منشأ هذه الشبهة : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (1) . هذه الآية هى منشأ هذه الشبهة عندهم ، لأنهم نظروا فيما بعد " الواو " فى " الصابئون " وقارنوا بينه وبين " الذين آمنوا " الواقع بعد " إن " وهى حرف ناسخ ينصب " المبتدأ " ويرفع " الخبر " واسم " إن " - هنا - هو " الذين " وهو مبنى لأنه اسم موصول . وقد عطف عليه " الذين هادوا " أما " الصابئون " فجاءت مرفوعة بـ " الواو " لأنها جمع مذكر سالم وجاء بعدها " النصارى " . وكل من " الذين " فى الموضعين السابقين على " الصابئون " وكذلك " النصارى " إعرابها تقديرى لا يظهر لا فى الخط ولا فى النطق ، وذلك لأن الاسم الموصول " الذين " من المبنيات على حالة واحدة ، أما " النصارى " فهو اسم مقصور ، يتعذر ظهور حركة الإعراب عليه ، وهى - هنا - الفتحة ، و " الراء " مفتوحة أصالة ، ومحال أن تظهر فتحتان على موضع واحد . سواء كانت الحركتان مختلفتين ، كفتحٍ وضمٍ ، أو متجانستين ، كفتحتين وضمتين . وخصوم القرآن نظروا فى نظم هذه الآية الحكيمة وقالوا إن فيها خطأ لغويّا ( نحويّا ) ؛ لأن " الصابئون " معطوفة على منصوب " إن الذين آمنوا " فكان حقها أن تنصب ، فيقال " والصابئين " لكنها جاءت مرفوعة بـ " الواو " هكذا " والصابئون " وهدفهم من تصيد هذه الشبهات إثبات :
للنحاة والمفسرين فى توجيه رفع " الصابئون " فى هذه الآية عدة آراء ، منها ما هو قوى مشهود له فى الاستعمال اللغوى عند العرب الخلص ، ومنها ما هو دون ذلك ، وقد بلغت فى جملتها تسعة توجهات نذكر منها ما يلى : الأول : ما قاله جمهور نحاة البصرة ، الخليل وسيبويه وأتباعهما ، قالوا : إن " الصابئون " مرفوع على أنه " مبتدأ " وخبره محذوف يدل عليه خبر ما قبله " إن الذين آمنوا " قالوا : والنية فيه التأخير ، أى تأخير " والصابئون " إلى ما بعد " والنصارى " . وتقدير النظم والمعنى عندهم : " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون كذلك " (2). ومن شواهد هذا الحذف عند العرب قول الشاعر : نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأى مختلف فقد حذف الخبر من المبتدأ الأول ، وتقديره " راضون " لدلالة الثانى عليه " راض " . والمعنى : نحن بما عندنا راضون ، وأنت بما عندك راض . وقول الآخر : ومن بك أمسى بالمدينة رحله فإنى وقيَّار بها لغريب والتقدير : فإنى لغريب وقيار كذلك . وقول الشاعر : وإلا فاعلموا أنَّا وأنتم بغاة ما بقينا فى شقاق الشاعر يصف الفريقين أنهم " بغاة " إن استمروا فى الشقاق ، والتقدير : اعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك . وهكذا ورد فى الاستعمال اللغوى عند العرب ، أن الجملة الاسمية المؤكدة بـ " إن " يجوز أن يذكر فيها مبتدأ آخر غير اسم " إن " وأن يذكر خبر واحد يكون لاسم " إن " ويحذف خبر المبتدأ الثانى لدلالة خبر اسم " إن " عليه ، أو يحذف خبر اسم " إن " ويكون الخبر المذكور للمبتدأ الثانى دليلاً على خبر اسم " إن " المحذوف ونظم الآية التى كانت منشأ الشبهة عندهم لا يخرج عن هذه الأساليب الفصيحة ، التى عرفناها فى الأبيات الشعرية الثلاثة ، وهى لشعراء فصحاء يستشهد بكلامهم . الثانى : أن " إن " فى قوله تعالى : " إن الذين آمنوا " ليست هى " إنَّ " الناسخة ، التى تنصب المبتدأ وترفع الخبر ، بل هى بمعنى : نعم ، يعنى حرف جواب ، فلا تعمل فى الجملة الاسمية لا نصباً ، ولا رفعاً ، وعلى هذا فالذى بعدها مرفوع المحل ، لأن " الذين " اسم موصول ، وهو مبنى فى محل رفع ، وكذلك " الصابئون " فإنه مرفوع لفظاً ، وعلامة رفعه " الواو " لأنه جمع مذكر سالم ، مفرده " صابئ " . وقد استعملها العرب كذلك . قال قيس بن الرقيات : برز الغوانى من الشباب يلمننى ، وآلو مهنَّهْة ويقلن شيبٌ قد علاك وقد كبرتَ ، فقلت إنَّهْ (3) أى فقلت : نعم . وعلى هذا فإن كلا من " الذين " و " الصابئون " والنصارى ، أسماء مرفوعة إما محلاً ، وهما : الذين " فهى مبنية فى محل رفع ، والنصارى مرفوعة بضمة مقدرة لأنها اسم مقصور لا تظهر على آخره حركات ، وإما لفظاً مثل : " الصابئون " فهى مرفوعة لفظاً بواو الجماعة . وعليه - كما كان فى المذهب الأول - فلا خطأ فى الآية كما زعم خصوم القرآن . أما المفسرون فقد اختار الزمخشرى منهم المذهب الأول المعزو إلى جمهور علماء البصرة ، ومن شيوخهم الخليل وسيبويه ، فقال : " والصابئون " رفع على الابتداء ، وخبره محذوف والنية به (4) التأخير عما فى حيز إن من اسمها وخبرها كأنه قيل : " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا ، والصابئون كذلك " (5) . وقال الإمام الشوكانى : " والصابئون " مرتفع على الابتداء ، وخبره محذوف والتقدير : إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك " (6) . وقد ألمح الإمام الشوكانى إلى إضافة جديدة خالف بها كلا من الخليل وسيبويه والزمخشرى ؛ لأن هؤلاء جعلوا " الصابئون" مقدما من تأخير كما تقدم ، أما هو فجعله قاراًّ فى موضعه غير مقدم من تأخير بدليل قوله : " والصابئون والنصارى كذلك " وهذه إضافة حسنة ومقبولة . وعليه يمكن جَعْل " النصارى " مرفوعة عطفاً على " الصابئون " ولا حاجة إلى جعلها منصوبة عطفاً على " إن الذين آمنوا " ، والواقع أن هذا المذهب - على جملته - الذى ذهب إليه جمهور علماء البصرة ، وتابعهم فيه الإمام الشوكانى هو أقوى ما أورده النحاة فى توجيه رفع " الصابئون " فى هذه الآية الكريمة . أما بقية الآراء ، فهى دون ذلك بكثير (7). هذا هو توجيه رفع " الصابئون " عند جمهور النحاة والمفسرين ، أما توجيهه بلاغة فهو ما يأتى : إن مخالفة إعراب " الصابئون " عما قبلها سواء كانت مقدمة من تأخير على رأى الجمهور أو غير مقدمة على رأى الإمام الشوكانى وآخرين (8) وعما بعدها إن قدرنا " والنصارى " معطوفاً على " إن الذين آمنوا والذين هادوا ، بأن هذه المخالفة لمحة بلاغية رائعة ؛ تشير إلى وجود فرق كبير بين هذه الطوائف الأربع : الذين آمنوا . الذين هادوا . النصارى . الصابئون . فالطوائف الثلاث الأولى يربط بينها رابط قوى هو أن كل طائفة منها لها كتاب ورسول من عند الله عز وجل . فالذين آمنوا لهم كتاب هو القرآن ، ورسول هو محمد - صلى الله عليه وسلم - . والذين هادوا لهم كتاب هو التوراة ، ولهم رسول هو موسى - عليه السلام - . والنصارى لهم كتاب هو الإنجيل ، ولهم رسول هو عيسى - عليه السلام - . أما الصابئون ، فليس لهم كتاب ولا رسول ، وهم على ضلال مطبق لا ذرة من هداية فيه . والمقام الذى تتحدث عنه الآية هو فتح باب القبول عند الله لكل من آمن إيماناً صحيحاً صادقاً وداوم على عمل الصالحات . فالإيمان يمحو ما قبله ولا ينظر الله إلى ماضيهم الذى كانوا عليه من كفر ومعاصٍ ، والآية بدأت بالذين آمنوا ليستمروا على إيمانهم الذى هم فيه ، ويلتزموا بعمل الصالحات والله سيجزيهم خير الجزاء على إيمانهم المستمر ، وصلاحهم الدائم (9) . ثم ثنت بالذين هادوا ، يعنى : اليهود ، وهم كانوا فى عصر نزول القرآن قد غالوا فى دينهم ، وحادوا عن الحق ، وغيَّروا وبدَّلوا فيما أنزله الله على أنبيائهم فوعدهم الله إذا آمنوا إيماناً صحيحاً صادقاً ، وتابوا إلى الله من كل ما ابتدعوه فى عقائدهم واتبعوا ما أنزل الله على خاتم رسله ؛ بأنهم سيكونون فى أمنٍ من عذاب الله ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . وكذلك النصارى حيث جعلوا لله صاحبة وولدا وغالوا كثيراً فى دينهم ، إذا آمنوا إيماناً صحيحاً صادقاً ، وبرئوا من عقائدهم التى ابتدعوها ، وأصلحوا شأنهم ، وآمنوا بما أنزله الله على خاتم رسله ، ولزموا العمل الصالح ، كان سعيهم عند الله مشكوراً ، ووقاهم الله عز وجل من الخوف والحزن يوم يقوم الناس لرب العالمين . ثم زاد الله فى ترغيب هذه الفرق الثلاث فيما عنده بأن يجعل هذا الفضل للصابئين الذين خرجوا عن جميع الرسالات السماوية ، وإذا كان الله يقبل منهم إيمانهم إذا آمنوا ، ويثيبهم على عمل الصالحات . فإن الذين آمنوا واليهود والنصارى أولى بالقبول عند الله ، إذا آمنوا وعملوا الصالحات . ومن أجل هذا خولف إعراب و " الصابئون " ليلفت الأذهان عند قراءة هذه الآية أو سماعها إلى الوقوف أمام هذه المخالفة ، وليتساءل القارئ أو السامع ما سبب هذه المخالفة ، ثم يقوده هذا التساؤل إلى الحصول على هذا المعنى الذى تقدم . فهذه المخالفة أشبه ما تكون بالنبر الصوتى فى بعض الكلمات ، التى يراد لفت الأنظار إليها عند السامعين ؛ قالوا : والواو فى " والصابئون " ليست لعطف المفردات على نظائرها ، وإنما هى لعطف " الجمل " و" الواو " التى تعطف جملة على أخرى لا تعمل فى مفردات الجملة المعطوفة ، لا رفعاً ولا نصباً ولا جراً . بل تربط بين الجملتين المعطوفة والمعطوف عليها فى المعنى دون الحركات الإعرابية . ولهذه الآية نظائر فى مخالفة إعرابها لما قبلها اتخذ منها خصوم القرآن منشأ لشبهات مماثلة وسيأتى الحديث عنها كلا فى موضعه إن شاء الله تعالى .
والخلاصة : إن هذه الآية : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر ) تخلو من أى خطأ نحوى أو غير نحوى . بل هى فى غاية الصحة والإعجاز ، وقد بينا وجوه صحتها ، والمعانى البيانية التى ألمح إليها رفع " الصابئون " وهؤلاء الذين يلحدون فى آيات الله لا دراية لهم بالنحو ولا بالصرف ولا بالبلاغة ، وليسوا هم طلاب حق ، ولا باحثين عنه ، والذى سيطر على كل تفكيرهم هو البحث " عن العورات " فى كتاب لا عورات فيه بل هو أنقى وأبلغ وأفصح وأصح ، وأصدق بيان فى الكون كله ، ولا يأتوننا بمثل إلا جئناهم بالحق وما هم بسابقين .
الهوامش: ----------------------- (1) المائدة : 69 . (2) انظر : الدر المصون للسمين الحلبى ( 4 / 354 ) . (3) البيتان فى ديوانه (66) والكتاب لسيبويه (1 / 475 ) . (4) الضمير فى " به " عائد على " الصابئون " يعنى أن حقه أن يذكر بعد النصارى ، ولكنه قُدِّم من تأخير . (5) الكشاف (1 / 630 ) . (6) فتح القدير ( 2 / 71) . (7) انظر : تفاصيل هذه الآراء وشواهدها ومناقشتها فى " الدر المصون " للسمين الحلبى ( 4 / 352 ) وما بعدها . (8) انظر : المصدر السابق ( 4 / 360 ) . (9) بعض العلماء يفسر " الذين آمنوا " فى الآية بأنهم المنافقون لأنهم غير مؤمنين فى الباطن . والأصوب ما أثبتناه ، وهو أن المراد هم الذين آمنوا فعلاً ، ويكون المطلوب منهم أمرين ثباتهم على هذا الإيمان . ثم إدامة عمل الصالحات . كما فى قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ) النساء : 136 . أى : دوموا على إيمانكم .