قــصـة فــنان

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : ابراهيم كبة | المصدر : www.awu-dam.org

 

يجب أن أثابر في طريقي.اذا لم أفعل شيئا، اذا ما توقفّت عن الدراسة،عن البحث.عندها ستكون المأساة .‏

- فانسنت فان كوخ -‏

عجّ المنزل وازدحم.ابتغى سبيلا الى السكون والهدوء بلا جدوى .عانت سعاد من الحمل وافرازاته.وعانى هو من الغثيان.وخزته يقظة طارئة وخزا أليما.انّ ما بدا غاية المنى يتراءى الآن نزوة هوجاء ولطافة الأمس استحالت الى سلاطة لسان وحدّة طبع.ارتدى ملابسه وانتعل حذاءه.‏

-الى أين؟‏

صرّ على أسنانه.كظم تبرّمه.هرع الى الخارج.شدّما تبدو دميمة حين تماحكه.تمتصّ عيناه ألوان ومعالم وظلال الأشياء.يجيل طرفه في امعان فيما يطيف به.بصره فرشاة وألوان.انحسرت اشعة الشمس.حبا ظلام الليل بتؤدة.سكنت حركة البيع والشراء.هام في أرجاء المدينة.اعتكر الليل.زواجه فعلة شنعاء بدرت في لحظة جنون.غمز نجم ناء. عاد أدراجه الى المنزل.انّها ترصد أوبته بلاشك.لعلها تهمّ أن تتهكّم.لن ينبس ألبتة.اضطجع في فراشه.كدّره صخب الأطفال.ينبغي أن تزهر عبقريته بمنأى عن صراخ زوجته وجلبة الأطفال،ومشكلات الحمل والوحم والولادة.احتسى فنجان قهوته بتأنّ.شخص بصره نحو لوحاته عصارة ضناه.بدت غائمة وعجماء.غطّ فى النوم .عليه غدا أن يبحث عن عمل.‏

جال في أنحاء المدينة.ليت العمران يسرى بلاحد،حتى تغدو المدينة متاهة توائم حيرته.تأجّجت جذوة لفافته.نفث سحابة دخان.تناثر شرر خفيف.انتابته نوبة سعال جاف.لا مندوحة من ايلاف مالا يؤلف.شملته كآبة.هاهي ثمرة استهانته.اهتدى بعد لأى الى عمل.خال انّه لا يعيق تشوّفه الى الابداع.بائع في محل أزهار . ربّما يحثه ويحرضه ويثير توهج حس الفنان هاج ألمه بغتة.اجتاحه اجتياحا.تقلّص وجهه من شدّة الألم.غمغم‏

-تبّا.‏

تلوّى من الألم.جلس على قارعة الطريق.انجابت غمّة الألم.ثاب اليه صوابه.رمقه بعض المارّة في دهشة.لم يعبأ به أحد.التقط أنفاسه ونهض.اتجه الى منزله.استلقى في فراشه.‏

-ألا تسأم من النّوم؟‏

-انّي مريض‏

-لا تفتأ تتشكى‏

آثر الصمت.لوى وجهه.قال بلا حماسة:‏

-عثرت على عمل‏

-بشرى لنا.‏

تهلّلت أساريرها.خبا هياجها.قالت بعد هنيهة صمت:‏

-هل تتألم حقّا؟‏

-عقابيل‏

هيأت له شرابا ساخنا.زجرت الأطفال.أطفأت النّور وأوصدت باب الحجرة.لفحته أنفاسها,أسبل جفنيه،وغطّ في نوم عميق. خاض عباب الظلال، وغاص في أوحال الطريق.سعى نحو قرص الشمس . توارى خلف شجرة رمّان خضراء.انّها لا تثير سوى برمه وضجره,الشمس عبرة هائلة.لولا الأبناء.أذاقته ألوان الأذى والشقاء.تأوه.توهّج شعاع خاطف من عيني قط.لاحت علائم الانشراح على وجه احسان،ثّم غشّى الظلام الحلم.وطمس معالمه.أيقظه صخب الأطفال وصراخ الأم.‏

هيّأ لنفسه فنجان بن.قالت له:‏

-متى تشرع بالعمل؟‏

-أول الشهر القادم‏

جنحت الشمس للمغيب.نفث المغيب حمرة ورقّة.خبا وهج الحرّ.‏

أشجته سمرة المغيب وسحرته ظلاله.تأهب للخروج.‏

-الى أين؟‏

انّ قلقه مسعى الى غاية غريبة.وطوافه ترجمان حيرته.الفرشاة تخونه،وأنامله.المرض يجتاحه مثل اعصار.طاف في الطرقات.قرأ اللافتات،ورنا الى الاعلانات.تفّرس في الملامح مليّا.احلولك الظلام.تسمّر ازاء متجر ساعات.حدجه بائع الساعات بنظرة عابرة ، نظر الى انعكاس صورته على زجاج الحانوت.هاله هزاله. مشى على غير هدى.التهمت عيناه ظباء.‏

ثمة أسئلة لا حصر لها بلا اجابة.خفّ الى حانة (الشرق) .احتسى الجعّة بلاترو. خرج لايلوى على شيء.صافح شرطي مرور.عدا خلف سيّارة.هوى شهاب لامع تلاشى في فضاء بهيم اعترضت سبيله حفرة.دهمه غثيان.وثب بيد انّه هوى.لبث ساكنا برهة.ثم نهض بتؤدة.تخاذلت قدماه.خاض عماء الطريق.دلف الى منزله.تعالى نشيجه في عتمة الممر.هرعت اليه سعاد.‏

-ماذا دهاك.لم تبكي؟‏

-آثر كتمان أشجانه.‏

هاج الألم في جوارحه واعضائه.تهافت عليه الأطفال.أوى الى حجرته.انهالت لعناتها على الأبناء.صمّ أذنيه وتهاوى على فراشه.نبض صدغاه بعنف.غلبه الكرى والونى.‏

انّها لا تعبأ به البتة.لا تعنى به.رنا الى صورته في مرآة.بدا عليه الاعياء وانحطاط القوى.انبرى يعدّ قهوته.أهمل نفسه وفنّه غاية الاهمال. ازدرى نفسه. تناول فرشاة الألوان.لبث برهة ساكنا لا يريم.تفّرس في الفرشاة والألوان وقماش اللوحة الأبيض.‏

وجم.شلّ عيّ طارئ خياله.ورانت على بصيرته قتامة.كبا ذهنه اعتصره الأسى.اندسّ في فراشه.ارتعد ظاهره وباطنه.هاج داؤه بغتة.اصطلح عليه اليأس والألم. تلوّى وتثنّى.كتم صرخة ألم.أنّ أنينا مكتوما،ثّم غاب عن الوعي.لبث مسجّى على فراشه بلا حراك طوال الليل.غمره ضوء الفجر.تمطّى وتثاءب.تلاشى الألم وخبا توتّر الأمس.ثاب اليه وعيه وهدوء أعصابه.هبّ قائما.بارح منزله.‏

المدينة شبه خاوية،ونسائم الصباح تلفحه بلطف.‏

الى أين؟قال لنفسه،ينبغي أن أحتسي بنّ الصباح.سعى الى مقهى الساعة.تهالك على مقعد خلف زجاج المقهى.أشعل لفافة خفَّ إليه نادل المقهى.‏

-قهوة‏

-سادة؟‏

-سادة‏

دبّت الحياة في الطريق.تعالى اللغط.ردّد بصره بين الملامح بلا غاية.بهره شعاع الشمس.لوى رأسه الى أن ألف ضؤها.اطرد سيل السيّارات.بارح المقهى.انّ شذوذه له تعليلاته وأسبابه.أين عساى أذهب الآن؟لجمته الحيرة وهلة.لفحه نسيم رقيق.جرت سحائب بيضاء متفرّقة في السماء.سلخ الخريف ووافى الشتاء.انّه فصل يلائم مزاجه.غاص في بحران تأمّلاته.صمّم أن يستقل (ميكروباص) يجوب به المدينة.تسمّر عند اشارة المحطّة.‏

-طاب صباحك.‏

صوت عذب رخيم.انتزعه من لجّة تأملاته.‏

-احسان‏

انفرج تقطيبه.صافح أناملها‏

هه.شدّما تمنّى مفاجأة كهذه.سمراء.هيفاء.لبثا برهة صامتين علام تتلكأ.انّها تحبه حقّا.‏

-احسان.أود أن أصحبك الى المزرعة‏

-يبدو عليك الاعياء‏

استقلا الحافلة.أنعشه نسيم الصباح.رمق احسان فألفاها ترنو اليه.‏

-أخشى أن أكون ضيفا ثقيلا.‏

-ألبتة.‏

انّها لاتني ترمقه.تبادلا الابتسام.انبعثت رائحة كريهة من الأجساد المتلاصقة.‏

-جاء الشتاء.الأوحال والبرد‏

-ألا تحبين الشتاء؟‏

-انّي أهوى الرّبيع.‏

زخرفة الطبيعة في الرّبيع مثل زينة موسى.‏

أفعمت أنفه رائحة الأنثى.انحنى وطبع قبلة على شفاه قانية.تمتمت‏

-ياللجسارة‏

ثّم أردفت:‏

-ألا تود أن ترى المزرعة‏

-بلى‏

-هلم بنا‏

طاف الاثنان في المزرعة.نداء الحياة لايسكن في الأعماق.قالت له:‏

-انّك طفل‏

-قد شاب شعرى‏

خفّ الى فرشاة الألوان وشرع يرسم.تدفقت شحنة من الانفعال.انتابته حمّى.رسم حديقة غنّاء ومعطفا وحقيبة.نفذ ضوء الفجر وهو عاكف على الرسم حتى خارت قواه.انهار على الفراش وغطّ في النوم خاض عباب السماء.الضباب والظلال يعيقان الرؤية.العين ترى ولا ترى.وثّمة نور بهره.انّ عبارة (أعرف حقّ المعرفة لا تعنى شيئا، ثرثرة في فراغ.ورأى وسمع ألفاظاً جوفاء بلا معنى) .‏

حين هوى من علياء الحلم لاحت له عينا قط تومضان في ظلام بهيم.انسلّ شعاع الشمس.لفحه لظاه.انتزعه من منامه.‏

- يجب أن أعثر على نماذج.صورة طائر في أوضاع شتّى.ونظارة سوداء.‏

جلبت له بنّ الصباح.تساءل:‏

-أين الأولاد؟‏

-أمام المنزل‏

-عجبا.‏

جاب طرقات المدينة.ابتلعه الزحام. سرى العمران ونما.رأى احسان بغتة.تبادلا تحية عابرة.لا يوجد عالم حلم وعالم يقظة. قضى الليل برّمته يرسم.بائع في حانوت أزهار.ياللزراية.انّ الابداع حقّا هنا.‏

مضى نحو الخلاء.شاهد انبلاج الفجر وحمرة الأفق،وارتقاء قرص الشمس،وسريان سحابة دكناء أمامه.ادركه الونى والكلال.‏

عاد أدراجه الى المنزل.أوى الى فراشه ونام بلا عناء.حين أفاق استحم،ومضى توّا الى مرسمه.غاص في بحران تأمّلاته وأخيلته.طفق يرسم بلا توان.امرأة عارية بلا وجه وحصان وكأس خمرة.عاوده طيف احسان.دارى توقه اليها خلف حمّى العمل.‏

تداعت صحته.نهرته سعاد.قال لها وقد احتقنت عيناه:‏

-هل العالم نسيج عنكبوت؟‏

نظرت اليه نظرة حائرة‏

-هل السماء قبّة؟‏

-ياويلتا.انّه يهذى‏

-هل أنا حشرة؟‏

غاب عن صوابه،وتهاوى على الأرض.عجّ المنزل واكتظ.انّها تمقته الآن بلا ريب.لاتفتأ تتشكّى.شخص بصره نحو الفرشاة والألوان.جنحت الشمس للمغيب.خفّ الى فرشاته.تريّث هنيهة ثّم شرع يرسم.قرص شمس أحمر قان.يتوارى خلف شجرة رمّان خضراء.وعينا قط تتوهجان في ظلام حالك