الورم الخبيث

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : maes811 | المصدر : sayadla.com

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فالعُـجب والنظر إلى النفس بعين الكمال والاستحسان ورمٌ خبيث، وداءٌ دفين، وسمٌ يتحساه المرء فيسوقه إلى حتفه، ووباءٌ قد عمت به البلوى، فهذا معجب بماله، وذاك بمنصبه، وثالثة منبهرة بجمالها، والبعض لربما تفاقم عنده وتطور الورم لديه، وأصبحت حالته حرجة للغاية حتى إنه ليعجب بنفسه جدا، ولا يكاد يعجبه أحد، ومن ثم يرى نفسه الأظرف والأذكى، بل والأتقى والأولى بكل خير وفضيلة.
ويزيد الطين بلة ثناء الجهال عليه، فعندها يظن المسكين أنه وحيد عصره وفريد دهره، وأنه فلتة من فلتات الزمن، كهذا المتغطرس الذي خطب في الناس يوماً فلما انتهى من خطبته المشؤمة قيل له: "كثر الله من أمثالك. فقال المغرور: لقد كلفتم الله إذن شططا".
ونعوذ بالله من الكفر، وصدق رسول الله -- إذ يقول: (ثلاث مهلكات وثلاث منجيات.... فأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه) رواه الطبراني، وحسنه الألباني. وقال --: (لو لم تكونوا تذنبون لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب) رواه البيهقي، وحسنه الألباني.
وببن -تعالى- مغبة العجب قائلا: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)(التوبة:25).
وقديما قالوا: "المعجب باع كل شيء بلا شيء، واشترى لا شيء بكل شيء".
وقالوا: "من رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الطاعة".
وقالوا: "الهلاك في اثنتين القنوط والعجب".
وقالوا: "الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب... ولذلك سيرى المعجب الأمور على غير ما هي عليه".

مثل المعـجـب في إعجابه كمثل الواقف في رأس جبل
 

 

 

 

 

 

 

 

 

يبصر الناس صغارا وهو في أعـينهم صغـيرا لم يـزل
 

وكل من ادعى درجة سقط عنها.
فمن رأى أنه متواضع فهو متكبر.
ومن رأى أنه قانع فهو طامع.
ومن رأى أنه عالم فهو جاهل.
ومن رأى أنه مستقيم فهو منحرف.
ويكفي المعجب بؤسا وحسرة حبوطُ عمله وبطلان سعيه؛ وإلا فهذا العجب ما هو إلا زرع شيطاني بذره الخبيث في قلوب بُور، وكأنها محاولة الإفساد الأخيرة، وإلا فقد اقتحم المقتحمون عقبة العمل الكؤود فلم يبق إلا إفساد العمل بحنظل العجب.
هذا وشعار المعجبين وديدنهم وكلمتهم التي يتوارثونها صاغراً عن صاغر: "أنت لا تعرف من أنا؟!".
ولذلك لما نظر عبد الله بن الشخير إلى أحدهم يمشي مختالاً قال: "ما هذه المشية التي يبغضها الله؟ قال المعجب متعجباً: أما تعرفني؟! قال: بلى أعرفك. أما أولك فنطفة مذرة، وأما آخرك فجيفة قذرة، وأنت ما بين ذلك تحمل العذرة".
بل وبالأمس القريب تشاجر اثنان في طابور الخبز، فقال أحدهما للآخر: "ألا تعرف من أنا"؟!
لذلك كان ولابد أن نضع أيدينا على الداء والدواء، ولقد وصف أطباء القلوب جملة من العقاقير الإيمانية والأدوية القرآنية التي يستأصل بها سرطان العجب:
منها: النظر في سيرة سلفنا الصالح، وكيف كان فرارهم من هذا الداء وأسبابه المفضية إليه؟!
فهذا ابن مسعود -رضي الله عنه- يرى أناساً يوما يمشون خلفه فيردهم قائلا: "ارجعوا فإنها ذلة للتابع وفتنة للمتبوع".
واستعظم بعضهم هذا الورم الخبيث وهوَّل من شأنه قائلا: "لأن أبيت عاصياً وأصبح نادماً أحب إلي من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً".
ولما قيل لبعضهم: "لا يزال الناس بخير ما أبقى الله فيهم مثلك! -لم يقل نعم وقرة عين وإنما- قال: عد إلى ما كنت فيه لا يزال الناس بخير ما اتقوا ربهم".
فمهما أمعنت أخي النظرَ في سير هؤلاء وأمجادهم، هانت عليك أمجادك، وكنت على رجاء النجاة من الداء الدفين، فهذا خالد -رضي الله عنه- يسطر أمجاده في سطر يقول فيه: "ما في جسدي موضع إلا وفيه طعنة أو رمية أو ضربة بسيف".
الإمام أحمد طاف الدنيا مرتين جمعاً للمسند.
الحافظ ابن حجر في الفتح رجع إلى ألفين من المراجع، وجمعه في ثنتين وثلاثين عاماً، وقد قيل: "شرح صحيح البخاري كان دينا في رقبة الأمة قضاه عنها ابن حجر العسقلاني".
بل ويذكر أن بعض طلبة العلم يحفظون الصحيحين في شهرين! فأين نحن من هؤلاء؟!
ومن الأدوية التي يستأصل بها الورم الخبيث أن تتجرع جرعة تواضع عند اللزوم، ولا ترى على إثر ذلك نفسك إلا وراء وراء، ولا تستعلي على أحد من الخلق، فإن رأيت صغيراً قلت: هذا طفل بريء لم يعص الله مثلي، وإن رأيت كبيراً قلت: هذا عَبَدَ اللهَ قبلي، وإن رأيت عالماً قلت: علم ما لم أعلم، وإن رأيت جاهلاً قلت: مسكين عصى الله بجهله، وأنا عصيته عن علم وسبق إصرار وترصد، بل قد قيل: إن رأيت فاجراً فلا تستعلِ عليه. قل: لعله يتاب عليه فيتوب، ويكون بيني وبينه كما بين الثرى والثريا.
فضلاً عما هو أعظم من ذلك والخواتيم مغيبة، وفي الحديث: (لا تعجبوا بعمل عامل حتى تنظروا بما يختم له) رواه أحمد والطبراني، وصححه الألباني.
ومنها: تذكر الموت والقبور والآخرة (تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(القصص:83).
يقول الحسن: "قدم علينا بشر بن مروان -أخو الخليفة وأمير البصرة- وشب الناس فأقام عندنا أربعين ثم طعن، فأخرجناه إلى المقبرة في موكب عظيم، وبينما نحن كذلك إذ نحن بأربعة سودان يحملون صاحباً لهم فوضعنا صاحبنا ووضعوا صاحبهم، ودفنا ودفنوا، وانصرفنا وانصرفوا، يقول الحسن: ثم التفت فلم أعرف قبر بشر من قبر الحبشي فلم أر قط منظراً أعجب إلي منه".
من الوقاية التي يتقى بها الورم الخبيث -والوقاية خير من العلاج-:
ترك المدح والكف عن التزكية ولقد رأى رسول الله -- رجلاً يمدح رجلاً فقال له: (ويحك قطعت عنق صاحبك) متفق عليه.
وقال عمر -رضي الله عنه-: "المدح هو الذبح".
ولما قيل لابن عمر -رضي الله عنهما-: "يا خير الناس وابن خير الناس، قال: والله ما أنا بخير الناس ولا ابن خير الناس وإنما أنا عبد من عباد الله، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه".
ومنها: أن تتذكر سوالف الإجرام، وقد سئل سعيد بن جبير: من أعبد الناس؟ فقال: "رجل كلما ذكر ذنبه احتقر نفسه".
ومنها: أن تشهد سبق فضل الله، وإلا فقد ولدنا أفقر ما نكون، وأضعف ما نكون، وأعجز ما نكون، وأعرى ما نكون، وأجهل ما نكون (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(النحل:78).
وآكد أدوية النجاة من هذا الورم غير الحميد، هو أن نتضرع إلى الله كما تضرع رسول الله -- قائلاً: (اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين) رواه الترمذي، وصححه الألباني.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.