الضمائر

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : سحر سليمان | المصدر : www.awu-dam.org

 

 

-هي.. كانت متعبة، مهملة كحزمة من السنابل الجافة على مقعدها مرهقة، كشبه غائبة عن وعيها والطريق الطويل أمامها يتلوى أسود، صلداً. وسط تلك السهول الممتدة جسراً ينبض بالشهوات والرغائب المحرمة.‏

 

لا علامات فارقة تميزه سوى بعض التلول العارية، وبعض السهول، والقرى المتناثرة بأناسها وحيواناتها.. دخان تنانيرها المتصاعد مع الصباح يصلها محرضاً شهيتها للطعام. نباح الكلاب يصلها خافتاً رطباً كالحطب وقد تصادفك بعض الخيم. القطعان يدفعها رعاة متراخون نحو الكلأ والماء، حيث الأراضي الممتدة، الركاب من حولها يتابعون ثرثراتهم عن مواسم الحبوب، والسيارات ويدخنون أو ينظرون إلى ما حولهم بعيون شبه مطفأة، قانطة، عيون من الزجاج الملون.‏

 

وحبات الغبار تثور كلما توقفت السيارة، وأصابعهم، تلك الأصابع المثقلة بخواتم الفضة، تقلب حبات السبحة.‏

 

-هو‏

 

آه يا هاجر يا بنت هارون ماذا تريدين مني؟ أو ماذا أريد منك.. وماذا نريد من هذه الدنيا أجيبيني. بصوتك.. لا بصمتك.. ضعي عينيك بعينيَّ وانطقي.‏

 

-هي:‏

 

قبل أيام سألته ما يسألني هو الآن، فرد علي بنفس الحيرة، وعيناه تبحثان عن نظراتي الشاردة دوماً.‏

 

تراقصت الكلمات شارات الاستفهام، بينما تصاعدت أنفاس أمي، فتصلبت في مكاني جذعاً لنخلة قصفتها الريح، فلم يبق منها إلا القليل من السعفات المبعثرة، الذي أمثله أنا الآن في هذه السيارة المسافرة.‏

 

فماذا لو علمت أمي بماذا أفكر أو من يشاركني رحلتي.‏

 

-أنا‏

 

فقد قالت لي ليلة البارحة حاسمة:‏

 

-غداً صباحاً سنسافر إلى القامشلي.. جهزي نفسك ودون أن تسألني رأيي فهي تعلم موافقتي مسبقاً.‏

 

-لن أنسى شيئاً وسأكون جاهزة‏

 

-قلت لها: لن أنسى.. وكيف أنسى، وموعد لقائي معك غداً؟ ولن أنسى.‏

 

وفي الصباح، انطلقنا مع الركاب إلى القامشلي والسائق الشاب الملتحي يميل مع مقود السيارة غاضباً تارة، شاتماً الزحام، والناس الذين لا يحبون السير إلا في وسط الشارع تارة أخرى. وحين تركت المدينة خلفي، تنفس السائق بإرتياح، فأشعل سيكارة، ثم مد يده إلى آلة التسجيل. انطلق الصوت عالياً. صوت عتابا حزينة تنعي حبيباً غادراً وعمراً ضائعاً. أتاني الشجن طائراً بلون الشاي المتعق يدق بمخالبه صدري، داهمتني الأوجاع ومثل مخمور يدخل نفسه ليبعثر كل ما فيها قبل أن ينهار للمرة الأخيرة يصلني صوته قوياً.. هاجر يا بنت هارون.. فأنصت.‏

 

-ثمة أشياء كثيرة وكثيرة تدب في رأسي. تحوّله إلى خليه أو مستعمرة للنمل الأحمر فاتململ تارة، وأسند رأسي للمقعد تارة أخرى فأنا بحاجة إلى تدخين سيكارة ولا أستطيع. فهذه الكائنات الذكورية تحدق بي وأنا الشابة الوحيدة بينهم والدخان امتياز لهم وحدهم. وأشد بأعصابي على حقيبة يدي.. والشمس تتسلل إليّ من خلال زجاج السيارة تصافح وجهي، تتلمس أهدابي.. أضم نفسي أتوق للهرب معه بعيداً.. هكذا مثل هذه القطعان الشاردة في هذه البرية العذراء، لتوقظ فيها كل الحجل والدم وبنات آوى.. هاجر يا بنت هارون...‏

 

جاءني الصوت غائماً هذه المرة مخنوقاً بدمع أو رغبة، أشياء بداخلي كثيرة يبعثرها صوت هذا المغني ناثراً كل أوجاعي أمامي، عبر هذا الطريق الطويل المفتوح كهالوك أمتد نحو أشجاري أكل أوراقها وامتص رحيقها وها هو يصل لقاع القلب فتستسلم له قطرات القاع الأخيرة. ماذا أقول يا أمي؟‏

 

أهمس لنفسي: وأصابع يدي تبعثر أشياء الحقيبة باحثة عن علبة الدخان كي تمسكها وتشعر بالإطمئنان.‏

 

ماذا أقول يا أمي وأنا أحس بأنفاسه تحرق أذني وتمتد الأنفاس إلى العنق ثم الكتف رغم بعد المسافة؟‏

 

ماذا أقول وأنفاسه الباحثة عني كطفل جائع يبحث عن النهم من صدر أمه..؟‏

 

أقول.. وهمس الأصوات من حولي يزيد من ثقل اللحظات فأحدق في اللاشيء؟ وأعض على شفتي كنادمة.السيارة لا زالت تأكل المسافة غير آبهة بي.‏

 

اقتربت السيارة من إحدى الاستراحات قال السائق الملتحي وهو يستدير إلى الركاب: سنتوقف قليلاً نرتاح.. ما رأيكم:‏

 

رد عليه أحد الركاب بالموافقة.‏

 

انطلقت السيارة إلى اليمين باتجاه الاستراحة. ساد صمت مؤقت واستعد الجميع للنزول توقفت السيارة نزل جميع الركاب إلا أنا وأمي.‏

 

وكمستعجلة لا تريد إضاعة الوقت أخرجت علبة الدخان وبمجرد ما لمست اللفافة شفتي شعرت براحة.. فارقتها وأنا بكامل الاستعداد للشرود معك.‏

 

كان العراء عنده كأنه يدعوني إلى استراحة في هذا الضحى وهو يمد لي أشعة الشمس كأرجوحة تحملني إلى ذرا النخيل، فيوقد فيّ ذاكرة الخراب ونزوة الطين، فأترنم صحوه بين نشوتين. فأعود إلى زمن القبائل.. والسبي.. زمن الرايات فأنكس رأسي وأعود إلى السيكارة وعيني على سبحة أمي التي تدور بين أصابعها وتدور معها أيام معرفتك.. ولقائك. فالبارحة كنا سوية واتفقنا على اللقاء ضحى هذا اليوم. جاءني صوته من جديد ينادي هاجر فبعثرني كحفنة من الرمل في الصحراء...‏

 

أنت...‏

 

وحدي.. كنت أجلس، صورتك أمامي على الطاولة.. أمسح بأصابعي على الرأس امرر أناملي على الأذن. العنق.. أتوقع قدومك..‏

 

كل ما يحيط بي هاديء كأنني في مقبرة، فنجان القهوة هو الحي الوحيد وصفحات الكتاب الذي أقرأه.. الحزن يحط على قلبي والدنيا ابنة حرام. وهاجر بنت هارون تجلس على الأريكة بجانبي. تبتسم بسخرية تشعل لفافة تبغ لي وأخرى لها.‏

 

هاجر بنت هارون.. إنك تتعبينني أكثر مما كنت أتصور.‏

 

-أنا أتعبك أيها المتعب كيف..؟‏

 

-السهر التدخين. انتظارك شرب العرق. السهر حتى الصباح.. الذهاب للفرات وشرب القهوة حتى مرارتها.‏

 

-أنت متعب قبل أن ألقاك.‏

 

-هكذا تجدينني‏

 

-أجل أنت كذلك‏

 

-سيأتي اليوم الذي التهمك فيه‏

 

-تكون وحشاً‏

 

-تكونين آخر الزاد‏

 

-وتكون أنت آخر الارتحالات في هذا البحث‏

 

مددت يدي لم تلمس سوى الفراغ.. ابتسمت بمرارة وأنا أتناول فنجان قهوة كي أرتشف منه ليعود إليّ الصمود.. واجهتني صورتكِ..‏

 

هاجر يا بنت هارون. أنادي باسمك في السماء. وفي الفرات. في قلبي فيتردد صداه غريباً. حزيناً كالماء آية الحجر والهوى كنتِ..‏

 

فأنسحب إلى الداخل مهزوماً أراقب صوت النبض الراكض في العروق. فأتوحد بك. صوتك يعيدني إلى زمن قديم.. تسرب من بين أصابعي وخلف وشماً على ساعد اليد اليسرى. مئات المرات كنت أراكِ من قبل ناحلة مثل الطرفاء. بعيون صغيرة كأنما ورثتها عن جدة مغولية وعنق افريقي. وكثيراً ما أسمع ضحكتك. أراك دائمة الحضور إلا تلك الليلة.. حين التقينا وبرز عنقك أمامي.. وعلى كتفك حقيبة ملأى بالكتب وأشياء كثيرة مبعثرة.‏

 

كنتِ قريبة مني.. وكنت قادماً جديداً إلى هنا. يومها كنت في سبات وكيف صحوت لا أعلم فكل ما أعلمه أن شيئاً ما استيقظ في...‏

 

أنا.. قبل قليل اتصلت به. كان يجلس وحيداً يقرأ. أخبرته أنني في القامشلي فلم يصدق أولاً . مؤكداً كان يشرب قهوته ويمسح الغبار عن صورتي، يفكر ويكتب لامرأة ضبطته وهو يسترق النظر إلى عنقها كل ما هو حوله نائم.‏

 

وفي الليل بعد أن يذهب كل الأصدقاء يبقى وحيداً يمسح صورتي ثم يحضر الخضار التي يحبها جانب طعامه. ويغرز زجاجة العرق بعنقي.‏

 

فالقلب العاشق. والعرق وآلام المسيح. تصبغ شعراً يليق بامرأة ناحلة غيور قلقة. وبعد أن يشرب يرى نفسه المهدي الضال الذي تبحث عنه أو هارون الرشيد قال لي يوماً وهو يحدق فيّ بعشق:‏

 

-أشعر أحياناً كأني عشت معك من قبل، فهذه الدماء التي تحملها أما أن تكون لنا وإما لاثنين يشبهاننا عاشا قبل ألفي عام.‏

 

أنا وأنتَ.‏

 

بعد منتصف الليل جاءت هاجر‏

 

عرفت أنها هي من خطاها التي تنزل الدرج، جاءت كنبيذ معتق شعرت برأسي الذي صدعته كؤوس العرق يعود لصحوته.‏

 

-هاجر صحت؟‏

 

-ومن غيرها هل أنت نائم؟‏

 

-لا- لا زلت يقظاً انتظرك‏

 

-إذاً ثمل حتى الخدر. فيّ طبعاً‏

 

-بالتاكيد‏

 

-وانا.. مشتاقة إليك‏

 

-أريد التهامك‏

 

-تلتفت إلى الباب‏

 

-ما بك؟‏

 

-خائفة‏

 

-مما‏

 

-من هذه المدينة‏

 

-لا عليك منهم... اقتربي‏

 

مد يده.. فأمسك عتمة المكان وفراغه.. أشعل الأضواء.. رأى نفسه وحيداً ينتظرها.‏

 

هي.. وهو...‏

 

كانا معاً دائماً.. يقضيان معظم وقتهما سوية...‏

 

الرجل يستيقظ باكراً.. ينتظرها على موقفهما المعتاد.. أو ينتظر خطاها أن تنزل الدرج.. أحب لأجلها أشياء كثيرة.‏

 

المرأة.. أحبته كثيراً. ولكنها تخاف من أشياء كثيرة. تعذبها حين تفكر بها مثل الغد والصدق معه، أو الوشاية لأهلها.‏

 

مساءاً خرجت المرأة من منزلها. انطلقت في نزهة على غير هدى. وحين رأته اقترب منها.. كان متلهفاً لها. اقتربا من بعضهما ومشيا سوية.‏

 

سارت إلى جانبه لم تتكلم.. تركت يدها تغفو طويلاً بين يديه -والتهمت عيناه عنقها. جلسا على مقعد خشبي في الحديقة..متقاربين.‏

 

ومع كل ذلك لم يحدثها.. أو تنظر إليه.. كانت أنفاسه تصلها...‏

 

وفي الصباح الثاني طلبت لقائه.‏

 

-أين نلتقي.!‏

 

-في كل الأمكنة‏

 

-وهناك التقيا. رجل وامرأة‏

 

سألها من أين نبدأ البحث.؟‏

 

-عند الفرات أولاً‏

 

-وكان الجسر القديم وحيداً.. جلسا مع العصافير‏

 

انزل فمه حتى أذنها وهمس‏

 

-هل وجدته..؟‏

 

-تلعثمت ثم هزت رأسها وعيناها على الفرات‏

 

-مد يده إلى وجهه كي تنظر إليه‏

 

-هز رأسه هو أيضاً وجدها‏

 

... هم. لم يكن أحد على الجسر إلا هي وهو وأنا وأنت ونحن أما هم‏

كانوا مشغولين بالنظر إلى سناراتهم التي ألقوها إلى الفرات منتظرين أن تهتز