منشأ هذه الشبهة: هو قوله تعالى : ( وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى أحدكم الموت فيقول ربِّ لولا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدَّق وأكن من الصالحين ) (1). وشاهد هذه الشبهة- عندهم - هو قوله تعالى : " وأكن " لأنه محذوف الواو ساكن النون ، وهو فعل معتل الوسط بالواو ( أجوف ) ولا يحذف الواو منه إلا إذا سكن آخره ، ولا يسكن آخره إلا إذا كان مجزوماً ، وتجزم المضارع إذا دخل عليه جازم أو عطف على مجزوم. ولما لم يدخل على الفعل- هنا - جازم ، ولم يتقدم عليه مجزوم يصح جزمه بالعطف عليه ، ساغ لخصوم القرآن أن يقولوا إن هذا الفعل " أكن " جزم مع أن المعطوف عليه منصوب ، وهو الفعل " فأصدق " وعلقوا على هذا فقالوا : " كان يجب أن ينصب الفعل المعطوف على المنصوب فيقال : " فأصدق وأكون "
لفتت هذه الآية أنظار النحاة والمفسرين ، وقد اختلفت توجيهاتهم لورود الفعل المجزوم مردوفاً على الفعل المنصوب ، مع اتفاقهم جميعاً على صحة هذا التركيب نحويّا لأن نظم القرآن مشهود له بالصحة من ألد خصومه الذين بلغوا الذروة فى الفصاحة والبلاغة ، وهم مشركو العرب ، حيث لم يُرو عنهم أنهم طعنوا فى القرآن فى صحة أساليبه ، وضروب تراكيبه ، والتسليم له بالسمو والرفعة فى هذا المجال. فعلى كثرة ما اتهموه بأنه سحر ، أو شعر ، أو أساطير الأولين تملى على النبى صلى الله عليه وسلم بكرة وأصيلا لم يذكروا - قط - أن به أخطاء لغوية ، أو نحوية أو صرفية أو بيانية ، بل على العكس من ذلك نراهم أثنوا عليه على لسان الوليد بن المغيرة ، لما سمع من النبى صلى الله عليه وسلم الآيات الأولى من سورة " فصلت " حين نفى عنه كل عيب أو نقص فى أساليبه ونظمه المحكم البديع ولو كان ما يؤخذه خصوم القرآن - الآن - من الشبهات التى نعرض لها - هنا - حقاً لبادروا بإعلانها ، ولاتخذوها حرباً ضروساً ضده. وسكوتهم المطبق عن ذكر عيوب من هذا القبيل تسليم منهم له بالسلامة من جميع الأخطاء ، وهذه هى عقيدة الأمة وكل العقلاء المنصفين ، وقد أشرنا من قبل إلى أن القرآن أوسع من قواعد اللغة وأسمى من أساليب البيان المعروفة عند البشر فإذا ورد فيه شىء على غير قاعدة نحوية أو صرفية معروفة لدى الناس ، فليس معناه أن القرآن قد أخطأ أو سها. لأن القرآن نفسه مصدر من مصادر إثبات اللغة فى نفسها وفى طرق استعمالاتها. فما جاء منه على ما نعرفه أو نألفه من القواعد فلا مشاحنة فيه. وما جاء على غير ذلك وجب الإيمان بصحته ، وعلينا أن نجتهد فى التماس العلة فيه ، فإن أدركناها فالحمد لله وإلا فوضنا الأمر فيها لله ،كما هو فى بعض المتشابهات القرآنية من الألفاظ والمعانى ، كما قال عز وجل : (هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ) (2). وبعد هذه الوقفة الكاشفة الشافية نعود إلى ما قاله النحاة والمفسرون فى توجيه مجىء الفعل المجزوم مردوفاً على الفعل المنصوب فى الآية الكريمة ، التى اتخذ منها الذين فى قلوبهم زيغ وسيلة للطعن فى القرآن ، ابتغاء الفتنة: وجّه الإمام الزمخشرى مجىء الفعل " وأكن " مجزوماً مردوفاً على الفعل المنصوب " فأصدق " بأن قوله تعالى " لولا أخرتنى.. " فى محل جزم لتضمنه معنى الشرط ، فكأنه قيل: إن أخرتنى أصدقْ وأكن من الصالحين (3). وكذلك قال ابن عطية (4) ، وأبو على الفارسى (5).
الخلاصة : لم تكن هذه القراءة هى الوحيدة فى جزم الفعل " أكن " فقد قرأه أبو عمرو " وأكون " بالنصب عطفاً على " فأصدق ". ونرى أن التوجيه بأن هذا الفعل مجزوم على تضمن عبارة التمنى " لولا أخرتنى إلى أجل قريب " أو على الشرط المقدر بــ " إن أخرتنى " هو توجيه سديد ، وقد سبق إلى القول به علمان من أئمة النحو ، هما الخليل وسيبويه (6) . والذى سوَّغ إيثار عبارة التمنى " لولا أخرتنى " على الشرط الصريح " إن أخرتنى " أن قائل هذه العبارة يقولها فى ساعة يملكه فيها اليأس من التأخير وهى ساعة حضور الموت ، والتمنى كما نعلم يستعمل فى طلب المحال أو المتعذر ، أما الشرط فيستعمل فى الأمور التى لا استحالة فيها ولا تعذر. فهو إذن من تبادل الصيغ وإحلال بعضها محل بعض لداع بلاغى. وقرينة إرادة الشرط من عبارة التمنى هو جزم الفعل " أكن " وسره البلاغى أن من حضرته الوفاة وهو مقصر فى طاعة الله تدفعه شدة الحاجة التى نزلت به إلى طمعٍ من نوع ما ، مما هو مستحيل أو متعذر الوقوع . ومما تقدم يظهر لنا استقامة العبارة القرآنية وبُعْدها عن كل خلل ، ووفاؤها بالمعنى المراد نحواً وبياناً.
الهوامش: ----------------------------- (1) المنافقون : 10. (2) آل عمران : 7. (3) الكشاف (4/112). (4) المحرر الوجيز (16/23). (5) الحجة فى القراءات (4/386). (6) حاشية الشهاب على البيضاوى (8/200).