طــائر الـــدَّان

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : عبد الفتاح عبد الولي | المصدر : www.awu-dam.org

 

 

مرة في كل عام وفي مثل هذه الساعة من هذا اليوم وبعد أن ترحل الشمس، يزورني طائر الدَّان. يباتُ في شرفةِ قمرية نافذتي ويغادر قبل احمرار الشفق. تلك عادتهُ ولاأدري لماذا يختارُ هذا الوقت بالذات. إنهُ صديقي، أسود الريش ببقع بيضاء. لاأعرف لماذا خُصَّ بهذا اللون. تلك حكمة الخالق سبحانه-. عمرُ صداقتنا هو عمري. في العام الأول من تعارفنا، علمني لغته: هي انكسار الضوء. إيقاع المطر وهي صفير الريح، من المستحيل ابتكار أبجدية لها. هل للضوء وللمطر وللريح لسان كلسان الإنسان؟!.‏

 

 

أرقبهُ من خلف زجاجٍ ولُثمة، إنهُ طائري الجميل، أسود الريش ببقع بيضاء، يجيء بعد رحيل الشمس. يضرب بجناحيهِ الهواء الضَّحل ويحطُّ على شُرفة قمريَّة النافذة.‏

 

 

يُسعِد مساءك ياملك المدى..‏

 

 

إنَّ بي عطشاً لصوتك، غناؤك يروي جفاف روحي. كنتُ أكنس آثار من خَزَّنوا القات مع أبي الحاج، في مفرج البيت. رتبتُ المساند والوسائد والمتاكي وطردتُ دخان المدائع والسجائر. نفضتُ الثرثرة عن السجاجيد. جمرُ الموقد كاد يحرقُ لُثمتي.. يالطيف، لو عرف أبي الحاج ذلك لذبحني.‏

 

 

انزل ياصاحبي وقف على ركبتي مثل كل عام. أود ان أتلو عليك سور شجني. حُبوب الدُّخن في كفي. هيَّا ... تناول عشاءك من يدي فأنت جائع. إروِ ظمأك من فمي فأنت عطشان.‏

 

 

لماذا لاترد؟!. هل تعب السفر هدَّ ضلوعك، أم أنك مصاب بنوبة دوار الفضاء؟، لماذا تستجرُّ مصل النعاس من حوصلتك؟!.نجومي العشر انطفأت. الأكسجين في بيتنا نادر وهذا القفص يحاصرني. أبي الحاج مزق دفاتري وكسر أقلامي. أبي الحاج البسني الشرشف وقطع الحبل السري الذي يربطني بشجرة الحياة. الوقت في بيتنا مهرة مُحَجَّبة. لاتنم ياطائر الدَّان فالمصلون لم يعودوا بعد من المسجد. أتسمع؟.. إنهُ أذان العشاء. حدثني عن أخبار الدنيا التي رأيت. هل العالم رحب خارج بيتنا؟!‏

 

 

¯¯¯‏

 

 

في الأمس بتُّ أتقلبُ على فراشي بين الصحو والنوم. حلمتُ أنني في قبوٍ مظلم، ضيق، أضيقُ من زنزانةٍ انفرادية. رأيت كاهنة الليل تلتف بشالٍ أسود وتهبطُ من قلعةٍ سوداء. رأيتها تناول أهلي حقن النّوم فناموا في خيمة الليل والليل نام معهم حتى تقرّحت جفونه. أمّا وريدي فقد لف جرعة النَّوم. فوجئتُ بكائن لالون لبشرته، شفاف كالزئبق، مفزع كالفزع. جلس بجانبي وأسند يدهُ على كتفي.. قال: -"هل ترغبين ياآنسة بهية. أنا طوع يديك. خدماتي مجانية. اطلبي ماتشائين." ولما رأى قروح الخوف على وجهي.. قال: -"لاتخافي. تأجيل." لم أفهم قصده. وعلمت من حديثه أنهُ يُدعى "أبا شريم"، لايحملُ شهادة ميلاد ولا وثائق ثبوت جنسية، لأنهُ كما قال، ولد قبل تاسيس مصالح السجل المدني، يتنقل في أطلس العالم دون جواز سفر، لامقر إقامة لهُ، يظهر في كل مكان ولايختفي بمكان، لايُرى إلاَّ وقت الحاجة، بدون فصيلة دم وجمجمتهُ بلامقاس، آثارُ بصماتهِ ومواطئ أقدامه تُنسى ولكنها لاتُمحى، كالظل يتبعُ فريستهُ ويتورَّكُ للأحياء فيصرعهم، لايفرق بين الأب وابنه ولابين الزوج وزوجه رغم أنهُ يفرق. يؤكد الأطباء أن حواسهُ سليمة وكريات دمه لاتشيخ، لايشبع ولايرتوي وذلك أمر عجز العلماء عن تفسيره. مقطوع من شجرة. من شِيَمِهِ الغدر ومع ذلك لاينفذ مهامهُ إلاَّ بعد تلقي الأوامر.. "عجِّل ياأبا شريم.. أجَّل ياأبا شريم.". وقال أيضاً إنهُ فحص عينات من أدمغة أهلي فوجد أن أهم الخلايا فيها ضامرة، لم تستخدم منذ الطفولة. ثم أختفى عندما دفع ديك الفلك بوابة الظلمة، فرأيتُ الفجر يصحو والنور ينزل من برزخه مخترقاً تجاعيد المدى الواسع وينشر بُردته فوق القرى ويطرق درفة القبو الذي كنت فيه ثم ينسل بين القضبان الصدئة ويتسلل من ثقوب العنكب والعناكب كانت نائمة في مخادعها المضروبة إلى القضبان، كانت تملأ الدنيا شخيراً. نامي ياعناكب. لاتسمعي من يطرق الباب.‏

 

 

من يقرع بابنا ياطائر الدَّان؟.‏

 

 

¯¯¯‏

 

 

ياطارق الباب بعد العِشاء. لاتطرق الباب...‏

 

 

ثلاث طرقات على الباب، دلالة على قدوم ضيف.‏

 

 

من المسجد عاد إبي الحاج مصطحباً سجدة ولحية وقَذَى.. سحبتُ الحبل الموصول بالمزلاج الخشبي. انفتح الباب.‏

 

 

-"الله.. الله. يالطيف."‏

 

 

اختبأت النساء من اللحية المصبوغة بالحناء ومن غمازتي القذا.. من صائم الدهر." ضيفنا يصوم النهار ويقوم الليل. يحفظ سور القرآن بجميع الروايات ويخزنُ تحت عمامتهِ عشرين ألف حديث."‏

 

 

-"الله.. الله. يالطيف."‏

 

 

ذاب الهمس وصمت الصمت في بيت الحاج.‏

 

 

يتنحنحُ الضيف ويمشط الأبواب والزوايا والكوات وشقوق الجدران وتلك الأمكنة التي لاترى بغمازتي عينيه المُخَرمَصَتين. صرَّار الليل يشرخ زجاج المساء.. "الله. الله. يالطيف ألطف."..‏

 

 

¯¯¯‏

 

 

أحضرَ طعام العشاء..‏

 

 

في الطست يغسل الضيف عروق يديه وفي داخل الطست يبصق. "اللهم اشبع جوعنا وجوع موتانا. باسم الله..". يغمسُ لقم الملوج بالسلتة، يأكل القشمي مع الحامضة، يلتهم الرز والباميا، ينهش اللحم البقري. يسقط طقم الأسنان.. ياساتر. تجشأ صائم الدهر كبوق التتر.. "الحمد لله".. سفره دائمة ياحاج."!!. يزيح العمامة المتسخة الحافة إلى فوق جبينهِ ويمسح الدَّسم على صلعته الملساء وعلى لحيته المصبوغة بالحناء وعلى الساقين المعوجين.‏

 

 

-"نحمد الله على نعمة."‏

 

 

يرتشفُ القهوة بصوت مسموع. من جوفه وعبر فوهة حلقه المزمومة انطلقت الكلمات، زخات، زخات. عن أطلاله تحدث وعن أملاكه أسهب في الحديث وتحدث طويلاً عن زهده وورعه وكراماته.‏

 

 

- "أرى أن قلبك أخضر ياحاج، مثل قلبي."‏

 

 

-"وماذا عن زوجاتك الثلاث ياضيفنا؟."‏

 

 

-عجاف ياحاج."‏

 

 

-"أنت متأكد من..."‏

 

 

-"أي بالله، رغوة عسل وبذر فجل مدقوق، يعقدُ على نارٍ لينةٍ ويعلقُ منهُ على الريق وعند النوم.. إبن المائة يعود ابن عشر. ووصفات أخرى مجربة.. أي، بالله."‏

 

 

-"تخيروا لنطفكم..."‏

 

 

-"وقد اخترتُ لي واحدة تُخَضِّرُ القلب ولكَ مثلها ياحاج."‏

 

 

-"ياسبحان الله. بهذا العُمر. العطيفُ بدون علجٍ ياضيفنا."‏

 

 

-"سيعادُ العلجُ إلى عطيفهِ بمشيئة الله إذا وافقتم."‏

 

 

-"على ماذا؟!".‏

 

 

-لكم زعكمة بنتي، ولي بهيَّة."‏

 

 

- "بهيَّة!!"‏

 

 

-"على سُنَّة الله ورسوله. المهر حسب الإتفاق والبيت الشرعي مستقل عن الضرات. وأحب اللآليْ إلى قلوبكم مالم يثقبُ... الفاتحة."‏

 

 

¯¯¯‏

 

 

نظرت بهيَّة إلى النافذة العالية. للنافذة قضبان صدئة ونظرت إلى العنكبوت. اعتلى العنكب ظهر صاحبته وبعد أن أكمل المهمة فرَّ من بين أنياب شبقها. خلف خيمة العنكب مرت سحابة تطوي الأفق.‏

 

 

قالت بهية:‏

 

 

-"ياليتني سحابة."‏

 

 

مرَّت قُبَّرة في الفضاء.‏

 

 

قالت بهية:‏

 

 

-ياليتني قبَّرة."‏

 

 

انكفأت المدينة تحت خاصرة الليل. المنازل أسرى يزاحم بعضها بعضاً والأضواء تتشنج خلف زجاج القمريات والشوارع ترتبك بين الأوحال. ينفض طائر الدَّان طحالب الليل عن ريشه ويطير في الفضاء الفسيح بدون أجنحة.‏