دعوى خلو الكتب السابقة من البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم

الناقل : heba | الكاتب الأصلى : د / عبد العظيم المطعني | المصدر : www.dar-alifta.org

الشبهة


زعموا أن محمداً - صلى الله عليه وسلم ليس برسول - .  وبنوا هذا الزعم على أربع شعب هى :
1- إن العهد والنبوة والكتاب محصورة فى نسل إسحق لا إسماعيل . ؟ !
2- إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يأت بمعجزات . ؟ !
3- إن القرآن من نوادر الأعمال الإنسانية ، فليس هو معجزاً (1) . ؟ !
4- إن الكتب السابقة - التوراة وملحقاتها والأناجيل - خلت من البشارة برسول الإسلام . ؟ !

 
الرد عليها
أ. د / عبد العظيم المطعني

    ولكن قبل أن نواجهها مواجهة مباشرة أريد أن أقدم كلمة موجزة بين يدى هذه المواجهة ، رأيت أن تقديمها من أوجب الواجبات فى هذا المجال . وجود " البشارات " وعدمها سواء . . ؟
    أجل : إن وجود البشارات وعدمها فى الكتب المشار إليها آنفا سواء ، وجودها مثل عدمها ، وعدمها مثل وجودها .  فرسالة رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - ليست فى حاجة إلى دليل يقام عليها من خارجها ، بحيث إذا لم يوجد ذلك الدليل " الخارجى " بطلت - لا سمح الله - تلك الرسالة ؛ فهى رسالة دليلها فيها ، ووجود البشارات بها فى كتب متقدمة - زمنا - عليها لا يضيف إليها جديداً ، وعدم وجود تلك البشارات لا ينال منها شيئاً قط .
    فهى حقيقة قائمة بذاتها لها سلطانها الغنى عما سواها .  ودليلها قائم خالد صالح للفحص فى كل زمان ومكان ، باق بقاء رسالته أبد الدهر أشرق ولم يغب ، ظهر ولم يختف ، قوى ولم يضعف .  علا ولم يهبط ، إنه دليل صدق الأنبياء كلهم .  فكل الأنبياء مضوا ولم يبق من أدلة صدقهم إلا ما جاء فى هذا الدليل " القرآن العظيم " حيث شهد لهم بالصدق والوفاء وأنهم رسل الله المكرمون . .
    فلا يظنن أحدٌ أننا حين نتحدث عن بشارات الكتب السابقة برسول الإسلام إنما نتلمس أدلة نحن فى حاجة إليها لإثبات صدق رسول الإسلام فى دعواه الرسالة .  فرسول الإسلام ليس فى حاجة إلى " تلك البشارات " حتى ولو سلم لنا الخصوم بوجودها فله من أدلة الصدق ما لم يحظ به رسول غيره .
وستعالج البشارة به - صلى الله عليه وسلم - على قسمين :
1- بشاراته - صلى الله عليه وسلم - فى التوراة .
2- بشاراته - صلى الله عليه وسلم - فى الإنجيل .

أولاً : البشارات فى التوراة  :
تعددت البشارات برسول الإسلام فى التوراة وملحقاتها ، ولكن اليهود أزالوا عنها كل معنى صريح ، وصيروها نصوصاً احتمالية تسمح لهم بصرفها عنه - صلى الله عليه وسلم - ومع هذا فقد بقيت بعد تعديلها وتحريفها قوية الدلالة على معناها " الأصلى " من حملها على رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - لأن حملها على غيره متعذر أو متعسر أو محال .
فهى أشبه ما تكون برسالة مغلقة مُحى " عنوانها " ولكن صاحب الرسالة قادر - بعد فضها - أن يثبت اختصاصها به ، لأن الكلام " الداخلى " الذى فيها يقطع بأنها " له " دون سواه ؛ لما فيها من " قرائن " وبينات واضحة ونعرض - فيما يلى - بعضاً منها :

- 1 -
" وهذه هى البركة التى بارك بها موسى رجل الله بنى إسرائيل قبل موته " .
فقال :
" جاء الرب من سيناء ، وأشرق لهم من ساعير ، وتلألأ من جبل فاران " (2) .  فى هذا النص إشارة إلى ثلاث نبوات :
الأولى : نبوة موسى عليه السلام التى تلقاها على جبل سيناء .
الثانية : نبوة عيسى عليه السلام وساعير هى قرية مجاورة لبيت المقدس ، حيث تلقى عيسى عليه السلام أمر رسالته .
الثالثة : نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وجبل فاران هو المكان الذى تلقى فيه - عليه الصلاة والسلام - أول ما نزل عليه من الوحى وفاران هى مكة المكرمة مولد ومنشأ ومبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - .  وهذه العبارة - مرة أخرى - تضمنت خبراً وبشارتين : فالخبر هو تذكير موسى بفضل الله عليه حيث أرسله إليهم رسولاً . والبشارتان :
الأولى : خاصة بعيسى عليه السلام .  والثانية خاصة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .
وموقف اليهود منهما النفى : فلا الأولى بشارة بعيسى ابن مريم ولا الثانية بشارة برسول الإسلام .
أما موقف النصارى فإن النفى - عندهم - خاص ببشارة رسول الإسلام . ولهم فى ذلك مغالطات عجيبة ، حيث قالوا إن " فاران " هى " إيلات " وليست مكة .  وأجمع على هذا " الباطل " واضعو كتاب : قاموس الكتاب المقدس .  وهدفهم منه واضح إذ لو سَلَّمُوا بأن " فاران " هى مكة المكرمة ، للزمهم إما التصديق برسالة رسول الإسلام ، وهذا عندهم قطع الرقاب أسهل عليهم من الإذعان له . . ؟ ! ، أو يلزمهم مخالفة كتابهم المقدس ، ولم يقتصر ورود ذكر " فاران " على هذا الموضع من كتب العهد القديم ، فقد ورد فى قصة إسماعيل عليه السلام مع أمه هاجر حيث تقول التوراة : إن إبراهيم عليه السلام استجاب لسارة بعد ولادة هاجر ابنها إسماعيل وطردها هى وابنها فنزلت وسكنت فى " برية فاران " (3) .  على أنه يلزم من دعوى واضعى قاموس الكتاب المقدس من تفسيرهم فاران بإيلات أن الكذب باعترافهم وارد فى التوراة .  لأنه لم يبعث نبى من " إيلات " حتى تكون البشارة صادقة .  ومستحيل أن يكون هو عيسى عليه السلام ؛ لأن العبارة تتحدث عن بدء الرسالات وعيسى تلقى الإنجيل بساعير وليس بإيلات .
فليست " فاران " إلا " مكة المكرمة " وباعتراف الكثير منهم ، وجبل فاران هو جبل " النور " الذى به غار حراء ، الذى تلقى فيه رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - بدء الوحى . وهجرة إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة المكرمة " فاران " أشهر من الشمس .
وترتيب الأحداث الثلاثة فى العبارة المذكورة :
جاء من سيناء وأشرق من ساعير وتلألأ من فاران .  هذا الترتيب الزمنى دليل ثالث على أن " تلألأ من جبل فاران " تبشير قطعى برسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - . وفى بعض " النسخ " كانت العبارة : " واستعلن من جبل فاران " بدل " تلألأ " .
وأيًا كان اللفظ فإن " تلألأ " و " استعلن " أقوى دلالة من " جاء " و " أشرق " وقوة الدلالة هنا ترجع إلى " المدلولات " الثلاثة .  فالإشراق جزء من مفهوم " المجىء " وهكذا كانت رسالة عيسى بالنسبة لرسالة موسى ( عليهما السلام ) .
أما تلألأ واستعلن فهذا هو واقع الإسلام ، رسولا ورسالة وأمة ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
هذه المغالطة ( فاران هى إيلات ) لها مثيل حيث تزعم التوراة أن هاجرأم إسماعيل عندما أجهدها العطش هى وابنها إسماعيل بعد أن طردا من وجه " سارة " طلبت الماء فلم تجده إلا بعد أن لقيا ملاك " الرب " فى المكان المعروف الآن " ببئر سبع "  ؟ ! وأنها سميت بذلك لذلك . . ؟ ! وكما كذبت فاران دعوى " إيلات " كذَّبت " زمزم الطهور " دعوى " بئر سبع "  ؟‍
وستظل فاران - مكة المكرمة - وزمزم الطهور " عملاقين " تتحطم على صخورهما كل مزاعم الحقد والهوى .
 
- 2 -
ويجىء نص آخر فى التوراة لا محمل له إلا البشارة برسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم- مهما غالط المغالطون .  وهو قول الله لموسى
حسب ما تروى التوراة : " أقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامى فى فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ، ويكون أن الإنسان
الذى لا يسمع لكلامى الذى يتكلم به باسمى أنا أطالبه " (4)
 حدث هذا حسب روايات التوراة وعداً من الله لموسى فى آخر عهده بالرسالة ، وكان يهمه أمر بنى إسرائيل من بعده ، فأعلمه الله - حسب هذه الرواية التوراتية - أنه سيبعث فيهم رسولا مثل موسى - عليه السلام - .
ولقوة دلالة النص على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد وقف أهل الكتابين - اليهود والنصارى - موقفين مختلفين هدفهما واحد ، وهو أن النص ليس بشارة برسول الإسلام .
أما اليهود فلهم فيه رأيان :
الأول : أن العبارة نفسها ليست خبراً بل هى نفى ، ويقدرون قبل الفعل " أقيم " همزة استفهام يكون الاستفهام معها " إنكاريًا " وتقدير النص عندهم هكذا " أأقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلك . . ؟ ! 
ويكون المعنى عليه : كيف أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم ؟ أى لا أفعل هذا .
بطلان هذا الرأى
وهذا الرأى باطل ولن نذهب فى بيان بطلانه إلى أكثر من كلام التوراة نفسها .  وذلك ؛ لأنه لو كان النص كما ذكروا بهمزة استفهام إنكارى محذوفة هى فى قوة المذكور لكان الكلام نفياً فعلاً . .  ولو كان الكلام نفياً لما صح أن يعطف عليه قوله بعد ذلك :
" ويكون أن الإنسان الذى لا يسمع لكلامى الذى يتكلم به باسمى أنا أطالبه " فهذا المقطع إثبات قطعاً فهو مرتب على إقامة النبى الذى وعد به المقطع الذى قبله .  فدل هذا " العطف " على أن المقطع السابق وعد خبرى ثابت لا نفى .  ويترتب على ذلك بطلان القول الذاهب إلى تقدير الاستفهام . . ؟ !
الثانى : وقد أحس اليهود ببطلان القول بالاستفهام فاحتاطوا للأمر وقالوا لا مانع أن يكون النص خبراً ووعداً مثبتاً ، ولكنه ليس المقصود به عيسى ابن مريم - عليه السلام  - ولا محمد بن عبد الله رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - ، بل المراد به نبى من أنبياء إسرائيل يوشع بن نون فتى موسى ، أو صموئيل . . ؟ !
موقف النصارى :
أما النصارى فيحملون البشارة فى النص على - عيسى عليه السلام - وينفون أن يكون المراد بها رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - ، وقد علمنا قبلا أن اليهود ينفون أن تكون لعيسى -  عليه السلام - .
وللنصارى مغالطات عجيبة فى ذلك إذ يقولون إن النبى الموعود به ليس من بنى إسماعيل بل من بنى إسرائيل .  ومحمد إسماعيلى فكيف يرسل الله إلى بنى إسرائيل رجلاً ليس منهم . ؟ !  كما قالوا إن موسى أتى بمعجزات ومحمد لم يأت بمعجزات فكيف يكون مثله .  وقد رددنا على هذه الفرية فيما تقدم .
الحق الذى لا جدال فيه :
والواقع أن كل ما ذهب إليه اليهود والنصارى باطل . باطل .  ولن نذهب فى بيان بطلانه إلى أبعد من دلالة النص المتنازع عليه نفسه .  أما الحق الذى لا جدال فيه فإن هذا النص ليس له محمل مقبول إلا البشارة برسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - وإليكم البيان :
إن النص المتنازع عليه يقيد البشارة بالنبى الموعود به فيه بشرطين :
أحدهما : أنه من وسط إخوة بنى إسرائيل .
وثانيهما : أنه مثل موسى - عليه السلام - صاحب شريعة وجهاد لأعداء الله وهذان الشرطان لا وجود لهما لا فى يوشع بن نون ، ولا فى صموئيل كما يدعى اليهود فى أحد قوليهم .
ولا فى عيسى عليه السلام كما يدعى النصارى .
أما انتفاء الشرط الأول فلأن يوشع وصموئيل وعيسى من بنى إسرائيل وليسوا من وسط إخوة بنى إسرائيل .  ولو كان المراد واحداً منهم لقال فى الوعد :أقيم لهم نبيًا منهم . . ؟ !  هذا هو منهج الوحى فى مثل هذه الأمور كما قال فى شأن النبى - صلى الله عليه وسلم - :
( هو الذى بعث فى الأميين رسولاً منهم . . ) (5) .  وكما جاء على لسان إبراهيم وإسماعيل ( عليهما السلام ) ( ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم . . .  ) (6) .
وأما انتفاء الشرط الثانى ، فلأن : لا صموئيل ولا يوشع ولا عيسى ابن مريم كانوا مثل " موسى " عليه السلام .
فموسى كان صاحب شريعة ، ويوشع وصموئيل وعيسى وجميع الرسل الذين جاءوا بعد موسى - عليه السلام - من بنى إسرائيل لم يكن واحداً منهم صاحب شريعة ، وإنما كانوا على شريعة - موسى عليه السلام - .  وحتى عيسى ما جاء بشريعة ولكن جاء متمماً ومعدلاً فشريعة موسى هى الأصل .  إن عيسى كان مذكراً لبنى إسرائيل ومجدداً الدعوة إلى الله على هدى من شريعة موسى عليه السلام  ! ! فالمثلية بين هؤلاء - وهى أحد شرطى البشارة - وبين موسى عليه السلام لا وجود لها . ؟ !
الشرطان متحققان فى رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم -
وبنفس القوة والوضوح اللذين انتفى الشرطان بهما عمن ذكروا من الأنبياء ثبت ذلك الشرطان لمحمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - :
فهو من نسل إسماعيل ، وإسماعيل أخو إسحق ، الذى هو أبو يعقوب المسمى إسرائيل .  فهو من وسط إخوة بنى إسرائيل - بنو عمومتهم - وليس من إسرائيل نفسها .  وبهذا تحقق الشرط الأول من شرطى البشارة :
ومحمد - عليه الصلاة والسلام - صاحب شريعة جليلة الشأن لها سلطانها الخاص بها - جمعت فأوعت - مثلما كان موسى - أكبر رسل بنى إسرائيل - صاحب شريعة مستقلة كانت لها منزلتها التى لم تضارع فيما قبل من بدء عهد الرسالات إلى مبعث عيسى عليه السلام .
وبهذا يتحقق الشرط الثانى من شرطى البشارة وهو " المثلية " بين موسى ومحمد ( عليهما صلوات الله وسلامه ) ، فعلى القارئ أن يتأمل ثم يحكم .
- 3 -
فى المزامير المنسوبة إلى داود عليه السلام وردت كثير من العبارات التى لا يصح حمل معناها إلا على رسول الإسلام .  ومن ذلك قول داود كما تروى التوراة :
 
- أ -
" أنت أبرع جمالاً من بنى البشر . انسكبت النعمة على شفتيك ، لذلك باركك الله إلى الأبد .  تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار ، جلالك وبهاؤك .  وبجلالك اقتحم .  اركب من أجل الحق والدعة . .  بتلك المسنونة فى قلب أعداء الملك - يعنى الله - شعوب تحتك يسقطون . .  من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك " (7) .
 
- ب -
اسمعى يانيت وأميلى أذنك ، وانسى شعبك وبيت أبيك ، فيشتهى الملك حسنك ؛ لأنه هو سيدك فاسجدى له .  وبنت صور أغنى الشعوب تترضى وجهك بهدية . كلها مجد ابنة الملك فى خدرها .  منسوجة بذهب ملابسها مطرزة ، تحضر إلى الملك فى إثرها عذارى صاحباتها مقدمات إليك يحضرن بفرح وابتهاج يدخلن إلى قصر الملك .  عوضاً عن آبائك يكون بنوك نقيمهم رؤساء فى كل الأرض اذكر اسمك فى كل دور فدور من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والأبد "
وقفة مع هذا الكلام
فى المقطع الأول (أ) لا تنطبق الأوصاف التى ذكرها داود إلا على رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - .  فهو الذى قاتل بسيفه فى سبيل الله وسقطت أمامه شعوب عظيمة كالفرس والروم .
وهو الممسوح بالبركة أكثر من رفقائه الأنبياء ؛ لأنه خاتم النبيين ، ورسالته عامة خالدة : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (8) .
ولم يترك رسول هدى وبيانا مثلما ترك رسول الإسلام فى القرآن الحكيم ، وفى أحاديثه وتوجيهاته ، التى بلغت مئات الآلاف ، وتعددت المصادر التى سجلتها ، وفيها من روائع البيان ، وصفاء الألفاظ ، وشرف المعانى ما ليس فى غيرها .
أما المقطع الثانى (ب) فهو أوصاف للكعبة الشريفة . فهى التى تترضاها الأمم بالهدايا . وهى ذات الملابس المنسوجة بالذهب والمطرزة ، وهى التى يذكر اسمها فى كل دور فدور وتأتيها قوافل" الحجيج " رجالاً ونساءً من كل مكان فيدخل الجميع فى " قصر الملك " ويحمدها الناس إلى الأبد ؛ لأن الرسالة المرتبطة بها رسالة عامة : لكل شعوب الأرض الإنس والجن . بل والملائكة . وفى مواسم الحج يأتيها القاصدون من جميع بقاع الأرض مسلمين ، ورعايا مسلمين من بلاد ليست مسلمة .
خالدة : لم ينته العمل بها بوفاة رسولها ، كما هو الحال فيما تقدم . وإنما هى دين الله إلى الأبد الأبيد .
 
- 4 -
وأشعيا وسفره من أطول أسفار العهد القديم ملىء بالإشارات الواضحة التى تبشر برسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم- ، ولولا المنهج الذى أخذنا به هنا وهو عدم التطويل لذكرنا من ذلك الكثير ؛ ولذا فإننا نكتفى بهذا المقطع لدلالته القوية على ما نقول :
" قومى استنيرى ؛ لأنه قد جاء نورك ، ومجد الرب أشرق عليك . .  لأنه ها هى الظلمة تغطى الأرض والظلام الدامس الأمم .  أما عليك فيشرق الرب ، ومجده عليك يرى .  فتسير الأمم فى نورك ، والملوك فى ضياء إشراقك .
ارفعى عينيك حواليك وانظرى . قد اجتمعوا كلهم جاءوا إليك . يأتى بنوك من بعيد ، وتحمل بناتك على الأيدى ، حينئذ تنظرين وتنيرين ويخفق قلبك ويتسع ؛ لأنه تحول إليك ثروة البحر ، ويأتى إليك غنى الأمم تغطيك كثرة الجمال بكران مديان ، وعيفة كلها تأتى من شبا . تحمل ذهبا ولبانا ، وتبشر بتسابيح الرب . كل غنم قيدار تجتمع إليك .  كباش نبايوت تخدمك تصعد مقبولة على مذبحى ، وأزين بيت جمالى .
من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها .  إن الجزائر تنتظرنى وسفن ترشيش فى الأول لتأتى من بعيد ، وفضتهم وذهبهم معهم لا سم الرب إلهك  (9) .
وبنو الغريب يبنون أسوارك ، وملوكهم يخدمونك . . وتفتح أبوابك دائما نهاراً وليلاً لا تغلق ، ليؤتى إليك بغنى الأمم وتقاد ملوكهم . . . (10) .
دلالة هذه النصوص:
بلا أدنى ريب فإن هذا الكلام المنسوب إلى أشعيا وصف لمكة المكرمة وكعبتها الشامخة .
فالمقطع الأول إنما هو حديث عن موسم الحج المبارك فيه يجتمع بنوها حولها من كل مكان وفيه لمحة قوية جدًا إلى نحر الهدى صبيحة العيد .  ألم يشر النص إلى غنم قيدار ، وقيدار هو ولد إسماعيل - عليه السلام - الذى تشعبت منه قبائل العرب .  ثم ألم ينص على المذبح الذى تنحر عليه الذبائح ؟
كما أشار النص ثلاث إشارات تعد من أوضح الأدلة على أن المراد بهذا النص مكة المكرمة .  وتلك الإشارات هى طرق حضور الحجاج إليها .  ففى القديم كانت وسائل النقل : ركوب الجمال.  ثم السفن .أما فى العصر الحديث فقد جدت وسيلة النقل الجوى " الطائرات " وبشارة أشعيا تضمنت هذه الوسائل الثلاث على النحو الآتى :
1- الجمال ، قال فيها : تغطيك كثرة الجمال . ؟ !
2- السفن ، قال فيها : وسفن ترشيش تأتى ببنيك من بعيد ؟ !
3- النقل الجوى ، وفيه يقول : من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها . ؟ ! !
أليس هذا أوضح من الشمس فى كبد السماء .
على أن النص ملىء بعد ذلك بالدقائق والأسرار ، ومنها أن مكة مفتوحة الأبواب ليلاً ونهاراً لكل قادم فى حج أو عمرة . . ؟ !
ومنها أن خيرات الأمم تجبى إليها من كل مكان ، والقرآن يقرر هذا المعنى فى قول الله تعالى :
( أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شىء ) (11) .
ومنها أن بنى الغريب ( يعنى غير العرب ) يبنون أسوارها .  وكم من الأيدى العاملة الآن ، وذوى الخبرات يعملون فيها ويشيدون قلاعها فوق الأرض وتحت الأرض ومنها أنه ما من عاصمة من عواصم العالم إلا دخلت فى محنة من أهلها أو من غير أهلها إلا هذه " العاصمة المقدسة " فظلت بمأمن من غارات الغائرين وكيد الكائدين ، ومثلها المدينة المنورة .
ومنها كثرة الثروات التى مَنَّ الله بها عليها .  أليس البترول من ثروات البحر العظمى التى تفجرت أرض الحجاز وشبه الجزيرة منه عيوناً دفاقة بمعدل لم تصل إليه أمة من الأمم . أضف إلى ذلك سبائك الذهب والفضة .
والحديث عن مكة المكرمة حديث عن رسول الإسلام ؛ لأن مجدها لم يأت إلا على يدى بعثته - صلى الله عليه وسلم - .
هذه الحقائق لا تقبل الجدل . ومع هذا فإن أهل الكتاب ( وخاصة اليهود ) يحملون هذه الأوصاف على مدينة " صهيون " ولهذا فإنهم عمدوا إلى النص وعدلوه ليصلح لهذا الزعم .
ولكننا نضع الأمر بين يدى المنصفين من كل ملة . أهذه الأوصاف يمكن أن تطلق على مدينة  "  صهيون  " .
لقد خرب " بيت الرب " فى القدس مراراً وتعرض لأعمال شنيعة على كل العصور . أما الكعبة الشريفة والمسجد الحرام فلم يصل أحد إليهما بسوء ، ثم أين ثروات البحر والبر التى تجبى إلى تلك المدينة وأهلها ( إلى الآن ) يعيشون عالة على صدقات الأمم .
وأين هى المواكب التى تأتى إليها براً وبحراً وجَـوًا ، وهل أبوابها مفتوحة ليلاً ونهاراً ، وأين هم بنوها الذين اجتمعوا حولها .
وما صلة غنم قيدار وكباش مدين بها .  وأين هو التسبيح الذى يشق عنان السماء منها . .  وأين . . وأين . . ؟
إن هذه المغالطات لا تثبت أمام قوة الحق ، ونحن يكفينا أن نقيم هذه الأدلة من كتبهم على صدق الدعوى ، ولا يهمنا أن يذعن القوم لما نقول فحسبك من خصمك أن تثبت باطل ما يدعيه أمام الحق الذى تدافع عنه .
والفاصل بيننا -  فى النهاية - هو الله الذى لا يُبدل القول لديه .
 
- 5 -
 وتنسب التوراة إلى نبى يدعى " حبقوق " من أنبياء العهد القديم ، وله سفر صغير قوامه ثلاثة إصحاحات .  تنسب إليه التوراة نصوصاً كان يصلى بها .  تضمنها الإصحاح الثالث من سفره . وهذا الإصحاح يكاد يكون كله بشارة برسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم  - .  وإليكم
مقاطع منه : " الله جاء من تيمان ، والقدوس من جبل فاران - سلاه - جلاله غطى السموات .  والأرض امتلأت من تسبيحه وكان لمعان كالنور له من يديه شعاع ، وهناك استتار قدرته .
قدامه ذهب الوبأ .  وعند رجليه خرجت الحمى .  وقف وقاس الأرض ، نظر فرجف الأمم ودكت الجبال الدهرية ، وخسفت آكام القوم .
مسالك الأزل له ...........................................
يسخط دست الأمم ، خرجت لخلاص شعبك ... سحقت رأس بيت الشرير معرياً الأساس حتى العنق ... سلكت البحر بخيلك . .  (12) .
دلالات هذه الإشارات :
لا يستطيع عاقل عالم بتاريخ الرسالات ومعانى التراكيب أن يصرف هذه النصوص على غير البشارة برسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم- .  فالجهتان المذكورتان فى مطلع هذا المقطع وهما : تيمان : يعنى اليمن ، وجبل فاران : يعنى جبل النور الذى بمكة المكرمة التى هى فاران .  هاتان الجهتان عربيتان .  وهما رمز لشبه الجزيرة العربية التى كانت مسرحاً أوليًا لرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
فليس المراد إذن نبيًا من بنى إسرائيل ؛ لأنه معلوم أن رسل بنى إسرائيل كانت تأتى من جهة الشام شمالاً .  لا من جهة بلاد العرب .  وهذه البشارة أتت مؤكدة للبشـارة المماثلة ، التى تقدم ذكرها من سفر التثنية ، وقد ذكرت أن الله :  تلألأ أو استعلن من جبل فاران .
بيد أن بشارة التثنية شملت الإخبار بمقدم موسى - عليه السلام - والتبشير بعيسى - عليه السلام - وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - أما بشـارة حبقوق فهى خاصة برسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - .  ولو لم يكن فى كلام حبقوق إلا هذا " التحديد " لكان ذلك كافياً فى اختصاص بشارته برسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم -  ومع هذا فقد اشتمل كلام حبقوق على دلائل أخرى ذات مغزى :
منها : الإشارة إلى كثرة التسبيح حتى امتلأت منه الأرض . . ؟ !
ومنها : دكه - صلى الله عليه وسلم - لعروش الظلم والطغيان وقهر الممالك الجائرة .
ومنها : أن خيل جيوشه ركبت البحر ، وهذا لم يحدث إلا فى ظل رسالة الإسلام .
على أن كلام حبقوق ملىء بالرمز والإشارات مما يفيدنا فى هذا المجال ولكننا نتجاوزه لأمرين :
أحدهما : أن فى الإشارات الصريحة غناء عنها .
وثانيهما : عدم التطويل - هنا - كما اتفقنا .
بشاراته - صلى الله عليه وسلم - فى العهد الجديد
أسفار العهد الجديد ( الأناجيل والرسائل ) حافلة بالنصوص التى يتعين أن تكون " بشارات " برسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - .
تلك البشـارات تعـلن أحياناً فى صورة الوعـد بملكوت الله أو ملكوت السماوات . وأحيانا أخـرى بالـروح القـدس .  ومرات باسـم المعـزى أو الفارقليط ، وهى كلمة يونانية سيأتى فيما بعد معناها ، تلك هى صورة البشارات فى الأناجيل فى صيغها المعروفة الآن .

- 1 - 
ففى إنجيل متى وردت هذه العبارة مسـندة إلى يحيى - عليه السلام - المسمى فى الأناجيل : يوحنا المعمدان .  وفيها يقول : " توبوا ؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات " (13) .
فمن هو ملكوت السماوات الذى بشر به يحيى ؟ ! هل هو عيسى عليه السلام - كما يقول النصارى  . . ؟ !
هذا احتمال . .  ولكن متَّى نفسه يدفعه حيث روى عن عيسى - عليه السلام - نفس العبارة :  "  توبوا ؛ لأنه قد اقترب ملكوت السموات " (14) .
فلـو كان المراد بملكـوت السموات - هذه - عيسى عليه السلام لما وردت هذه " البشارة " على لسان عيسى ؛ إذ كيف يبشر بنفسه ، وهو قائم موجود ، والبشـارة لا تكون إلا بشىء محـبوب سيأتى ، كما أن الإنذار - قسيمه - لا يكون إلا بشىء " مكروه " قد يقع . فكلاهما : التبشير والإنذار - أمران مستقبلان .
إن ورود هذه العبارة عن عيسى نفسه تخصيص لذلك العموم المستفاد من عبارة يحيى عليهما السلام .  فدل ذلك على أن المراد بملكوت السماوات رسول آخر غير عيسى .
ولم يأت بعد عيسى - باعتراف الجميع - رسول غير رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - .
فدل ذلك على أنه هو المراد بملكوت السماوات فى عبارة عيسى - عليه السلام - قولاً واحداً - وباحتمال أرجح من عبارة يحيى ،إذ لا مانع عندنا - أن يكون يحيى عليه السلام قد بشر بها بعيسى - عليه السلام - .
أما بشارة عيسى فلا موضع لها إلا الحمل - القطعى -  على رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - .
 
- 2 -
وفى صيغة الصلاة التى علمها المسيح لتلاميذه - كما يروى مَتَّى نفسه - بشارة أخرى بنبى الإسـلام .  وهذا هو نص مَتَّى فى هذا " فصلوا أنتم هكذا : أبانا الذى فى السماوات ليتقدس اسمك ليأت ملكوتك " (15).
ووردت هذه الصيغة فى إنجيل لوقا هكذا :
" متى صليتم فقـولوا : أبانا الذى فى السماوات ليتقـدس اسمك ليأت ملكوتك .  . " (16) .
ويذكر لوقا أن المسيح جمع تلاميذه ، وعلمهم كيف يقهرون الشياطين ، ويشفـون الأمراض ثم قال : " وأرسلهم ليكرزوا - أى يبشروا - بملكوت الله " (17) .
أما مرقس فيسند هذه البشارة إلى المسيح نفسه إذ يقول :  "  جاء يسوع إلى الجبل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول : قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله  " (18) .
فهـؤلاء ثلاثة من التلامذة يتفقـون على أن يحيى وعيسى ( عليهما السلام ) قد بشرا بملكوت الله الذى اقترب .  فمن المراد بملكوت الله إذا لم يكن هو رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - ؟
وأكاد أجزم بأن عبارة " المسيح ، قد كمل الزمان " لا تعنى سوى انتهاء عصر الرسالات الموقوتة وإقبال الرسالة الخالدة . . !

- 3 -
أما يوحنا صاحب رابع الأناجيل .  فإنه يذكر هذه البشارات فى مواضع متعددة من إنجيله .
ومن ذلك ما يرويه عن المسيح - عليه السلام - " الذى لا يحبنى لا يحفظ كلامى ، والكلام الذى تسمعونه ليس لى بل للأب الذى أرسلنى .  بهذا كلمتكم وأنا عندكم .  وأما المعزِّى ( اسم فاعل من الفعل المضعف العين عزى ) (19) الروح القدس ، الذى سيرسله الأب باسمى فهو يعلمكم كل شىء ويذكركم بما قلته لكم " (20) .
كما يروى يوحنا قول المسيح  -  الآتى - مع تلاميذه : " إنه خير لكم أن أنطلق .  إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى ، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم .  ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية ، وعلى بر وعلى دينونة  " (21) .
ويروى كذلك قول المسيح لتلاميذه :  "  وأما إذا جاء ذاك روح الحق ، فهو يرشدكم إلى جميع الحق ؛ لأنه لا يتكلم من نفسه .  بل كل ما يسمع يتكلم به ، ويخبركم بأمور آتية  " . . ؟ !  (22).
فمن هو المُعَزِّى أو روح القدس أو روح الحق الذى بشر به المسيح - عليه السلام - حسبما يروى يوحنا . . ؟ !
إن المسيح يقول :
إن ذلك المُعَزِّى أو الروح القدس لا يأتى إلا بعد ذهاب المسيح ، والمسيح - نفسه - يُقـِرُّ بأن ذلك المُعَزِّى أو الروح أَجَلُّ منه شأنا ، وأعم نفعاً وأبقى أثراً ، ولذلك قال لتلاميذه : خير لكم أن أنطلق .  إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَزِّى .
وكلمة " خير " أفعل تفضيل بمعنى أكثر خيراً لكم ذهابى ليأتيكم المعزى ولو كان " المُعَـزَّى " مسـاويا للمسيح فى الدرجة لكانا مستويين فى الخيرية ولما ساغ للمسيح أن يقول خير لكم أن أنطلق.
ومن باب أولى لو كان " المُعَزِّى " أقل فضلاً من المسيح .  فعبارة المسيح دليل قاطع على أنه بشر بمن هو أفضل منه ، لا مساوٍ له ولا أقل . 
ثم يصف المسيح ذلك المُعَزِّى أو الروح بأوصـاف ليست موجـودة فى المسيح نفسه - عليه السلام - .  ومن تلك الأوصاف :
أ - إنه يعلم الناس كل شىء . وهذا معناه شمول رسالته لكل مقومات الإصلاح فى الدنيا والدين .  وذلك هو الإسلام .
ب - إنه يبكت العالم على خطية . والشاهد هنا كلمة " العالم " وهذا معناه شمول الإسلام لكل أجـناس البشر ، عربا وعجماً ، فى كل زمان ومكان .  ولم توصف شريعة بهذين الوصفين إلا  الإسلام .
جـ - إنه يخـبر بأمور آتية ، ويذكـر بما مضى .  وقد تحقق هذا فى رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
فأخبر بأمور آتية لم يخبر بها من سبقه أو أخبروا ولكن ليس على وجه التفصيل والتأكيد الذى كان على يديه - صلى الله عليه وسلم - فكم فى القرآن من أمور أخبر بها قبل أن تقع فوقعت كما أخبر ، وكم فيه من الإخبار بما سيكون فى الحياة الآخرة من أوصاف الجنة ، والنار ، والبعث ، وعلامات الساعة ، وتخاصم أهل النار ، وحوار أصحاب الجنة مع " رجال الأعراف " ، وندم من باعوا دينهم بدنياهم . إلخ  . . إلخ .
وذكر بما مضى من أحوال الأمم ، وقيام الحضارات ثم سقوطها وأحوال المرسلين وما بلغوا به أقوامهم والشهادة لهم بالصدق والأمانة والإخلاص والوفاء ، ومسلك بعض الأقوام من رسلهم والصراع الذى دار بين المحقين وأهل الباطل ، وعاقبة بعض المكذبين . إلخ  . . إلخ .
ثم استوعبت رسالته الحياة كلها فأرست قواعد الاعتقاد الصحيح وسنت طرق العبادة المثمرة ، ووضعت أصول التشريع فى كل ما هو متعلق بالحياة عاجلها وآجلها ، ووضحت العلاقة السليمة بين المخلوق والخالق ، وبين الناس بعضهم بعضاً .  وحررت العقول ، وطهرت القلوب ورسمت طريق الهدى لكل نفس ولكل جماعة ولكل أمة .  أى أنها أرشدت إلى كل شىء .  وعلمت كل شىء مما يحتاج تعلمه إلى وحى وتوقيف . . !
ذلك هو الإسلام ، ولا شىء غير الإسلام .
وشهدت - فيما شهدت  للمسيح - عليه السلام - بأنه رسول كريم أمين أدى رسالته وبشر وأنذر بنى إسرائيل .  وأنه عبده ورسوله : ( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذى فيه يمترون ) (23) .
وشهادة رسول الإسلام لعيسى - عليه السلام - منصوص عليها فى بشارات عيسى نفسه به ( صلى الله عليه وسلم ) .  فاسمع إلى يوحنا وهو يروى عن المسيح - عليه السلام  - قوله الآتى .  " ومتى جاء المُعَزِّى الذى سأرسله " أنا " إليكم من الأب روح الحق من عند الأب ينبثق فهـو يشهـد لى . .  وتشهـدون أنتم أيضاً لأنكم معى من الابتداء " (24) .
روح القـدس هذا ، أو المُعَزِّى ، أو روح الحق لا يمكن أن يكون عيسى ؛ لأن عـيسى لم يبشر بنفسـه ، وهو كان موجوداً ساعة قال هذا ولا يمكن أن يكون المراد به نبيًا بعد عيسى غير محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأننا متفقون على أن عيسى لم يأت بعده نبى قبل رسول الإسلام ( صلى الله عليه وسلم ) .
فتعين أن يكون روح القدس ، أو المعزِّى ، أو روح الحق تبشيرا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - إذ فيه تجتمع تلك الأوصاف ، كما يتحقق فيه معنى " الأفضلية " إذ هو خاتم النبيين ، الذى جاء بشريعة خالدة عامة ، وعلى هذا حملنا قبلا قول عيسى : خير لكم أن أنطلق .  إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَزِّى "
وهذا إقرار من عيسى بأن المبشر به أفضل من المُبَشَّر وكفى بذلك شواهد .
 
- 4 -
أما البشارة باسم " الفارقليط " فقد خلت منها الترجمات العربية المعاصرة للكتاب المقـدس .  ومعـلوم أن الكتاب المقدس خضع لترجمات وطبعات متعددة ؛ لدرجة أن الترجمات العربية لتختلف من نسخة إلى أخرى اختلافا بيناً .
وتحت يدى - الآن - نسختان من الطبعـات العربية كلتاهما خاليتان من كلمة الفارقليط ، وموضوع مكانها كلمة المعزى .
بيد أننى وجدت أن ابن القيم ، وابن تيمية ، كل منهما قد نقل عن نسخ خطية كانت معاصرة لهما نصوصاً فيها التصريح باسم" الفارقليط " كما أن الشيخ رحمة الله الهندى ( رحمه الله ) نقل فى كتابه " إظهار الحق " نصوصاً " عن ترجمات عربية ترجع إلى أعوام : 1821 ـ 1831 ـ 1844م وتمت فى لندن
معنى "  الفارقليط  " :
كلمة يونانية معناها واحد مما يأتى :
 الحامد - الحماد - المحمود - الأحمد .
أو معناها كل ما تقدم .  فمعنى " فارقليط " يدور حول الحمد وجميع مشتقاته المشار إليها .
وكل واحد منها يصح إطلاقه على رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - فهو الحامد والحمّاد والمحمود والأحمد ، والمحمد .
وفى الطبعات - اللندنية - المتقدم ذكرها ورد النص هكذا : " إن كنتم تحبوننى فاحفظوا وصاياى .  وأنا أطلب من الآب فيعطيكم فارقليط آخر ، ليثبت معكم إلى الأبد  " .
" الفارقليط " روح القـدس الذى يرسله الآب باسمى هو يعلمكم كل شىء ، وهو يذكركم كل ما قلته لكم  " (25) .
ومقارنة هذين النصـين بالنص المقابل لهما الذى نقلناه آنفا عن إنجيل يوحنا من الطبعات العربية الحديثة تريك أن الطبعات الحديـثة حـذفت كلمة  " الفارقليط " ووضعت مكانها كلمة  " المعزى "  كما تريك أن الطبعات الحديثة حذفت جملة : " ليثبت معـكم إلى الأبد " وهو نص على خلود الإسلام على أنهم عادوا واعترفوا بأن كلمة " المعزى " التى فى الطبعات الحديثة للكتاب المقـدس أصلها مترجـم عن كلمة يونانية لفظاً ومعنى وهى " باراكليتس " ومعناها المعزى ، وليست " فارقليط " أو " بارقليط " التى معناها الحماد والحامد . . . والتى يتمسك بها المسلمون . . ؟ !
وهذه المحاولات مردودة لسببين :
أولهما : ليس نحن - المسلمين - الذين قاموا بعمل بالطبعات القديمة التى فيها  " الفارقليط " وإنما طبعها النصارى قديماً .  فعملهم حجة على الطبعات الحديثة وهم غير متهمين فى عملهم هذا .
وثانيهما : ولو كانت الكلمة " هى : الباراكليتس " فلماذا خلت منها الطبعات القديمة والنسخ المخطوطة ؟ !
بل ولماذا خلت منها الطبعات الحديثة . . ؟ !
وأيا كان المدار : فارقليط ، أو باراكليتس ، أو المعزى ، أو الروح القدس فنحن لا نعول على الكلمة نفسها بقدر ما نعول على الأوصاف التى أجريت عليها .
مثل يعلمكم كل شىء - يمكث معكم إلى الأبد .  فهـذه الأوصـاف هى لرسـول الإسـلام - صلى الله عليه وسلم - ومهما اجتهدتم فى صرفها عنه فلن تنصرف .
ولهم " شبهة " أخرى يحلو لهم تردادها وهى : محمد - صلى الله عليه وسلم - عربى الجنس واللسان ، فكيف يرسله الله إلى أمم وأجناس غير عربية . .
وكيف يكلف الله الناس برسالة لا يعرفون لغتها ولا عهد لهم بالتحدث معها .  وكيف يستطيعون أن يفهموا القرآن ، وتوجيهات رسول الإسلام ، وهما باللغة العربية . ؟ !
رد الشبهة نرد عليها من طريقين :
الأول: وهو مستمد من واقـع القـوم أنفسهم -
فهم يدعون تبعاً لما قال " بولس " أن عيسى - عليه السلام - مرسل لخلاص العالم كله .  وأنه أمر حوارييه أن يكرزوا كل العالم برسالة الخلاص ، وفى أيامنا هذه كثرت المنشورات التى تقول : المسيح مخلص العالم  .  وهنا نسأل القوم سؤالاً : أية لغة كانت لغة المسيـح  - عليه السلام  - وحوارييه ؟ !
هل هى العبرانية أم اليونانية ؟ !  وأيا كان الجواب فإن المسيح كان يتكلم لغة واحدة .  وأوحى إليه الإنجيل بلغة واحدة .  فعلى أى أساس إذن قلتم : إنه منقذ لكل العالم ؟ ! هل كل العالم كان وما يزال يعرف لغة المسيح ؟ ! أم أن العالم أيام المسيح كان يتكلم بعدة لغات . .  والآن يتكلم بمئات اللغات . . ؟ !
فإن كنتم قد ادعيتم أن المسيح هو منقذ كل العالم مع تسليمكم بأنه كان يتكلم بلغة واحدة فلماذا تنكرون على رسول الإسلام أن يكون مرسلاً لكل العالم . ؟ ! وما الفرق بين رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - والمسيح عليه السلام حتى تحظروا عليه ما استبحتموه للمسيح ؟ ! أهذا عدل . . أهذا إنصاف  ! !
الثانى : وهو مستمد من طبيعة الإسلام .  ومن تاريخه الطويل الحافل بكل عجيب .
نعم : إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - عربى اللسان ، والجنس ، والقرآن العظيم الذى جاء به عربى اللسان ، عالمى التوجيه والتشريع والسلطان .  ووحدة اللغة فى الإسلام مثل وحدة العقيدة فيه .  ولم يحل دون انتشار الإسلام بين الأمم والشعوب غير العربية أن لغة رسالته عربية ورسوله عربى ورواده الأوائل عرب .  هذه الاعتبارات لم تحل دون نشر الإسلام لجميع شعوب الأرض باختلاف لغاتها وعقائدهـا وأجناسها .  وكان سلوك الدعوة إلى الإسلام حكيما ، وهذه أبرز ملامحه .
أولاً: إن صاحب الدعوة - صلى الله عليه وسلم - أرسل رسله يحملون رسائله وكتبه إلى كل رؤساء القبائل وملوك الأمم والشعوب ، وقد بدأت هذه الطريقة بعد وقوع صلح الحديبية ، وكل حامل رسالة أو كتاب إلى رئيس أو ملك كان على علم بلغة من هم المبعوث إليهم .
فقد أرسل النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل دحية بن خليفة الكلبى .
وأرسل إلى المقوقس عظيم القبـط بمصـر حاطب بن أبى بلتعة .  وأرسل إلى كسرى عبد الله بن حذافة السهمى .
وأرسل إلى الحارث بن أبى شمر الغسانى شجاع بن ذهب الأسدى .  وكان هؤلاء الرسل عالمين بلغات من أرسلوا إليهم .
كما كان - صلى الله عليه وسلم-  يحتفظ بمترجمين يترجمون له ما يرد من رسائل لغتها غير العربية .
ثانياً : إن الملوك والرؤساء كان لديهم مترجمون - كذلك - يترجمون لهم ما يرد من رسول الإسلام أو يقومون بالترجمة من العربية إلى غيرها ، ومن غير العربية إلى العربية فى حالة ما إذا كان " المرسل " وفداً يحمل رسائل شفوية للتبليغ .
ثالثاً : إن اليهود وكثيراً من النصارى كانوا يعرفون اللسان العربى ، ومن النصارى من هم عـرب خلص كنصـارى نجـران ، كما أن العجم من الفرس والروم كان من بينهم عرب يعايشونهم ويقيمون بينهم .
رابعاً : كان صاحب الدعوة - صلى الله عليه وسلم - يحض أصحابه على تعلم لغات الأمم ومما يروى عنه - عليه الصلاة السلام - قوله : من تعلم لغة قوم أمن غوائلهم .
خامساً : لما اجتازت الدعوة مرحلة الدعوة بالرسالة والكتاب والوفد ، والبعث ، ودخلت فى مرحلة الفتح كان الجنود المسلمون ينشرون اللغة العربية كما ينشرون الإسلام نفسه . وما من أرض حل بها الإسلام إلا وقد حلت بها اللغة العربية تعضده ، وتؤازره فى انسجام عجيب ، فقضت اللغة العربية على لغات الأمم والشعوب وحلت هى محلها .  قضت على القبطية فى مصر وعلى الفارسية فى العراق وعلى البربرية فى شمال غرب أفريقيا كما قضت على السريانية وغيرها من اللغات ، وأصبحت هى لغة الحياة والإدارة والكتابة والنشر والتأليف .
سادساً : قام العرب المسلمون بترجمة ما دعت إليه المصلحة من تراث الأمم المفتوحة ، ففتحوا نوافذ الفكر ، والثقافة ، والمعرفة لمن لا يعرف غير العربية من العرب المسلمين . كما ترجموا من الفكر الإسلامى ما يصلح ضرورة لغير العرب من المسلمين فنقلوه من العربية إلى غير العربية وفاءً بحق الدعوة والتبليغ .
سابعاً : أقبل غير العرب من الذين دخلوا الإسلام على تعلم العربية وتركوا لغاتهم الأصلية وأصبحوا عربى اللسان واللغة .  ومن هـؤلاء أعلام لا يحصون كان لهم فضل عظيم فى إنماء الفكر الإسلامى منهم اللغويون ، والنحويون ، والبيانيون ، والفقـهاء ، والأصوليون ، والمفسرون ، والمحدثون ، والمتكلمون ، والفلاسفة ، والمناطـقة ، والرياضيون ، والأطباء ، والفلكيون ، بل والشعراء والأدباء والرحالة والجغرافيون ، وغيرهم ، وغيرهم .
إن كل مجال من مجـالات النشـاط العلمى فى الإسلام نبغ فيه كثير من غير العرب بعد تعلمهم اللغة العربية التى كانوا فيها مثل أنجب وأحذق وأمهر أبنائها .
ولو رحنا نحصى هؤلاء لضاق بنا السهل والوعر ، فلتكن الإشارة إليهم نائباً عن ذلك التفصيل غير المستطاع .
إن وحدة اللغة فى الإسلام لم تحل دون نشر الإسلام ، فلم يمض طويل من الزمن حتى بلغت الدعوة مشارق الأرض ومغاربها .
وصلت إلى الهند والصين فى أقصى الشرق ، وإلى شواطئ المحيط الأطلسى فى أقصى الغرب وإلى بلاد النوبة جنوباً وإلى جبال البرانس جنوبى فرنسا شمالاً . وتوطدت فى قلب الكون :
الحجاز واليمن والشام وفارس وبلاد ما بين النهرين وما وراء النهرين ومصر وجنوب الوادى ، وتركت اللغة العربية الواحدة آثارها فى كل قطر أشرقت فيه شمس الإسلام ، وحتى ما فارقه الإسلام - كأسبانيا - ما تزال حضارة الإسلام وآثار العربية تغزو كل بيت فيها .  وكما استوعب الإسلام مناهج الإصلاح فى كل مجالات الحياة الإنسـانية استوعـبت  "  اللغة العربية  "  كل أنماط التعبير ووسعت بسلطانها كل وسائل التسجيل والتدوين . . وامتلكت ناصية البيان الرائع الجميل ، فهى لغة علم ، ولغة فن ومشاعر ، ووجدان .  وقانون وسلام وحرب ، ودين ودنيا .
إن أكثر من ألف مليون مسلم ينتشرون فى ربوع الأرض الآن لم يعجز الكثير منهم من غير العرب عن حفظ كتاب الله  " القرآن العظيم  "  ويتلونه كما أنزل بلسان عربى فصيح  .  فإذا عاد إلى حديثه اليومى لجأ إلى لغة أمه وأبيه وبيئته .
ومسلم غير عربى استطاع أن يحفظ أو يقرأ القرآن بلغته العربية الفصحى لهو قادر -  لو أدى المسلمون العرب واجبهم نحو لغة التنزيل - أن يقرأ بها كتب الحديث ، والفقه ، والتشريع ، والنحو ، والصرف ، والبلاغة ، والأدب وسائر العلوم والفنون .
ولكنه ذنب العـرب المسـلمين لا ذنب اللغة  .  فهى مطواعة لمن يريد أن يتقنها إن وجد معلماً مخلصاً .  والأمل كبير - الآن - فى أن يلتقى كل المسلمين على لغة واحدة ، كما التقوا على عقيدة واحدة .
إن رسـول الإسـلام - صلى الله عليه وسلم - عالمى الدعوة وإن كان عربى اللسان والجنس .
وإن الإسلام الحنيف عالمى التوجيه والسلطان وإن كانت لغة تنزيله عربية ورسوله عربيًا، ورواده الأوائل عرباً .

 

 

الهوامش:
----------------------
(1) رددنا على هذه الادعاءات فى " الإسلام فى مواجهة الاستشراق فى العالم " مرجع سبق ذكره .
(2) سفر التثنية : الإصحاح (33) الفقرات (1-2) .
(3) سفر التكوين (21 - 21) .
(4) سفر التثنية : الإصحاح (18) الفقرات (18 - 19) .
(5) الجمعة : 2 .
(6) البقرة : 129 .
(7) المزمور (45) الفقرات (2 -17) مع الحذف اليسير .
(8) الأنبياء : 107 .
(9) مكان النقط هنا كلام لم نذكره هو " قدوس إسرائيل لأنه مجدك " ؟ ! وهذا مقطع مضاف بكل تأكيد والهدف منه صرف الكلام عن معناه الظاهر ! !
(10) سفر أشعياء الإصحاح (60) الفقرات (4 - 12 ) مع حذف يسير .
(11) القصص : 57 .
(12) (3 - 3 - 15 ) مع الحذف .
(13) الإصحاح (3) الفقرة (2) .
(14) الإصحاح (4) الفقرة (17) .
(15) الإصحاح (6) الفقرة (9- 10) .
(16) الإصحاح (11) الفقرة (2) .
(17) الإصحاح (9) الفقرة (2) .
(18) الإصحاح (1) الفقرة (14 - 15) .
(19) هذا إيضاح وليس من النص .
(20) الإصحاح (14) الفقرات (24 - 26) .
(21) الإصحاح (16) الفقرتان (7 - 8) .
(22) الإصحاح (16) الفقرة (13) .
(23) مريم : 34 .
(24) الإصحاح (15) الفقرة (26 - 27) .
(25) انظر كتاب " إظهار الحق " ص 528 للشيخ رحمت الله الهندى تحقيق الدكتور أحمد حجازى السقا . نشر دار التراث .