوجتي شيئاً.. بحلقت في المرآة، وركزت نظري.. كنت كمن يعيش حلماً غريباً، أرى امرأة أمامي تتحرك شفتاها ويداها وتتسع عيناها إلى حد رهيب.. وتتضخم وتبتعد.. وتتضخم وتبتعد، بينما يقف إلى جانبها رجل قزم، اسمر.. أخذ يصغر، ويقترب مني، ويصغر ويقترب مني، إلى أن صار في حجم الفأر.. ثم فتح شدقيه، وهجم نحوي ، وابتلعني..‏

-قال ولدي الذي سجل هذه المذكرات: إنني جمعت أصابعي المتشنجة، في قبضة عملاقة. وهويت بها على المرآة ، فتطايرت شظاياها مع قطرات من دمي، وكنت أصرخ: لا.. لا.. لا.. ؟‏