الطوفان

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : سحر سليمان | المصدر : www.awu-dam.org

 

 

كانت حواء عزلاء إلا من وحدتها‏

 

تجلس في الشرفة أنيقة فاتنة، كأنها عروس نقضت أسبوع عسلها وخرجت إلى الدنيا، رغم شحوب خفيف يظلل وجنتيها كانت تبدو متألقة وهي تحتسي الشاي بفنجان من الصيني الأبيض البراق الموشى بعروق ونباتات وطلاسم سحرية تقيها شرذاتها الملونة التي لا يمكن لها أن توقفها عند حد .‏

 

راقبت السجن المطل أمامها بأسواره العالية، وحجارته القرميد الحمراء، وحراسه العابسين، المسلحين، وزواره القادمين من القرى البعيدة بوجوه سمراء عاشرها الجوع والحزن وتعب الأيام الصعبة، فأدركت وقتها كم الحرية غالية وعزيزة فابتسمت هازئة من التفاصيل الأخرى التي لا تؤكد ما ذهبت إليه.‏

 

كانت تشرب الشاي بلذه ماتعه وعذوبة، تحمل الفنجان بأصابعها الناحلة عالياً، فيوسوس صوت حليها الفضية كشيطان في المكان فتزداد اقترابا من لحظة صوفية، تتبرعم داخلها كوردة الخيار غضة وناعمة.‏

 

ثم تدنى فنجانها المطلسم من شفتيها، شفتين رقيقتين كأوراق الجوري، مسكونتين بدم ونداء وخمرة عتقتها ليالي الرغبة الحارة والنداء الأزلي، تدني فنجانها وترشف ذلك السائل الحار والحلو وتتمطق بعبث وشقاوة فيتحرك فيها من جديد شعور بالعزلة والتفرد والاغتراب . كانت حواء في تلك اللحظة بانتظار شيء ما.‏

 

نسمة هواء أو مرور أقدام يبدد وقعها ما تحس به من عزلة واغتراب، ولتدلل على لا مبالاتها، اندفعت تترنم بصوتها ذي البحة المجروحة التي ربما أورثتها إياها جدة بعيدة من جداتها عاشت في كربلاء أو النجف تندب كل عام ( الحسين ) في عاشوراء وتبكي ما تبقى من أهلها خوفاً من الحروب أو الفيضانات أو الثارات القديمة البائتة، وتردد كأنها تخاطب " الحسين ":‏

 

- اسلمتك المدن الخائبة، أم خانتك القلوب الخائنه؟..‏

 

وكانت تدرك أنها تحمل في عروقها دماء مختلطة، فيها كل ارث شعوب الهلال الخصيب وبلاد مابين النهرين من مقيمين أو طارئين لذا اندفعت تترنم بأغنية للمطربة صديقة الملاية، التي ماتت تتسول في شيخوختها .‏

 

يا صياد السمك‏

 

صيدلي بنية‏

 

عجب أنت احظري‏

 

وأنا بدوية‏

 

وقبل أن تنتهي أغنيتها جاءها صوت مواء قطة، فقامت من مكانها واتجهت إلى حيث قفص عصافيرها، فرأت القطة تمد مخالبها وتطلق مواءها الوحشي ،بينما لطأت العصافير في زاوية من زوايا القفص منكمشة خائفة فأبعدت القطة ووقفت تناغي مخلوقاتها الصغيرة بود غامر.‏

 

وعادت تجلس وحيدة غريبة مع فنجانها الصيني، وكيفما تحركت أصابعها الناحلة، تشعر أن هناك أحداً ما يعزف لها، كانت فضياتها توسوس، فتطلق لعينيها المدى، كي تشرد في فضاء لا نهاية له، فيلوح لها جبل البشري بعيداً، عاريا إلا من صخوره، لا شجر ولا ماء سوى النهر الذي تحول إلى خيط ناحل وشحيح، بعد أن خنقته السدود، وسرقته السواقي إلى الحماد، تشرد وهي تحلم أن تتحول إلى حورية ، نصفها سمكة، والنصف الآخر امرأة استثنائية يعبق شعرها برائحة الأعماق من طمي وعشب وحصى وزعتر بري وسوس.‏

 

وتستعيد في البال مشاوير كثيرة قطعتها في هذه المدينة التي تحاصرها الآن بالسأم والمرارة، فمر بها أسماء وجوه صديقات فارقن وتوزعن في أرجاء المعمورة، أين هن ؟.. كم طفلاً بات لديهن ؟.. وهي الآن وحيدة، وعزلاء، وخائفة من الوقت، الوقت الذي يدب من حولها كجماعة من السلاحف النهرية المدرعة، يدب بطيئاً وقاسياً.‏

 

رفعت حواء فنجانها الصيني فلفت نظرها أنه فارغ، فأعادت ملأه من جديد رغم فتور حرارته وفكرت، ما معنى النصيب ...؟‏

 

هذا الإرث القدري الشرقي الذي يحكم حياة الناس، ويتصرف بهم، إنها ترفضه ومع ذلك يظل يلتصق بفكرها كحراشف السمك.‏

 

- إنه الزمن الضيق‏

 

قالت لنفسها .. ثم أردفت :‏

 

- من آدم الضائع في بستان النعاس.‏

 

ورفعت حواء رأسها، فرأت ابن الجيران الذي تحبه، شاردا مثلها، ترى بماذا يفكر هذا الطفل؟... وما الذي ينتظره هو وأمثاله في المستقبل ؟... وترتسم أمامها كلمة " المستقبل" على شكل فك مفترس وساخر، فتتراجع عن التفكير فيها، تعود إلى التطلع من جديد في الموجودات من حولها.‏

 

كانت حواء تطل من شرفتها على هذا العالم العائم . وهي تحس بالخواء، والحاجة إلى التجديد لطرد كل هذه التهويمات الضالة، وحين سمعت أصوات أبواق السيارات الصاخبة، امتلأت بشعور جديد، فهاهي عروس تزف، وتذكرت أنها قد تكون عروساً في وقت ما، ورغم أنها عزفت منذ زمن طويل عن حضور الأعراس، فإنها حنت إلى الأضواء وبهجة الأعراس. قلبت أوراقها القديمة، كي تشعر بآدم معها، يشاركها الشاي والدخان ويضغط على أطراف أصابعها بقوة، وحين تروي له حكاية القطة والعصافير يضحك بصخب فيلفت نظر المارة في الشارع، وحين تحتج يرفع - وكعادته - أطراف أصابعها إلى فمه ويطبق عليها بقسوة فتصرخ محتجة على وحشيته:‏

 

- يالك من متوحش ؟..‏

 

فلا يرد عليها، بل يتابع عبثه المجنون، ويمتلئ جسدها بكهرباء غامضة تهز كل نقطة فيه.‏

 

قلبت أوراقها فلفت نظرها ورقة صفراء حائلة اللون تقول كلماتها إن العشق ابتدأ بحواء، وإنها كانت لآدم عصفورة الوقت ونهارات الربيع، وزهرة النار والرمان، وجنة الملذات، الطافحة بالنبيذ والآهات وانها كانت الوردة التي وهبت أوراقها وأشواكها الخدر لانأمل آدم . فهل كان لا سمها فعل السحر أم كان اسمها السحر كله؟‏

 

آيتها أنها كانت تسحر فينقلب السحر على روحها الرقيقة رقة زهر البيلسان، فبأي آلاء العشق تكذب، وبأي آلاء صوتها تنكر؟...‏

 

صوتها الطافح بالخدر والمتعة، المعتق كنبيذ فردوسي، هذا المتقلب الناصع، الأليف، المألوف، الذي يخبل كل من يدعي الحكمة والرزانة والمهابة وتسأل أين مضى آدم هذا؟... أين هو الآن ؟... وماذا يفعل؟...‏

 

لقد مضى مخلفا وراءه الكلمات والأسئلة، والأنفاس الحارة التي مازالت تحبسها وراء أذنيها، لقد كانت له النوة التي هبت عليه، فانتزعته، وجردته من كل فضائل التعقل، والاتزان، وطالما سألته:‏

 

- قبلك هذا هيمان أم خربان ؟...‏

 

فيعاود إصراره الرجولي على أنها بدايته ومنتهاه، وهو مفتون بهذا العشق، وقد أحبته يومها أكثر من أي آدم آخر في الدنيا، أحبته بصدق وتصوف لأنه يفهم لغة كل عصفور في جسدها فيبدأ طقوسه العاشقة من مفرق الشعر، شحمة الأذن، الملتصقة بالوجه، فمنحدر العنق، نعم عشقته لأنه تملكها، تملك الأظافر ولون الشعر والعينين، وبنى صداقة قوية بينه وبين جزء من جذعها شامخ عنيد وقوي.‏

 

ولأول مرة تلاحظ حواء أن لحنجرتها قاعاً كقاع بئر عميقة حيث تخرج الضحكة صافية ومغسولة بعطر وفرح ونداء لآدم يشاركها العشاء الأخير، لآدم يمتلك أهدابها ، وروحها الهاربة، وأصابع قدميها ودمها السلبي النادر، الذي تحب اللعب به دائماً، لآدم يمتلك نبض قلبها.المتقلب مثل غجري مجنون، وهو قادر على عض لسانها لحظة تطلق عنانه للمعاندة والأقاويل السوقية فلا تخرج منه سوى غمغمات لا معنى لها.‏

 

انتهت الرسالة التي كانت ممهورة بقول أخير يؤكد على أن العشق يبدأ بها ولا ينتهي، فنهضت من شرفتها وقد شعرت وكأنها تدخل بستان النعاس أو جنة الخدر القادمة من عطر ونسمات، وتفقدت حواء ما حولها، كل شيء في مكانه، جبل البشري، والنهر النحيل وبناء السجن، والمسجد، والشارع الخاوي، وفنجان الشاي المطلسم والفضيات، فأين مضى آدم ؟... لم تسمع صوت خطواته حتى الآن؟..‏

 

وغامت أمام عينيها المرئيات، رأت السماء تتفجر بالماء والأرض تفور بالماء، وكل ما حولها يتحول إلى ماء، فتعرت من ثيابها فرأت نصفها الأسفل سمكة ونصفها الأعلى حورية ساحرة يفوح من شعرها عطر العشب والطمي والزعتر البري والأسماك، فصعدت لتجلس فوق عرش من الماء بانتظار تحولات آدم‏