يا لمهدي...
يالمهدي..
صرخت وهي تليح بيديها العاريتين حتى الكتف لتلك الجبال العالية البعيدة فلا يرد عليها سوى الصدى بغمغمات غير مفهومة وأصوات قديمة وحزينة كحزن نفحة ناي ذلك الراعي الذي راح ينعي أرضاً وتاريخاً وعمراً وقد ضاعوا منه...
لا أثر تأتي به الريح إلا آثار حوافر حصانك يالمهدي، هذه الآثار التي لطخت شغاف القلب، وقتلت سويداءه.
يا لمهدي. تهذي ويلف صوتها غباراً وصهيلاً ومدى مفتوحاً حتى سدرة المنتهى لا عودة منه هناك تتوقف الحياة. وهناك يبدأ السفر التكوين. انتصف بك العمر يا لمهدي. وقتلك الحب كما قتل معظم رجال القبيلة، وأباح دم أطفالها ونسوتها.
هل تستطعين يا خيامهم في العراء أن تلمي أوجاعي؟ يا قبورهم وقبورهم المفتوحة هل لك أن تدفني شوقي؟
ويا دمائه التي سالت هل تكونين نهر العمر الذي جف كي أستطع أن أحيا بعيداً عنك؟ لا لمهدي.
هاجر يا أم المهدي لمي الوجع كتلة من الرصاص الأبيض، بخري فيه ذاتك الملعونة التي ورثت لعنة العشق. ضعيها مع الحرمل والماء ومرآة روحك في غربال، واسكبي النار عليها .أذيبي رصاص الحزن وأطلقيه للنهر الذي شهد عري جسدك معه. اتركي الرصاص يتشكل رسوماً سورياليه- ثم كمنجم فسري رموزها . وأعيديها للنهر الذي لا زالت جدتك تجلس عنده تنتظر عودة زوجها الذي ذهب مع بعض الرجال للحرب هناك على تلك الجبال العالية البعيدة وقراره بالذهاب للحرب هو ما جعل والد جدتك يمانع زواجها رغم قراءة الفاتحة مع أخيه إلا أن جدك أصر على الزواج ولو خطفا. ووافقته جدتك القرار ولأنها كانت تحبه هربت معه. إلى البرية البعيدة استلقيا. الوسادة حجرة صغيرة والأرض كلها فراشهما. والله شاهد على زواجهما والنجوم كانت أضواء العرس والقمر خسف نفسه خجلاً من عري الجسدين.
ذهب جدي للحرب، وبقيت جدتي تنتظره، لا تستطيع العودة لأخوتها ولا تطيق مفارقة خيمتها، عل زوجها يعود.
حين شبت أمي. تزوجها ابن عمها القادم من الديار البعيدة في تلك الجبال المنتشرة على الأرض الواسعة- لا يملك أرضاً ولكنه تزوجها لأنه ابن عمها -وحضرت أمي مع أبي إلى قبيلتنا. كان والدي قاضياً للعشيرة -واستقر الأمر بهما بين الأعمام، أما أخوالي فما زلت أراهم يرتدون الشماخ ويدخنون ينتقلون على أقدامهم من وادي إلى الآخر ومن جبل إلى أبعد، هناك على السفوح الخضراء يحاربون يجوعون يخرجون الرصاص من أجسادهم بطرف خناجرهم التي تزين خواصرهم ويشربون الأسود ويستدفئون بالحطب ينتظرون كل ليلة أن يعود أباهم منتصراً أو حتى مهزوماً.
وكبرت وحدي في العشيرة، ويوم انتصف بي العمر، أجلستني أمي وسط الخيمة، نشرت شعري على جسدي، أحضرت الرصاص والحرمل كي ترقيني وتبعد العشق عن روحي، ثم جلست بعدها تخرج الرصاص من الماء، وتحدق به وتفسر أشكاله.
كنت أنت أيها الموشوم تعتلي حصانك، هكذا نطق، وصنعت من الحرمل رقية علقتها بصدري، فلعنة العشق نصاب بها في منتصف العمر، وأنا قد تخطيته حتى ضاعفته، فقد بدأت أخرج للبراري مع الأغنام وحدي، أمشط شعري وحدي أغني بصوت عالٍ لا خوالي في تلك الجبال وحدي.معي حزن لناي فقد فم صاحبه ولا زال يغني، يزورني كل ليلة في الثالثة ودقائق طير وحيد يغرد لي قليلاً ثم أنام، ويرحل عني، وحين أستيقظ صباحاً لا أجده، فأذهب للنهر أدخله حتى يغطي نصف جسدي، فأبدأ بالتعري، يبحر شعري مع مياهه وشوقي وأغاني الحزينة.إنني لم أشعر بخطاك ولا بحوافر الحصان على الحصى القريبة مني، ولا بقامتك الضخمة خلفي. شعرت بنفسي -أنا أدير رأسي وشعري وعنقي على صدرك، يداك على رمانتي كتفي، التفت إليك كانت عيونك زرقاء صافية وذقنك الكثة- وابتسامتك الحزينة المفارقة، وقفت كي استر عري جسدك فرفعت عيونك إلى وجهي، ويداي، وعيناي على زنديك امرر أصابعي على كتفك الأيسر الموشوم برسوم، وطلاسم جميلة وغريبة، وارتمى شوقاً بقلبي -فمنذ أن انتصف بي العمر، وأنا أشعر بتغريد طائر الليل بقلبي. لامست شفتاي وجهك. ذقنك لامست شيئاً حار الأنفاس. وأعلم أنني قبلتك، وأعلم أنني ابتلعت شيئاً ما مع اللعاب لكن لم أعلم كيف تسللت من يدي، وأنا أندس في مياه النهر، أتحاشى سهامهم عليك، وعلي. عيني على فرسك كيف امتطيته، وابتعدت. دثرني أحد رجال العشيرة بعباءته واقتادوني إلى خيمة أبي- الذي لم يصدق ما قيل عن ابنته، والغريب رغم أنهم اكدوا له أن مياه النهر صبغت حمراء من دمائك التي سالت لكن بعد أيام، أكد رجال الضفة الأخرى أنك أتيتهم سابحاً. أرادوا إثبات عذريتي، لم يعلموا أن بكارتي فضت بلعابك، أحضروا امرأة مسنة أدخلها أحد الرجال خيمة أمي. وانتظروا خارجاً كي تلوح لهم المرأة من باب الخيمة بأصابعها الملوثة بدمي، ومع كل صراخي وأوجاعي ظل بعضهم لا يصدق حتى خروج المرأة بأصابعها المدماة، إنني عذراء. لم يطق بعدها والدي البقاء في القبيلة، فقرر الخروج ليلاً من الخيمة وحدنا، نحمل بعض الثياب صرراً صغيرة وانطلقنا مشياً أنا وأمي وأبي مع أخوتي الصغار الذين حملناهم على ظهورنا وهكذا تملكنا العراء كما تملكت تلك الجبال البعيدة أهل أمي، رافقنا صديق لوالدي، رجل يقارب عمره وأكثر قليلاً. هذا الرجل الذي رضي أن يكون أبا لك يا لمهدي أمام الناس، رغم أنه كان يعلم بقصتي كلها، كنت أمشي يرافقني. صرت طائر الحزين وناي ذلك الراعي. أتلفت، أبكي خيماً باتت تأوي الفراغ ويأويها العراء. أبكي أمشاطي. زينتي. كم صعب أن تترك الأرض. وأنت مجبر راضخ هنا خيمتي أرضى النهر. وهنا أيضاً فضيحتي.. العار الذي سيرافقني حتى نعشي.. مسحت الدمع، والتحقت بقافلة أهلي المهزومين. وشبكت عشراً على رأسي ومشيت أتلمس دربي الجديد. استقرت أمورنا بعد فترة من الترحال- وقبل أن تخلق قرر رفيق والدي أن يعقد قراني عليه ليبقى قريباً منا، فقد توفي جدك، لم يبق لنا أحد غير والدك المسن فوالدي لم يحتمل وزر ابتعادنا عن أرضنا. ووزر فعلتك أيها الموشوم. فمات أبي ليلاً. مات صامتاً كما كان دائماً منذ لحظة مغادرتنا الخيمة وأتيت أنت يا لمهدي. عارياً صامتاً، تحدق إليَّ موشوماً برسوم غريبة. بعدها قرر الرجل المسن أن نعود إلى العشيرة. عدنا وأنت على يدي طفل بعيون زرق. قالت أمي إنها تشبه عيون والدها. وصدقتها لأنني لم أره وقالت: إن قامتك تشبه قامة أحد أخوالي. وقد رأيته حين زرنا جدتي مرة. هذه المرأة، المكابرة الصابرة المنتظرة رأيتها مرة واحدة فقط حين كنت طفلة.
وحين ودعتها مسدت شعري وقالت: إن تزوجت وأنجبت طفلاً اسميه المهدي. هذه أمانتي لك. فكنت كلما اختلي بنفسي، أبكي وصية جدتي وأنظر إلى علو بطني، وأتذكر النهر، عري جسدي، وغنائي، وأذكر كيف لامستني شفاه حارة فاضم نفسي بنفسي وأضع يديَّ على كتفي بشوق. أحضن روحي وأتذكرك أيها الموشوم. وأنتظر المهدي كما تنتظر جدتي عودة زوجها لتكون أنت يا لمهدي موشوماً بوشم لا أحد يعلمه، إلا الذي يحمله على كتفه الأيسر. وكبرت يا لمهدي انتصف بك العمر، أصبحت شاباً قوياً وعليك أن تبحث عن أبيك في الضفة الأخرى من النهر على تلك الجبال في القرى والمدن البعيدة منها والقريبة وحدك يالمهدي تعرف أباك ووحدك تعلم حقيقة خلقك عذباً أنت ورطباً كاللعاب الذي خلقت منه يا لمهدي.
-من أي الاتجاهات أبدأ يا أمي؟
-من الدرب الذي تختاره حوافر حصانك يا لمهدي
-سأبدأ من جهة الخيمة البعيدة تلك خيمة الصوفي
واتجهت إليك أيها الغريب لتقرأ علي بعضاً من الحكمة. وتحرق على رأسي حرملك البري وتبخرني بالعطر الذي تعبق به ثيابك، وخيمتك.
-عد يا لمهدي ستتعب
-لم لا تشجعني أيها الصوفي
ستتعب حوافر الخيل. وتعطش وتكل أقدامك المسافات وستعود المهدي الذي لم يهتدِ
ولم أرد عليك. قلت رجل مسن. اتجهت إلى كل الاتجاهات مررت بكل الدروب، دخلت المدن من أبوابها الصغيرة والكبيرة. شربت منك يا فرات واغتسلت مع حصاني بك مراراً يا فرات، ولم تهدني ولم تمح الوشم من أكتافي. تعبت كثيراً يا هاجر، وعدت إليك ليلاً لتأويني خيمتك، لتدواي بحزنك أوجاع رأسي لتقفليه بمفتاح السر. رأسي متعب هاجر، وأريدك أنت أن تقفليه فقفل الجهات نثره. شتته. عدت إليك ورماح الخيبة والإنكسار والحزن تسيل دماء جسدي، دخلت خيمتك ليلاً لتأويني وأتوسد ذراعك، وأنت تحكين لي عن أب موشوم، رجلاً كان لم يأبه برماح الرجال، شهد عري جسدك، ولم ينظر إليه- قبلك وأنت عارية في النهر- زرع بلعابه شوقا فيك لطفل يشبهه، لرجل قادم يبحث عنه حين ينتصف العمر، وتقتله رماح البحث- ونمت ليلتها -أنا أحلم بك يا أبي الموشوم..
يا لمهدي..
استيقظت جدتك يا هاجر على صراخك في تلك الجبال البعيدة النائمة، تفتحت ورود شقائق النعمان قبل الفجر. على صوت الناي البعيد والطائر الحزين. ضاعت كل الأجراس.. تبعثرت الأغنام.. جفلت كل الخيول صبّت على عيونها غباراً بل رماداً لنار كانت في تلك الأودية لرجال يصنعون الشاي الأسود عليها. مات المهدي ولم يهتد لأبيه، تجمع رجال العشيرة في خيمة هاجر، يحاولون إغماض عينيه الزرقاوين، وتضميد جراح الرماح في أقدامه، وظهره.
أحضروا الصوفي كي يفلسه. ويكمل طقوس غسل الميت، وأتيت أنا الصوفي. بدأت أنزع الثياب الملطخة بالدم عن جسدك الغض، عريت جذعك لامست عيوني أشواك البرية تقدح.
تلمست بيدي الوشم على كتفيك
-ماهذا؟ وتلفتت للرجال المحيطين بك يا لمهدي
-هذه وحمة
-لا بل إنها وشم
-إنها وحمة. هكذا أكد أبوه وأمه. وهكذا يؤكد لك كتفاه.
-وأين رأت أمه الوشم حتى تتوحمه بهذه الدقة؟
-رأته على كتف رجل غريب. التفت إلى الرجل كي أسمع إجابة تشبع نهمي لكن كيف لرجل متصوف مثلي أن يقرأ الوجوه ويستنطق الألسنة التي هاجرت لغتها. رميت من يدي ثيابك على الأرض التي تشرب دماءك يا لمهدي.. وخرجت إلى كل الجهات استنطقها.. مضى علي زمن وأنا ابحث عنك يا بني.. وأمضيت عمرك تبحث عني يا لمهدي فلم أسمع الأصوات. هاجر.. صوتك الذي صدع كل تلك الجبال العالية الخضراء.. واطفأ نيرانها العالية علها ترد عليك.
يالمهدي...