أخبار المهزوم

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : هزوان الوز | المصدر : www.awu-dam.org

 

 

أعلم أن خالي ليس من الرجال الطيبين، سرنا طويلاً في تلك الليلة الشتوية، الصمت يملأ المكان الذي يحتوينا معاً، شيئاً فشيئاً بدأنا نبتعد عن المنطقة المأهولة، اقتربنا من منزل منعزل يقع على أطراف المقبرة، بدا هيكله كبيت للأشباح الملعونة، دخلنا، شعرت بوجود شخص غريب، كان تنفسه يأتي ثقيلاً محشرجاً، سمعت خالي يقول: هه.. كل شيء تمام؟ فرد الشخص بصوتٍ عميقٍ: نعم.. إنها طازجة.‏

 

أمرني خالي: هيا احمل.‏

 

- ما هو؟!‏

 

- اخرس، احمل فقط ولا تسألني مرة أخرى.‏

 

شعرت بشيء طويل طري ملفوف بقوة وضع على كتفي، كدت أقع من ثقله، ورائحته الكريهة تنطلق من كل جزء منه، هذه الرائحة لم أعرفها من قبل، لم يكن صندوقاً.. أو قماشاً، كان جثة، وكدت أقع على الأرض.‏

 

حين سألني خالي: ما بك؟ سألته: هل هوميت؟‏

 

- نعم.. هيا اتبعني الآن.‏

 

- كلا سألقي هذه الجثة، ماذا يمكن أن نفعل بها؟ هل قتلته؟‏

 

ما إن أنهيت كلامي حتى هوت على وجهي كف خالي الثقيلة، شعرت بالدماء تتدفق منه، ثم قال: اسمع يا ولد، إن كنت لا تريد الحصول على عمل، فهيا عد إلى بيتك.‏

 

ارتسمت أمامي صورة أمي متمددة تتألم، الأمراض التي أهلكت جسدها، وحرمتها نهائياً من المقدرة على ممارسة أي عمل، وزجاجات الأدوية الفارغة التي أراها كفوهات الأسلحة تنهش لحمي، وأفواه الصغار الجائعة كيف أسكتها؟‏

 

أين أهرب من هذا الميراث الذي خلفه لي والدي بعد وفاته؟‏

 

والدي كان دائماً يردد: (الجوع مارد أسطوري، يحمل في يده سيفاً، وفي يده الأخرى فتات خبز، الناس عند قدميه أقزام، تظل تتقزم حتى تصبح صراصير، تتسلق الصراصير جسد المارد، تتسلق حتى تصل إلى يده الأخرى، تأكل فتات الخبز، ثم تنزل في موكب صامت حتى قدمي المارد، تبقى صراصير، وستبقى كذلك ابداً).‏

 

هل أعود للعمل في الفرن عند أبي زياد الذي حاول ممارسة اللواط معي، وعندما تمنعت وحاولت فضحه، طردني من العمل، واتهمني بالسرقة، ومنذ ذلك اليوم الجميع يرفضون تشغيلي.‏

 

لقد عانت أمي من فشلي في الدراسة والحياة، وبما أن خالي أقرب الناس إلى قلبها، فستصدق ما يقوله لها، ستراني بصورة بشعة وستدعو لي دعوات تهد الجبابرة، وتقتل العمالقة، وأين سأجد المكان الذي أحتمي فيه من انتقام خالي إذا رفضت العمل؟‏

 

حملت البضاعة الطازجة، سرت وراء خالي في أزقة ترابية نائمة تحت البرد والشتاء القاسي.‏

 

وصلنا الشارع العام، ركبنا سيارة قديمة راحت تهرول فوق الإسفلت اللامع، جلست مع الجثة في المقعد الخلفي، وجلس خالي إلى جانب السائق، كنت في كل لحظة أشعر بأن صاحب الجثة سيتحرك، ويمد ذراعيه إلي ويلفهما حول رقبتي، ثم يبدأ بالضغط شيئاً فشيئاً.‏

 

توقفت السيارة خلف أحد الأبنية، الظلام شديد لدرجة أني فقدت قدرة تمييز الأشياء عن بعضها، تبعت خالي وعلى كتفي طرد بشري هامد إلى الأبد، مشينا في ردهات وممرات طويلة تفرقت على جانبيها الأبواب والحجرات، كانت هناك رائحة بعيدة جداً، رائحة كأني أعرفها، حاولت التأكد منها، لم أنجح، يبدو أني فقدت حاسة الشم تقريباً، فحياتنا في تلك الغرفة التي تقوم وسط أكوام قمامة المدينة كفيلة بأن تفقد الإنسان أحساسيس عديدة، تابعت المسير، كنت قريباً من خالي كظله، خوفي من مفاجأة في هذه الممرات، فجأة انعطفنا إلى إحدى الغرف المظلمة، كانت باردة نوعاً ما، فتح شخص غريب كان بانتظارنا أحد الصناديق الطويلة الملتصقة بالجدار، سحب شيئاً طويلاً لم أعرفه، وضعنا البضاعة على هذا الشيء، ثم عاد وأغلق الصندوق بإحكام، أشار لي خالي بالخروج من الغرفة، بينما قبض هو بعض النقود، وقفت وسط الظلام، وكنت لا أفهم شيئاً البته حتى تلك اللحظة.‏

 

سرنا وحدنا في الليل، كنا في صمت مطبق، وكانت ابتسامة خالي الخبيثة تشي بالرضا، أخرج من جيبه مبلغاً، قال: هذا في أول الأمر، اذهب واشتر الدواء، بعد غد وفي نفس الوقت، سأمر لأصطحبك إلى العمل إذا كان السوق مناسباً.‏

 

سألته: ماذا أقول لأمي إذا سألتني عن العمل؟‏

 

- قل لها إنك تعمل في فندق.‏

 

سألته ثانية: لكني لا أعرف بعد ما هو العمل؟‏

 

- عتال.. عتال.. فهمت.‏

 

***‏

 

انقطع سير الباصات، ونشطت سيارات الأجرة، عدد المارة قليل جداً، الحانات الرخيصة تقذف إلى الطريق بالسكارى وهم يغنون ويعربدون، أنغام الموسيقا الراقصة تنطلق من الملاهي لتعكر الليل.‏

 

وأنا غائر كالمدينة، يحاصرني صمتي وأتجول وحيداً، أتسول في جسد يحمل نبض القلب، أتجول في الأمكنة التي لم تتجول في جسدي بعد، أنحسر كالماضي وأطلق زفرة تشق أوجاع الذاكرة، وأسكن في رحم الضياع.‏

 

سرت طويلاً في أزقة المدينة النائمة بعد أن تركت خالي، تسكعت في الشوارع قبل أن أصل إلى كوخنا، اقتربت من الباب، رفعت ذراعي لأفتحه، شعرت بشيء غير عادي، بشيء رهيب قد حدث، بصورة خاطفة تمر في ذهني فلا أميز محتوياتها، اقتحمت الباب ووقفت مصعوقاً، لقد حدثت المصيبة التي خشيتها دوماً، أمي.. أمي الطيبة.. الرحيمة، كانت ممددة على الأرض، وساقاها خرجتا إلى الأرض المبتلة، فازدادتا زرقة وتصلبا، عيناها مفتوحتان لا أستطيع وصف ما بداخلهما، كانت النظرة مرعبة رغم أمومتها، ورهيبة رغم أنوثتها، ومخيفة رغم طيبتها، أما أخوتي الصغار فكانوا في (سابع نومهم) رغم البرد.‏

 

بكيت، استلقيت بجانب جسد أمي الهامد المسلوب الروح، عانقته، نظرت من خلال السقف المثقوب إلى السماء، كان منظرها غريباً مخيفاً، السحب السوداء اجتمعت حول القمر الذي كان غامضاً، والنجوم لم تكن في تلك الليلة أبداً، رأيت المقبرة التي كنت بجوارها هذه الليلة مع خالي، المطر غزير، البرد يلسع، شبح يحمل شبحاً آخر، يسير به متعثراً وسط القبور، الطين يزيد من إرهاقه والحفر المليئة بماء السماء، رأيت نفسي أقترب من موقع الشبحين الغامضين، الموقع لم يكن غريباً عني، كان ذات الموقع الذي دفنت أمي به ، اقتربت أكثر، بدأت ملامح الشبحين تزداد وضوحاً، خالي يحمل الجثة الهامدة التي كفنتها هذا اليوم، يريد بيعها ليأخذ حفنة من المال، صرخت به: إنها أمي أعدها لمكانها.‏

 

- .........................‏

 

- إنها أمي..... أختك، كيف تبيع جسدها؟‏

 

- أمك صارت جسداً ميتاً، لقد أصبحت من التراب.‏

 

- أعطني إياها.‏

 

يصفعني، أترنح، يدفعني بقوة فأقع على الأرض، يركلني بقدمه فأسقط في الحفرة التي دفنت أمي بها، وها هو يرمي الطين والحجارة فوقي، أصرخ.. أصرخ.‏

 

استيقظت مرعوباً، رأيت جسد أمي ممدداً بجانبي، وما زال طازجاً، الدماء لم تبرد في عروقها، لففت الجثة بالأغطية، وانطلقت باتجاه بيت جارتنا أم حسن لتساعدني في هذا المصاب.‏

 

***‏

 

قبر صغير في أطراف المقبرة هو كل ما ورثناه عن أبي من أملاك، وكان دائماً يردد: (قد لا نملك بيتاً، لكن علينا تأمين قبر يسترنا في آخرتنا).‏

 

تكفلت جمعية خيرية بمصاريف دفن أمي، وها قد مضى ثلاثة أيام على دفنها.‏

 

شقيقي الأصغر يبكي، وآخر يجب عليه الذهاب للمدرسة، وثالث جائع، والجميع بحاجة لنقود، وأخيراً كلهم كانوا بحاجة للطعام، وقفت بينهم، أحاطت رغباتهم بروحي، حينئذٍ سيطرت علي فكرة سأم الحياة، وأن الحياة لا تستحق أن تعاش، سئمت كل شيء.. سئمت نفسي المحطمة البالية التي لم تجد شيئاً نافعاً.‏

 

تراجعت قليلاً إلى الوراء، تمنيت ألا أتمكن من النظر إلى الخلف كي لا أرى أي شيء مرمي، أحسست بالاختناق، ارتطمت إحدى ساقي بشيء ما، سقطت، التفت إلى اليمين.. إلى الشمال.. إلى..، دفنت رأسي في باطن الأرض، سقطت في نفق بعيد، بعيد نحو الأسفل، سمعت ضجة مرعبة، ولم أر إلا عيوناً تلمع، وأحسست بلسعات مؤلمة، تمنيت لو كان معي عود ثقاب واحد، صرت أتلمس ماحولي، ظننت بأني فقدت السمع، صرخت بأعلى صوتي كي أتأكد من ذلك، صمت، لم أدر إن كنت قد سمعت صوتي أم لا، بكيت، بكيت بصمت قاتل، تمنيت لو أعود إلى بطن أمي، تمنيت لو أن أمي أجهضت بي، لا.. لا.. كانت المسكينة ستبكي وتتألم.‏

 

لو كان لي قريب أذهب إليه، فأهل والدي هاجر أغلبهم إلى الأرجنتين منذ سنوات، ولم نعد نعرف عنهم شيئاً ولم يبق لنا من قريب في البلد سوى خالي اللعين.‏

 

تسمرت في الأرض وأنا أكاد ألتهب، أردت أن أبكي ولكن، أردت الصراخ فخانني صوتي، أردت أن أقتل. لكن من، أردت أن أفعل شيئاً، لكن... كل الأشياء كانت غائبة.‏

 

أحسست بأيد غامضة تهرس لحمي، وكانت الحمى تخز صدغي مهما حاولت أن أداويها برفع رأسي إلى أعلى وبرسم ابتسامة آملة على شفتي، ولكني لم أستطع شيئاً، كنت أريد الوصول إلى شيء، ويظل بحثي خاوياً، تحيطني أبواب موصدة لن تفلت منها نسمة هواء واحدة ولا خيط نور واهن صغير.‏

 

من جديد أهم بالصراخ، ولكني أصمت، والخواطر ترد على ذهني وتغترف من الماضي المختزن في ذاكرتي، وتتساقط أسيانه لتدق على صدري دقات موجعة، تكاد من ثقلها تحبس الدم في قلبي وتجمده، لولا بقية من حياة لا دخل لي فيها تدفع الدم في عروقي، وزفير يهرب من ضيق صدري فيخرج آهة متخاذلة.‏

 

هذا المساء، بعد أن استسلم إخوتي للنوم العميق، توجهت إلى مكان معين اتفقنا عليه، هناك وجدت خالي ينتظرني بفارغ الصبر.‏

 

- لماذا تأخرت؟‏

 

- حتى نام إخوتي.‏

 

سأل بسخرية: ألم ترضعهم؟‏

 

ركبنا سيارة حطت بنا على طرف المدينة، وصلنا هدفنا، رجلان ينتظران حضورنا، صافحهما خالي فقط، أما أنا فلم أجسر على الاقتراب، دخل الرجلان إلى كوخ قريب، إنها المرة الأولى التي نأتي بها إلى هذا المكان، تساءلت في نفسي عما سيفعله هؤلاء في الداخل خاصة وأنه ما من مقبرة هنا.‏

 

مرت دقائق قبل أن أسمع صيحة مكتومة، الأموات لا يصيحون ولا يسمع لهم صراخ قط، ماذا حدث؟ انتظرت خالي طويلاً، فتح الباب، خرج الرجلان، أحدهما يحمل كيساً من الخيش، مد يده بالكيس وقال: خذ، سألته: ما هذا؟‏

 

نظر الرجل إلى خالي وقال: ما هذا يا سبع؟ الصبي لا ينفع.‏

 

قال خالي: ماذا أفعل؟ إني محتاج لصبي مثله.‏

 

حملت الكيس، لم أهمس بكلمة واحدة، وبينما خالي يكلم أحد الرجلين على انفراد، اقترب الآخر وقال بلهجة ساخرة: افرد وجهك... فإنه لا يبعث على الاطمئنان.‏

 

قلت: لم لا تنظر إلى وجهك، لا يبدو وجه إنسان أبداً.‏

 

مر بيده على ذقنه الخشنة ثم قال: هه... فأنت تجيد الرد.‏

 

- نحن تلاميذكم.‏

 

تجهم وجه الرجل، أراد أن يقول شيئاً، لكن اقتراب خالي جعله يلوذ بالصمت، قال خالي:‏

 

- أراكما تحدثتما، بماذا يا ترى؟‏

 

ردالرجل: لا شيء يا سبع كنت أختبره فقط.‏

 

- وهل نجح؟‏

 

- لن يعرف النجاح في حياته أبداً.‏

 

اكتفيت بالصمت، سرت وراء خالي، بقي الرجلان حيث تركناهما.‏

 

- خالي؟‏

 

- نعم ماذا تريد؟‏

 

- ماذا أحمل؟‏

 

- عصير... عصير توت، اخرس الآن.‏

 

تابعنا طريقنا عبر شوارع المدينة الصامتة، كان يشغلني شيء واحد... عصير التوت هذا، وصلنا إلى طريق فرعي، توقف خالي قليلاً، أمرني بالذهاب للبيت بعدما أخذ الكيس، أعطاني بعض المال، قال قبل أن ينصرف: غداً.. في نفس المكان.‏

 

نظرت إلى المبلغ وقلت: لا يكفي، أريد المزيد.‏

 

- هذا ما تستحقه.‏

 

- أرجوك، اعتبر نفسك خالهم حقيقة ولو مرة واحدة في حياتك.‏

 

- لقد رميت أطفالي في الشوارع، وها هم اليوم يلعبون بالمال.‏

 

***‏

 

لا أخفي عليكم، بت أحس بثقل يكبر على كتفي شيئاً فشيئاً، كل الذين حملتهم صار ثقلهم ينهكني، ما تزال أيديهم الجامدة المدلاة إلى جانب وجهي تهتز مثيرة أعصابي، توحي بأنها ستتحرك بين لحظة وأخرى، تمتد إلى عنقي، تضغط عليه لتخنقني بدون شفقة، وتلك الجفون المغلقة ستفتح، أعين بدون حدقات، لونها أبيض تماماً، وذلك الفم الصغير سيخرج من بين الشفتين الزرقاوين لساناً كلسان الثعبان، أسود قبيحاً يملأ الروح رعباً، وسينغرس في عنقي.. يحقنها بالسموم.‏

 

كل هذه الأوهام أصبحت حقيقة واضحة، حقيقة لا يمكن لي أن أهرب منها، ولكم اشتد عذابي وخوفي عندما كنت أتجول تائهاً في شوارع المدينة، فقط أسير على الأرصفة اللامنتهية بدون وعي، مررت ببناء حديث فخم، نظرت إليه، أمعنت في رؤيته، يخيل إلي أني عرفته، إنه ذلك المكان الذي نرسل له الجثث، نظرت إلى لافتة علقت على ارتفاع، كتب عليها ((مخبر الحياة الطبي)) ، ولكن ما هذا الازدحام عند الباب الزجاجي، اقتربت، حشرت جسدي وسط الزحام، مضت لحظات من الانتظار، لم أكن خلالها قد فهمت شيئاً مما حدث، فتح الباب بعد قليل، خرج ممرضان يحملان نقالة، وضعت عليها فتاة ترتدي مريولاً أبيض، فاقدة الوعي تماماً، وضعاها بالسيارة التي انطلقت بها.‏

 

تفرق الناس دون أن يفهم أحدهم ما قد حدث، هكذا الناس دوماً، يحبون معرفة كل شيء، يا لطبيعة الإنسان، فيما بعد علمت أن لهذه الفتاة شقيقاً توفي قبل عدة أيام، وهي تعمل في المخبر، اكتشفت أن الجثة التي سيستأصلون بعض الأجزاء منها لم تكن سوى جثة شقيقها، فقدت الوعي، وربما فقدت الحياة، أما أنا فقد وقفت مذهولاً، الشاب الذي حملته منذ أيام عدة أخ لهذه الفتاة، يا لهذه المصادفة التافهة، هل أكون سبباً في القضاء عليها؟‏

 

***‏

 

أتحنط يوماً بعد يوم، والجثث صارت مرضاً ينتشر في ممرات عروقي وأعصابي، تتغلغل من منبت النخاع الشوكي.. من الغدد والعيون، والهلاك يدب مثل النمل في جسدي.‏

 

حرب سرية كانت تدور بيني وبين خالي، لكنها حرب أعرف مسبقاً خسارتي فيها، وكل ما أريده أن أؤكد بعض إنسانيتي، فقد تلوثت حتى أعمق ما فيّ، الشوارع والبيوت والحوانيت، والأفران كلها تشير إلى بإصبع الاتهام والسماء تسحق كل جزء من الأرض التي أدوس فوقها، أركض نحو شيء لا أعرفه، إلى مكان لا أدريه، ثم أغوص في الحضيض دون أي بصيص أمل.‏

 

جلست في المقهى أشرب الزهورات، خالي سيقابلني هنا، وبينما أنتظر تناهت إلى مسامعي أصوات بعض الرجال تتبادل حديثاً أثار انتباهي:‏

 

- أسمعتم ما يحدث في المقابر؟‏

 

- كلا.. ماذا يحدث؟‏

 

- يقولون إن عدداً من القبور وجد مفتوحاً، والأموات طاروا إلى حيث لا يدري الإنسان.‏

 

- سبحان الله.‏

 

لم أستطع منع نفسي من رسم ابتسامة، الناس تجعل من الأمور الصغيرة أساطير وخرافات، يتناقلها الأحفاد عن الأجداد عبر الأجيال، هكذا الناس يريدون شيئاً يضخمونه ثم يتحدثون به. ولكن هل سرقة الجثث أمر صغير؟ وهل بيع دماء الأطفال أمر صغير؟‏

 

لم يعد النهار سوى ذل فاحش، لقد أصبحت دون شيء تقريباً إلا هذا الخوف المتصاعد ثانية بعد أخرى، أحاول إبعاد الخوف عني فلا أجد سوى خوف أعمق، ازداد بي شبق الثأر من نفسي، ولكن هذا لم يكن سوى طفحات من الذعر تنهش في رأسي.‏

 

اقترب خالي دون أن يلقي السلام، جلس قبالتي وطلب كأساً من الشاي، تمتم:‏

 

- اليوم، الساعة الثانية عشرة عند الساحة.‏

 

- هل علمت ماذا يحدث؟‏

 

أجاب دون مبالاة أو اكتراث: وماذا يحدث؟‏

 

- يبدو أن هناك غيرنا يمارسون عملنا.‏

 

نظر إلي وقال باستخفاف: هل تظن أننا وحدنا في السوق؟‏

 

- لا.. ولكن السرقات التي ازداد عددها في الآونة الأخيرة دفعت الناس لبناء الأسوار الحديدية حول مثوى أعزائها.‏

 

- قلت لك: اليوم، الساعة الثانية عشرة عند الساحة.‏

 

وقفت، مضيت في طريقي، لم أدفع ثمن الزهورات، سيدفعها خالي مثل كل مرة.‏

 

أنظر إلى عيون الآخرين فلا أرى سوى تلك الحدقات الباردة، بعضهم يسير منهكاً مقوس الظهر، عيناه ذابلتان وعلى كتفه ثقل كبير، هل يكون سارقاً مثلي؟‏

 

***‏

 

الواحدة بعد الظهر، كنت خائفاً مضطرباً، شعور غامض ومبهم يشمل كياني وأعماقي، والتعب والإرهاق يتسللان إلى أعضاء جسمي، دخلت المقبرة وتوجهت إلى قبر والديَّ، فمنذ انتهى اليوم الثالث للعزاء لم أزر قبرهما.‏

 

يا لهذا الصمت الغريب، الآسر، الذي يخنق الروح، صمت هذه القبور العالية، الترابية، الغالية، الرخيصة، بشواهدها الرخامية والخشبية منثورة هنا وهناك مثل أفراد جيش مهزوم، آلاف الحكايا الموجعة، المبكية، المؤلمة، فوق آلاف القبور، كل حكاية تحكي تاريخ إنسان، أزهار وبخور وأشجار على قبر عال، وتراب منثور عليه أغصان آس، والناس درجات حتى في القبور.‏

 

ما إن وصلت قبرنا حتى صعقتني المفاجأة، شجرة السرو الصغيرة التي زرعتها بالقرب من مدخل القبر كانت مرمية جانباً، وتوضع التراب فوق فتحة القبر بشكل غير نظامي.‏

 

سيطر علي سؤال واحد: هل فتحوا القبر؟!‏

 

وبدأت على الفور بإزالة التراب لأصل إلى البلاطة الحجرية التي تغطي فتحة القبر.‏

 

تشرنقت في نفسي أفكار سوداء، وتزاحمت في مخيلتي الصور القديمة، ثمة ما يشبه القهر يدغدغ أعضائي، وقعت بين كوابيس موجعة، تراءى لي أن رجلاً غريباً يأكلني، تراءى لي رأسي كرة تلعب بها الجثث التي حملتها على كتفي، وعيون تلتف، تمر في داخلي قبل أن أحس لحمها فوق لحمي، وأحذية فوق كل ميليمتر مربع من جسدي.‏

 

نزعت البلاطة الحجرية ودلفت إلى الداخل، كان القبر نظيفاً حتى من عظام أبي التي جمعتها وركنتها في إحدى الزوايا عندما دفنت أمي.‏

 

وقفت ذاهلاً، أطلقت صرخة ممزوجة بالألم والغضب مزقت سكون المقبرة، ثم أحسست بالأرض بدأت تهتز تحت قدمي، والدنيا راحت تميل على جانبيها، وبدأت أشياء الوجود تتداخل فيما بينها، لم أعد أشعر بالماديات، يداي تتحركان بدون إرادتي، تتحركان في الاتجاهات كلها، تارة اضغط بهما على رأسي، وتارة أخرى أضرب الجدار بهما، والفراغ تعوي فيه أصوات مبهمة... أخيراً سقطت على الأرض، تجمدت ملامح وجهي عند ضحكة قاسية، أطلقت عيناي بريقاً شديداً، غمغمت بإعياء: لا جدوى... لا جدوى..‏

 

صفقت بضعف، اتسعت الضحكة المرسومة على وجهي الجامد كوجه تمثال، تهالكت ذراعاي على جانبي جسدي، أغمضت عيني، وبكيت..‏

 

خرجت من القبر، لا أعرف إلى أين أتوجه، فوقفت ساكناً وعلى رأسي الطير.‏

 

مضت ساعات عدة وما زلت واقفاً.‏

 

مضى يوم ومازلت واقفاً.‏

 

مضت أيام عدة وما زلت واقفاً.‏

لا تستغربوا.. فقد تحولت إلى شاهدة قبر، لا فرق إن كانت رخامية أو خشبية.‏