القرار الأخير

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : اسكندر نعمة | المصدر : www.awu-dam.org

 

 

أخيراً.. ياأبا بالفهد، اتخذتَ قراركَ الخطير.. قرّرت أن تتخلّى نهائياً وإلى الأبد عن قبرك الذي تسكن.. لاتؤاخذني ياأبا الفهد.. قرارُكَ هذا جاء متأخراً جداً.. إذ مامعنى أن تتخذ مثل هذا القرار بعد انقضاء عشرينَ سنةً على موتكْ.. لابأسَ، أنتَ حرٌّ فيما تريد... يبدو أن رغبة عارمة استبدّت بكَ الآن، وقرّرتَ العودة إلى الحياة... ولكن اسمح لي... ليس المهمُّ أن يتخذَ المرءُ قرارَهُ.. المهم أن يستطيع حماية وتنفيذ قراراته الصعبة التي يصوغُها ويعلنُها...‏

 

نعم.. قرّرتَ العودة إلى الدنيا.. ضقتَ ذرعاً بحياة العفونة والرطوبة والظلام.. قلتَ لنفسك: لماذا لاأغيرُ هذه الحياةَ الساكنة الراكدة.. لماذا لا أمزّقُ هذه المُلاءَات الترابية القاسية.. قرّرت بحزم، قراراً لاعودة عنه.. فتحتَ عينيكَ ياأبا الفهد.. لم يكن تحريكُ الأجفان والأهداب بعد رقاد طويل بالأمر السهل.. حرّكتهما بتثاقُل مرير.. آلمتكَ اللزوجة، أحرقت مقلتيك الروائح النفّاذة الخانقة التي تتغلغل في ثنايا قبرك.. تمكّنت أخيراً... لاحت لكَ ثغراتٌ وشقوقٌ متداخلة.. رحتَ تدفعُ بكفيّكَ القويتين الترابَ اللزجَ العفن الذي أُهيلَ على جسدك الصلب منذ عشرين سنةً مضت... أخيراً وبعد عراكٍ قاسٍ مرير تغلّبت كفّاك على الحجارة والأتربة، وبضربة محكمة من منكبكَ الأيمن، دفعت بمهارةٍ عجيبة ذلك الحجرَ الثقيل الكبير الذي رزحَ فوقك عقدين من الزمن.. تدحرج الحجر الثقيل.. لاحت لك أنوارٌ وقبساتٌ من أشعةٍ فضيّة.. تنسَّمتَ بلذةٍ تُذيب الأعصاب هواءً منعشاً لاتخالطه روائح النّزيز والنّتن والصّنان.. ملأتَ رئتيكَ هواءً طازجاً.. صرخْتَ بصوت يملؤه الحنان: هاأنذا قادمٌ إليكم ياأحبّتي.. التفتَّ حولك بآليّة عجيبة، لقد أيقنت أنّ أحداً لم يسمع نداءَكَ المحمومَ هذا، وبقفزةٍ بهلوانية رشيقة صرتَ خارج القبر، منتصباً على قدمين ثابتتين، كأنك لم تستسلم للموت الكلي طيلةَ هذه السنوات العفنة.. أخذتَ تدور في المكان.. سحرتكَ الحياةُ.. شمسُها.. هواؤُها.. أشجارُها.. طيورُها.. أطلقتَ صوتاً كالرعد: أنا عائدٌ أيّها الأحبة، يامن طرقتُم بأكفكم على قبري، ووضعتم عليه أكاليلَ ورد عطرة.. لقد اشتقتُ إليكم.. عائدٌ لأعيش معكم... أحدٌ لم يردَّ عليك.. أيقنتَ أنّكَ أطلقتَ صرخةً في العراء.. قلتَ لنفسك: سأستريحُ قليلاً... أقعيْتَ في مكانك كثعلب أعيتهُ الحيلة.. أغمضتَ عينيكَ بشدّة، ورحتَ تفكّر.........‏

 

جسدُكَ الناهضُ من القبر يترّبعُ فوق التراب... ذاكرتكَ رحلت إلى البعيد البعيد... أوغلت في ثنايا الماضي.. راقت لك صورٌ في الخيال... صورٌ راسخةٌ ملوّنةٌ بألوان باهتة رمادّية.. كنتَ آنئذٍ محمولاً على الأكتاف... تمضي في رحلتك الأخيرة إلى حيث لاتدري.. رحلةٌ هادئة رصينة ممتعة.. لايزعجكَ فيها زحام السيارات والأقدام المتراصّة.. ولاتدفُعكَ فيها الأكف والمناكب والدرّاجات.. ولايزكم أنفَك روائحُ العفونة والقُمامة في وسط النهار.. ولاتصل أذنيكَ أصوات الأغاني والألحان الرخيصة تعربدُ وتنطلق في كل مكان.. ولاتضغط صدرَكَ وروحك كوابيس الحياة .. الاجتماعية والاقتصاديّة.. رحلة هادئة صامتة تمتطي فيها متنَ راحلة غريبة عجيبة.. تستقلُّها لأول مرّة، متحرّراً من قيود الأسعار والأجور.. إذ لستَ مضطراً لأن تقلب جيوبك بحثاً عن مالٍ تسدِّدُ به ضريبةَ رحلتك هذه .. لأول مرّة ياأبا الفهد، تجدُ من يدفعُ نفقاتٍ باهظةً تتعلقُ بك.. أليس ذلك غريباً؟!! لم تكن تألفُ ذلك فيما مضى...‏

 

أجل.. ياأبا الفهد.. ظللتَ تتابع رحلتّكَ محمولاً على الاكتاف، تنظرُ إلى الحشد الهائل المحيط بك في ثنايا رحلتكَ الهادئة.. فلا تحدّثُكَ روحُكَ، ولا تتّخذُ في قلبك إزاءَ أيِّ واحد منهم حقداً أو حسداً أو عتاباً أو ملامة... عرفتَ أن الطريقَ، طريقَ الرحلة طويلٌ والمزارَ بعيد.. قلت: لامتّعْ ناظريَّ بهؤلاء الناس الذين غمروني بفضلهم، والتفّوا حولي وورائي، كما يلتفون حول زعيم أو وجيه، وتجشّموا عناءَ المسير كي يدلّوني على الطريق... هاهم رفاقُك في الوظيفة الذين قضيتَ في مصاحبتهم ردحاً من عمرك.. كنتَ وقتئذ تشغل منصب مدير عام.. أي نعم ياأبا الفهد.. مدير عام... نظرتَ إليهم بعيون عقابّية ونظرة حادّة.. أحدٌ منهم لم يُعركَ انتباهاً.. كان يشغلُهم أمرٌ آخر.. أصابَكَ ذهول محيرّ... أنصتَّ إليهم برهافة... كانوا يتهامسون وهم يتعثرون في مشيتهم.. إلا أنّ أذنك المرهفة سمعتْ كلَّ نأمة وهمسة.. كانوا يتجادلون بعنف، ملامحُ وجوههم تفضحُ أسرارهم.. أحدهم يتهجّم.. الآخر يهادن.. الثالث يلوي أذن الرابع ليقولُ له شيئاً لايرغبُ فيه أحد.. اشتدَّ الخلاف بينهم.. كادوا يتشاجرون... من سيخلفُكَ في منصب المدير العام، وهو منصبٌ أنت أعلم به ياأبا الفهد... منصبٌ خطيرٌ وهام.. يقودُ صاحبه إلى الوجاهة والرفاهية وتحقيق الاماني الصغيرة والكبيرة.. ويقلب تفاصيلَ حياته رأساً على عقب.. ساءَكَ جداً ياأبا الفهد.. أن يختلف الناسُ من بعدك... فلجأتَ إلى الصمت المطبق ورحت تفكر....‏

 

رجلٌ يسيرُ في المقدّمة... يرسلُ بين الحين والآخر أصواتاً مترنّمةً شادية.. يطلبُ فيها الرحمة والاستغفارلك.. يقطعُ صلاتهُ ليسأل قزماً يسيرُ إلى جانبه سؤالاً على جانب من الأهمية.. لم يسمعهُ أحدٌ إلاّك.... عجيبٌ أمرُكَ أبا الفهد... لماذا تسمعُ كلَّ.شيء... من أين واتتكَ هذه المقدرة الخارقة.. لقد سمعتهُ يقول: هذا مدير عام.. يجبُ ألاّنقبلَ إلا بأجور تليقُ بمنصبه.. ثم يضغط بكفّه الكبيرةِ على كف القزم المجاور... حاولتَ أن تقول لهما شيئاَ .. خانتك حنجرتك .. تساءلت بمرارة : أين اختفى صوتي ؟؟ اعرضتَ عنهما ، كما حولتَ ناظريك عن مجموعة رفاق الأمس المتخاصِمين... تجولتَ بعينيكَ بعيداً... سيلٌ متدفّقٌ من الرجال يسير وراءَك.. انصبّت عيناك فجأة على ابنكَ الأكبر.. كان مطرقاً حزيناً.. آثار الدموع النديّة تملأ مقلتيه.. حاولتَ أن تقترب منه لتقبلهُ وتمسحَ على شعره وخدّيه.. لم تستطع.. صرخت في أعماقك: ويلكَ ماأعجزكَ ياأبا الفهد... كان قلبكُ يتكسّر إذ تصورتَ أن ابنك سيتركُ حياتهُ الجامعية ليستطيعَ مواجهة حياته المقبلة الصعبة... وخَزَكَ الألم والنّدمُ بقسوة.. تساءَلتَ بمرارة: لماذا لم أترك له ولإخوته مايقيهم شرَّ الدنيا والحياة؟؟!!.. لماذا أنفقتُ كلَّ مالديَّ، وقد كانت جيوبي وخزائني متورّمة تضيق بما فيها!!.. شعرتَ بالندم والاستخذاء، لأنكَ أتلفتَ كلَّ شئ.. لكنك سريعاً ماتسلّحتَ بمبرراتٍ مقنعة.. قلت لنفسك: لم أكن أتوقعُ أن أموتَ قبل الأوان هكذا فجأةً... تبّاً للموتِ ماأقساه.. كان يجب أن يمهلني كي أشبعَ من دنياي، وأتركَ أولادي من بعدي في بحبوحة من أمرهم... لكنك ياأبا الفهد... استراحت خواطرك وأعصابُكَ عندما تذكرتَ وأقنعتَ نفسكَ أن الأعمار والأسعارَ والأموال والقصور بيد الله وحدَه...‏

 

أبعدتَ ناظريكَ عن ابنك البكر.. خفتَ أن تعود إليك خواطر الندم والألم فتجلدك بقسوة من جديد .. راحت عيناك تلوبان بين الأجساد المتدفقة ُ وراءك.. فجأة تسمّرت نظراتك على وجهٍ واضحِ الملامح.. تغطّي وجههُ ابتسامةٌ موزعة بين الحزم والشّماتة.. حاولتَ أن تهرب.. أن تبتعد عنه، خانتكَ عيناك... ظلّتا مسمّرتين بقدرة عجيبة على وجهه.. أيقنتَ أنه يراك، يحدّقُ فيك بشدّة.. يحاصُركَ بعنف.. انخلع قلبُك من مكانه.. شعرتَ بخجلٍ مرير.. خجلِ مَنْ أخذ كثيراً ولم يعط شيئاً.. قرّرت أن تدير له ظهرك.. لم تستطع ياسيادة المدير.. فقدماكَ كانتا مغلولتين.. وجسدُك ملتصقٌ باتقانِ إلى راحلته الغريبة العجيبة التي لاعهد لك بها سابقاً.. وظلّت عيناك معلّقتين به تمتصّان ابتسامته اللاحياديّة... جلدتْكَ نظراتُه... أذابتكَ ابتساماتُه.. لعلّه كان يطالُبكَ بشئ ما... تذكّر جيداً ياأبا الفهد.. لعلَّ الأمرَ كذلك... مسكين ياأبا الفهد، أردتَ أن تصرخ وتقول: ارحمني.. فأنا الآن كما ترى، عاجز، ضعيف، لاأملك شيئاً... لكنك، لم تستطع أن تقول شيئاً... فجأة، واتتكَ شجاعة خبيئة.. وخزتكَ جرأة طفيليّة تطاول جسدُك في الفراغ... سبح فوق رؤوس الناس.. وضعتَ فمكَ على أذنه... همستَ بثقة: لماذا تحدّقُ فيَّ هكذا؟؟.. ألسنا شريكين في كل شئ؟!...‏

 

تراجعتَ بسرعة إلى راحلتِكَ العجيبة.. تقوقعتَ من جديد فوقها.. فإذا بصاحبك ياأبا الفهد، ينفجرُ بضحكات هستيرّية، فرقعت في الفضاء كرعد صاعق.. لكنك لذتَ بالهدوء والصمت، وحمدت ربَّكَ أنّ أحداً من السائرين وراءَكَ لم يسمع شيئاًمن هذا الأنفجار...‏

 

***‏

 

أيقظكَ ضحك صاحبكَ المتفجّر من تداعياتك البعيدة.. كنتَ تتربّعُ على التراب قربَ حافة القبر.. قفزتَ في مكانك على قدمين متباعدتين، ورحت تنفضُ التراب عن مؤخرتكَ.. أحسستَ أنك أوغلت كثيراً في دهاليز الماضي البعيد.. تذكرتَ قرارَكَ الأخير بالعودة إلى الحياة.. استبدَّ بك الحنين إلى أحبائِكَ وأهلِكَ وأصدقائِك.. نظرتَ خلفك، كان القبر يفتح شدقيه ببلاهة.. أعرضتَ عنه ورحتَ تغذُّ السير باتجاه المدينة.. كانت البشاشة والفرحة تملأان قسمات وجهك، عندما وجدت جسدكَ يدبُّ بين أزقة المدينة وشوارعها.. سرتَ مشدوها، مذهولاً، لم يأبه بكَ أحد.. أنت وحدّك تسير متمهلاً.. الناس من حولك يسيرون مسرعين متأفّفين... تعثرت قدماك كثيراً.. اصطدمت مراراً بالأجساد المتعّجلة.. تكورت على الاسفلت أكثر من مرّة.. لكنك كنت ماتزال فرحاً مسروراً، لأنك بدأت بتحقيق حُلْمِكَ ياأبا الفهد.. كانت عيناك تمسحان كل شئٍ حولك.. بفضول غريب وقفتَ في منتصف الشارع.. لم يتوقف أحدٌ سواك... كلهم ذاهبون ورائحون.. أنتَ وحدك توقفت... حاولتَ أن تقرأ يافطة قماشية عريضة تأكل فضاء الشارع كلَّه.. ازورّت عيناك.. تلجلجت شفتاك.. مسكين ياأبا الفهد.. لكأنك نسيتَ القراءة والكتابة.. لجأتَ إلى التهجئة.. أخيراً قرأتَ بفرح ساذج: أنتم على موعد مع فنان الشعب، ضارب الدربكّة العالمي الشهير حسوان الأسمراني... سُررتَ لأنك حللتَ لغز الكتابة.. لكنك مططتَ شفتيك، وتابعت سيرك متعجباً مما قرأت..‏

 

كنت تمتطي متن الرصيف، وتنحدرُ إلى قاع الشوارع هرباً من الأجساد البشرية المتراصّة.. شئ ماذكرّك بعفونة القبر ولزوجته وصنانه.. غيومٌ سوداءُ حارّة خانقة تخرج من أمعاء السيارات لتحطَّ على رأسك ورؤوس الآخرين.. تساءَلتَ ببلاهة.. لماذا يخفضُ الناس رؤوسهم؟؟ لماذا لايرفعُ المرءُ رأسه وهو يسير؟!! تلمظتَ.. لوّحتَ بيدكَ.. لم تعرف شيئاً...‏

 

قرّرت أن تمضي.. انحدرتَ إلى شارع آخر.. كان مكتظّاً بالمحلاّت التجارية.. عروضٌ مغرية.. ملابسُ أنيقة.. موادٌّ شهيّة.. بضائعُ آسرة... راقت لك تلك المشاهد، وقفت تراقبُ حركة البائعين والناس.. أجسادٌ فتيّة تتلوّى.. ابتسامات تتناثر.. انحناءات جسدّية تُمارسُ برقّة وأناقة، لاعهد لك بمثل هذه الطراوة واللباقة.. شدَّك المشهد أكثر.. اقتربت.. اصطدم رأسّك بواجهة زجاجية لم تكن مرئيّة.. ارتبكتَ كثيراً.. نظر إليك الغلمان من الداخل .... أعرضوا عنك ... رحت تقرأ لوائح الأسعار . لم تفهم شيئاً بادئ الأمر.. تذكّرت أنه قبل أن يطبقَ القبر أحجاره عليك، كنت تخاتل البائع بأرقام سهلة الحفظ واللفظ والقراءة.. أما الآن وبعد أن لفظَكَ القبر من بين شدقيه.. الأمرُ عجيبٌ والأرقام غريبة مخيفةٌ مذهلة... قلتَ لنفسك: لعلني نسيتُ الحساب كما نسيتُ القراءّة.. آه لسذاجتك ياأبا الفهد... أسعدتكَ خواطرُك بأنك لست بحاجة لشراء أي شئٍ من متاع هذه الحياة الدنيا.. طربتَ لهذه المشاعر، ورحت تغذُّ السير تائها من شارع إلى آخر.. حاولتَ أن تستقرئ وجوه الناس، لم تستطع.. التجهّمُ يأكل الملامح... الحيرةُ تمزّق العيون.. الشّفاه تتمتم.. غريبٌ أمرُ الناس!! ماذا يتحدثون؟؟ أيحدّثُ الإنسان نفسه كالمجنون؟!!.. لم ترق لك هذه الظاهرة ياأبا الفهد.. وعندما تأكدتَ منها، انفجرتَ ضاحكاً بعنف.. قلت لنفسك: هذا عالم آخر، هذا عالم الجنون والكآبة.. أنت أيضاً ياأبا الفهد تحدّثُ نفسك دون أن تدري.. اشتقت كثيراً لأن تزور الدائرة الرسمّية.. آهٍ ياأبا الفهد.. لقد كنت في يوم مضى وضمن جدران تلك المؤسسة مديراً عاماً... نعم.. مديراً عاماً.. سرتَ نحوها بخطوات ثابتة واثقة، لاتزال تعرف الطريقَ إليها.. قبل أن تلج البابَ الرئيس.. شددتَ ياقتكَ.. هذّبتَ شعرَ رأسك.. أدخلتَ أزرار معطفكَ في عراها.. تنحنحتَ قليلاً، ودخلتَ بكل كبرياء.. مشيتَ ببطء شديد في ردهات المؤسَّسة.. هذه غرفتي، غرفةُ المدير العام... كانت مغلقة.. طرقتَ البابَ بأدب وكبرياء.. لاأحد في الداخل.. البابُ مُرتج.. تجولتَ في الممرات،دخلتَ إلى غرفة الديوان العام.. كان غاصاً بالناس والموظّفين... بكل أدب واندفاع، أطلقت صوتك: السلام عليكم.. لم يأتك الجواب.. لم يلتفت إليك أحد.. كرّرتَ السلام مثنى وثلاث ورباع.. لم يردَّ عليك أحد.. لم يلتفت إليك أحد، كان الجميعُ غارقين في همسٍ كفحيح الأفاعي، وإشاراتٍ خرسٍ غامضة، وحركات مثيرة.. الأيدي تخترق الجيوب، وتخرج قابضة على مغلّفات منتفخة.. ودروجٌ تفتح، وأخرى تغلقُ بتواتر منتظم.. وبين العيون الزئبقيّة يدور حديثٌ يُغني عن الشّفاهِ والكلمات....‏

 

استدرتَ ياأبا الفهد.. خرجتَ كمن يحبو على قدميه.. باطل الأباطيل ياأبا الفهد.. ألم يعرفك أحد!! كأنك لم تكن في يوم مضى الرأسَ المدبّر والقبضة الفولاذية لهذه المؤسسة..خرجت ، وقد بدأت تشعر بأنّك غريب في مجتمع أكثر غرابة ..‏

 

عندما طرق نعلاك اسفلت الشارع ، وقفت قليلاً .. تنفست الصعداء . اسندت ظهرك إلى جدار قريب . أغمضت عينيك ورحت تفكرّ.. فكرّتَ ملّياً... هززتَ رأسك متأسفاً.. فضحتكَ ذبذبةُ شفتيك... حدثتكَ نفسُك: الأمرُ مختلفٌ جداً.. في زماننا، لم نكن هكذا... صحيحٌ أنّنا... ولكن الأمر الآن مختلفٌ جداً... سحبتَ ظهرك عن الجدار.. شمختَ ياأبا الفهد بجسدك المتكوّر.. انتعلت طريقاً جديدة، وبدأت تسير على غير قصد.. أنصتَ لنداء المعدة الخاوية.. رحتَ تلوبُ بعينيك بحثاً عن زاوية تبتاعُ منها شطيرة تسدُّ بها الرمق.. وقفت أخيراً أمام واجهة زجاجية صغيرة ، مددت رأسك .. أدمت النظر إلى الداخل لم تجد شيئاً مما اعتدت أن تأكله.. لفت انتباهك لائحةٌ معلّقةٌ على الزجاج مكتوبة بخط عريض.. لم تعرف أن تقرأ شيئاً.. قلت لنفسك: هذا عالمٌ آخر...‏

 

***‏

 

كان التعرّقُ قد أرهق جسدكَ ياأبا الفهد، برذاذه الحار... وسياطُ الصّداعِ بدأت تجلد رأسّك، وتضيّقُ أنفاسك.. أخذ صدرُك يعلو ويهبط بانفعال متوتر.. آلمكَ جداً ألاَّ ترى لروحك وجسدك مكاناً في هذا العالم.. لكم أشتقت لرؤية أحد أحبَّائك.. لرؤية من يعرفُك وتعرفه.. أخفقت.. وجدتَ نفسك غريباً في عالم أكثر غرابة.. تذكرتَ نداءك الحار عندما نهضتَ من قبرك، ودغدغت عينيكَ أشعة فضيّة منعشة.. جلدَكَ الصّداع أكثر.. تمزقت روحُك بين عوامل عدّة أخذت تدور حول نفسك، وتنظر ببلاهة.. لكأنّي بك ياأبا الفهد قد اتخذتَ قراراً سريعاً غامضاً.. أخذتَ تهرول باتّجاهٍ جديد. اتّسعت خطواتك أكثر.. الهرولة تحولت إلى عدوٍ سريع.. مهلاً ياأبا الفهد.. تمهّل.. علّني أستطيعُ اللحاقَ بك.. إنك تعدو بسرعةِ شابٍّ في مستهل عمره.. كان عهدي بك أنك تسير الهوينى... أيّ شئ استبدَّ بك ياأبا الفهد.. أعطني فرصة للّحاق بك أرجوك.. لن أترككَ تذهب بعيداً.. الخطوات تتسع، والجري يتحوّلُ إلى قفز في الهواء.. لم تعد قدماك ياأبا الفهد تلامسان الأرض.. إنهما يسبحان في الفراغ.. ماذا دهاك ياأبا الفهد... لن أتراجع عن اللحاق بك.. خرجتَ إلى العراء... ابتعدتَ عن شوارع المدينة.. ليتني أعرف ماذا تُضمر في نفسك ياأبا الفهد.. اللهاثُ يمزّق صدري وأنا لاحقٌ بك.. إلى أين تقصد.. من بعيد لاحت لي المقبرة تلتمع تحت آخر ضربات أشعةِ الشمس.. عجيب أمرُك ياأبا الفهد... أهو موقفٌ أم اشتياقٌ أم احتجاج.. أم ماذا؟؟!! ليتني أدري ماذا يدور في خلدك وأنت تعدو بسرعة فائقة نحو قبرك.. ألم تتخذ قراراً خطيراً بالعودة إلى الحياة؟.. ألم تشتق روحُك لممارسة الحياة من جديد.. فماذا بدا لك؟؟.. أيُّ شئٍ غيرّ توجهاتك السابقة؟؟‏

مهلاً ياأبا الفهد.. هاأنت تقفُ من جديد على حافّة قبرك، وقد استعدتَ كثيراً من هدوء نفسك الجيّاشة، وعادت الفرحة تملأ قسمات وجهك.. لاياأبا الفهد.. لاتفعلها.. قدماكَ بدأتا تغوصان في التراب الرخو اللزج.. وعلى وجهك ارتسمت ملامحُ القناعة والرضا.. لكأني بك كنتَ فريسة مقارنةٍ عجيبةٍ صعبة وانحزتَ إلى عالم الصمت الأبدي... مدهش قرارُك هذا ياأبا الفهد.. ركبتاك غاصتا بسهولة.. بدأ جسدُك يغيبُ رويداً رويداً.. يؤسفني أنني لاأستحقُّ منك إشارةَ وداع.. تلويحة يدٍ.. ابتسامة عينين.. التراب بلغ منك الكتفين.. العنق.. الرأس اختفيتَ تماماً ياأبا الفهد.. وداعاً.. لم تستطع تحمُّل المفارقات العجيبة.. فآثرتَ الاختفاء بصمت.. وسيأتي من يهيلُ التراب سميكاً فوق جسدك، ويدحرج الحجرَ عليك من جديد...‏