عدم الإتيان بجواب " لمَّا "

الناقل : heba | الكاتب الأصلى : د / عبد العظيم المطعني | المصدر : www.dar-alifta.org

الشبهة

منشأ هذه الشبهة :
هو قوله تعالى ( فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه فى غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ) (1).
وموطن الشاهد عندهم هو قوله جل شأنه : ( فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه فى غيابة الجب وأوحينا إليه . . ) .
بحثوا عن جواب " لما " فلم يجدوه ، فرموا القرآن بالخطأ ؛ لأنه لم يذكر جواب " لما " ثم قالوا :
" فأين جواب لما ؟ ولو حذفت الواو التى قبل لما لاستقام المعنى " .

 
الرد عليها
أ. د / عبد العظيم المطعني

     قلنا إن هذه الشبهة تتعلق بفن الحذف ، وهو مبحث بلاغى أكثر منه نحويًّا.
    إن كل محذوف عندهم غلط شنيع ، وكل حذف خلط فظيع ، والناس ـ كما قيل فى المثل ـ أعداء ما جهلوا.
    يقول الإمام عبد القاهر الجرجان  - شيخ البلاغيين - فى وصف الحذف البلاغى ، وروائع ثماره ، وبديع آثاره :
" هو بحث دقيق المسلك ، لطيف المأخذ ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر ، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق ، وأتم ما تكون بياناً إذا لم تُبن " (2).
    هذه هى منزلة الحذف فى البيان العربى ، السارى فى أعطاف الكلام سريان النسيم فى الرياض الفيحاء ، وقد شاع شيوعاً لا حصر له فى القرآن الكريم ، إذ لم تكد تخلو منه سورة من سوره ، ولا آية من آياته والمعانى التى يدل عليها الحذف فى القرآن تكاد تعادل ربع معانى القرآن كله. وهو منهج واسع وحكيم من مناهج اللغة العربية لا مثيل له .
    ولذلك نجد العلامة اللغوى العظيم ابن جنى ، يسميه فى كتابه "الخصائص" اسمًا طريفًا ، هو: شجاعة العربية ".
    وينتمى الحذف البلاغى إلى فن بلاغى حصر بعض العلماء البلاغة فيه ، وهو " فن الإيجاز " أى قلة الألفاظ مع كثرة المعانى .
وله مقامات يتألق فيها ، ومقتضيات يوفى بأغراضها .
    ومن مقاماته الحذف الوارد فى آية سورة " يوسف " التى رآها من عشا بصره ، وغلظ قفاه ، وضل عقله خطأ ينبغى أن يصوَّب ، ولحنًا يجب أن يقوَّم .
    إن حذف جواب " لما " هنا المراد منه تهويل وتفظيع ما حدث من إخوة يوسف ليوسف ، بعد أن أذن لهم أبوهم بالذهاب به إلى الصحراء ، وقد روى عنهم أنهم أخذوا يؤذونه بالقول والفعل وهم فى الطريق إلى المكان الذى قصدوه ، حتى كادوا يقتلونه ، والدليل على هذا قوله تعالى حكاية عن أحد إخوته :
    ( قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه فى غيابة الجب يخلُ لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين ) (3) .
    فالنهى عن القتل لا يكون إلا عند العزم عليه ومباشرة أسبابه .
    لذلك حذف جواب " لما " لتذهب النفس فى تصوره كل مذهب ، وحذف هذا الجواب فيه دلالة على طول ما حدث منهم ، وعلى غرابته وبشاعته ، لذلك قدره الإمام الزمخشرى فقال :
    " فعلوا به ما فعلوا من الأذى.. وأظهروا له العداوة وأخذوا يهينونه ويضربونه ، وإذا استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة والضرب . . " (4) . وسار على هذا النهج الإمام البيضاوى (5) .
وذهب غيرهما فى تقدير الجواب مذاهب أخرى ، والذى أتاح لهم هذا الاختلاف فى تقدير الجواب المحذوف هو الحذف نفسه (6) .
    أما اقتراح مثيرى الشبهة أن يحذف " الواو " فى " وأوحينا " ليستقيم المعنى فخطأ جسيم ؛ لأن " أوحينا " ليس هو جواب " لما " وإنما هو معطوف على الجواب المقدر لأن جواب " لمَّا " هو ما حدث ليوسف من إخوته بمجرد خروجهم به من عند أبيهم وبعدهم عنه قليلاً .
     ودليل ذلك هو العطف بالفاء فى " فلما " لأنها تفيد الفورية والترتيب .

 

 

الهوامش:
--------------------------
(1) يوسف: 15.
(2) دلائل الإعجاز (146) تحقيق الشيخ محمد محمد شاكر.
(3) يوسف: 9.
(4) الكشاف (3/306-307).
(5) أنوار التنزيل (1/387).
(6) الدر المصون (6/453).