عندما هل العريس المنتظر وأطل برأسه الكروي من فتحة الباب،اكفهرت الوجوه التي كانت مشرقة قبل قليل...
ساد الوجوم،انقطع اللغو،انطفأت الابتسامات،ماتت الكلمات وخيّم الصمت.
قفزت الى ذاكرة الشاب،شقيق العروس،حكمة صينية قرأها مرة في كتاب(طائر يحط من الجو فتكف جميع الطيور عن الشدو).وابتسم عندما تذكر العبارة الثانية التي وردت في ذات الكتاب وتساءل:هل سيردد كما ردد بطل الحكاية(شدوا اليكم الحمار،شدوا اليكم الحمار.)
كان العريس الذى تجاوز الخمسين،بدينا أسمر البشرة،يميل الى السواد،عيناه ثقبان صغيران،في وجهه ندوب وبثور،وقد غاص رأسه بين كتفين مكتنزين كأنما ليس له رقبة.
أحبطت العروس وأصيبت بصدمة ،تساءلت وقد تهاوت أحلامها دفعة واحدة:هل هذا هو شريك العمر؟!هل هذا فارس الأحلام الذى طالما تخيلته شابا رشيقا وسيما،يأتي اليها كبطل أسطورى؟كإله من آلهة اليونان يحملها على حصان أبيض وينطلق بها الى عالم من السحر والجمال؟!كيف تستطيع أن تعيش معه وهي الصبية الفاتنة مثل وردة متفتحة في ربيع العمر؟!
قالت في نفسها وهي تشعر بالاختناق:أموت قبل أن يجمعني واياه بيت واحد.
همس الشاب بصوت مرتجف:غراب ، غراب أسود ليس الا.وحش في صورة انسان،مستحاثة من مخلفات العصر الحجري..الحلقة المفقودة في سلسلة التطور.
أما والد الفتاة وأمها فقد وقفا مذهولين أمام هذا المخلوق البشري الغريب.
أيقظهم صوت المرأة التي كانت ترافقه:
-ما بكم ياجماعة.ألا تدعونا للجلوس؟!
ردوا دونما رغبة:نعم،نعم،تفضلا.
مرت دقيقة صمت،ثقيلة،مملة،قاتلة،ولم يفلح أحد من الحاضرين في أن يرسم على وجهه ابتسامة أو أن يبدى شيئاً من البشاشة.
فحصت المرأة المرافقة محتويات الغرفة..أثاث قديم باهت اللون،مقاعد بالية،ستائر رخيصة،ثقوب وشقوق في الجدران،بساطة متواضعة تنم عن مدى العوز والحاجة الذي تعاني منه هذه الأسرة،وهذا شجعها وهي التي لاتنقصها الشجاعة في مثل هذه المواقف على أن تقول دون مقدمات:
-من أين نبدأ الكلام.السعادة تدق بابكم،لاحلم ولا منام..الرجل أمامكم،والرجل لايعيبه الا جيبه وجيبه والله عمران..صحيح انه متزوج وله أولاد،ولكن مامن مشكلة،زوجته وأولاده في بلدهم،بينكم وبينهم قفار وبحور،ولديهم مايكفيهم ويزيد.أما عروسنا الحلوة..
واشارت بيدها الى الفتاة واستطردت:لها أن تختار تسكن هنا أو في مدينة أخرى..بيت باسمها ورصيد في البنك.والمهر..بأية عملة تريد .أما الحلي والجواهر فما عليها سوى أن تشير باصبعها.
تجشأ العريس..أثار الاشمئزاز في نفوسهم،وردد بصوت أجش:
-نعم ،نعم كما تقول أم محمود.
وأم محمود هذه،امرأة قاسية الملامح ، خشنة التقاطيع تعيش وحيدة بعد أن تزوجت ثلاثة رجال وقبرتهم جميعا دون أن تنجب.تمارس أعمالا عديدة،فهي تاجرة تبيع في بيتها ثيابا وأقمشة مهربة أو تطوف بها على البيوت،وهي ندّابة يدعوها الناس لتتولى قيادة حلقات المآتم والعزاء،حيث تنشد قصائد الرثاء والمديح،تثير أحزان النساء..
تبكيهن دون أن تنحدر من عينها دمعة واحدة .وهي خاطبة،يقصدها الراغبون في الزواج..الا ان نشاطها في السنولت الأخيرة قد تقلّص واقتصر على خدمة الغرباء القادمين من وراء الحدود.
نظرت الأم الى ابنتها بطرف عينها..غابت الفتاة ثم عادت تحمل القهوة..دارت بها.تناول العريس كأس الماء،شرب منه قليلا،دقّ بيده على صدره ثم تجشأ مرة ثانية،أثار نفورهم وقرفهم.أما أم محمود التي لم ترَ في سلوكه ما يسيء فقد التفتت اليه وقالت :صحة.
اعتدل في جلسته،أراد أن يضع رجلا فوق رجل..صرّت مفاصل المقعد الخشبي وكُسرت إحدى قوائمه فسقط على الأرض.هبوا واقفين..
ابتسم الشاب،تذكّر العبارة الثانية في الحكاية الصينية وهمس:شدّوا اليكم الحمار..
رفعوه عن الأرض..انتقل الى مقعد آخر.
قدّم الرجل للعريس لفافة تبغ.نظر اليها باستهجان واعتذر،تناول علبة تبغ أجنبي من جيبه،اخذ منها واحدة ورمى العلبة أمامهم،ثم قال مخاطبا الرجل:
-سمعت انك تبيع الخضار على عربة في سوق الهال.رد الرجل بخجل:
-نعم،نعم،هذا عمل،والعمل ليس فيه ما يعيب
.سكت لحظة ثم أضاف:ان دخلي الشهري يزيد عن دخل أى موظف بشهادة.
قال العريس:أنا لاأقصد..ولكن،ما رأيك بدكان كبير..سوبر ماركت.
شهق الرجل،التفت الى محدثه وسأل بدهشة:لي أنا؟كيف؟من أين؟
دق العريس على صدره.
قفز الرجل كطفل،رحب به بحرارة،وحدث نفسه:انه كريم وابن كرام،هذه صفات الرجل الأصيل..رجل يقدر الرجال ويحترم العائلة التي يصاهرها..أفضل من شباب هذا الجيل الذين يشبهون طبولا فارغة،لاتأخذ منهم الا الوعود ومعسول الكلام.
أضاف العريس وقد التفت الى الشاب:
-وأنت ..طالب،ثانوية عامة،أدبي..أليس كذلك.لقد حدثتني عنك أم محمود.ما رأيك أن تدرس الطب أو الهندسة.
نظر الشاب بدهشة وتساءل:
-كيف.هل هذا ممكن.
رد العريس:أرسلك الى أي بلد أجنبي تختاره،الدراسة هناك بالمال.لايسالون عن الفرع أو المجموع،المال يفعل كل شيء.وهدية النجاح سيارة.
فغر الشاب فمه.هل صحيح ما يسمع؟هل هو في حلم؟هل....؟!
دارت الصور في مخيلته..انتعشت الآمال،غمره فرح لم يعرفه من قبل.
نظر الى محدثه،تأمله ،تفحصه..همهم:هذا الرجل نبيل،والله نبيل،سيد بمعنى الكلمة..رجل والرجال في هذا الزمان قليلون.أرجو أن توافق شقيقتي على الزواج منه،أرجو أن لاترفض بل يجب أن لا ترفض .. سأقنعها ، سأضغط عليها.ما الذى يعيبه؟دميم؟جاهل ؟متخلف؟كبير في السن؟هذه أمور ثانوية.
التفت العريس الى والدة العروس التي كانت تنتظر نصيبها بلهفة:
-وأنت ياحماتي العزيزة..اعتبري نفسك عروسا واطلبي ما تشائين.
شع الفرح من عينيها..تساءلت:هل صحيح اننا سنقبر الفقر الى الأبد؟ننسى أيام الجوع والفاقة والحرمان؟!ياللرجل الطيب المكتمل الوقور.سيعوضني عما قصّر عنه زوجي..هكذا يكون الرجال.
صمتوا جميعا،هاموا في خيالاتهم،العريس يسـتأثر بالشباب والجمال..تستهويه الفتيات الصغيرات،يتلذذ بامتلاكهن ..لايشبع أبدا.
الرجل يتصدر السوبر ماركت..
المرأة..يزين الذهب عنقها وصدرها ويديها حتى الكوعين. الشاب..يقود سيارته وسط نظرات الاعجاب والحسد.وأم محمود باتت عمولتها في متناول اليد.أما الفتاة فهي أميرة من اميرات الشرق.
تبدلت معالم الوجوه..تغيرت النفوس..
نظرت العروس الى الرجل،فحصته بعين غير التي رأته منذ قليل..حدثت نفسها:لابأس به..شكله مقبول لاعيب فيه لولا سنه وسمرته الشديدة وزرقة شفتيه وبثور وجهه وقصر رقبته و..ولكن كما تقول أم محمود الرجل لايعيبه الا جيبه.
أجزموا أنهم تسرعوا في الحكم عليه أول مرة أو هكذا أرادوا أن يقنعوا أنفسهم.غابت عن أذهانهم المآسي التي حلت بفتيات تزوجن مثلها أو هم غيبوها .. الوحدة ، السأم،الحصار، الذل والهوان، العبودية، زيف الوعود وفساد الأخلاق.
ارتسمت في أذهانهم صورة أخرى..ما زال شابا قويا،سمرته عادية مألوفة،عيناه جميلتان،كعيني طائر جارح،والندوب تضفي على وجهه مسحة من الهيبة والوقار.قالت أم محمود وقد أدركت أنهم فقدوا كل مقاومة:هل نقرأ الفاتحة.
رفعوا أيديهم الى الأعلى..
وتمت الصفقة