يدعى المشكِّكُون أنه جاء فى فواتح 29 سورة بالقرآن الكريم حروف عاطلة ، لا يُفهم معناها نذكرها فيما يلى مع ذكر المواضع التى وردت فيها :
الحروف
السورة
الر
الم
المر
المص
حم
حم عسق
ص
طس
طسم
طه
ق
كهيعص
ن
يس
أطلقوا على هذه الحروف وصف " الكلام العاطل " والكلام العاطل هو " اللغو " الذى لا معنى له قط . . . أما هذه الحروف ، التى أُفتتحت بها بعض سور القرآن ، فقد فهمت منها الأمة ، التى أُنزل عليها القرآن بلغتها العريقة ، أكثر من عشرين معنى(1) ، وما تزال الدراسات القرآنية الحديثة تضيف جديداً إلى تلك المعانى التى رصدها الأقدمون فلو كانت " عاطلة " كما يدعى خصوم الإسلام ، ما فهم منها أحد معنى واحدا ً. . ولو جارينا جدلاً هؤلاء المتحاملين على كتاب الله العزيز من أن هذه " الحروف " عاطلة من المعانى ، لوجدنا شططاً فى اتهامهم القرآن كله بأنه " كلام عاطل " لأنها لا تتجاوز ثمانى وعشرين آية ، باستبعاد " طه" و" يس " لأنهما اسمان للنبى - صلى الله عليه وسلم - ، حذف منهما أداة النداء والتقدير : يا " طه " يا " يس " بدليل ذكر الضمير العائد عليه هكذا : ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) (2) و ( إنك لمن المرسلين ) (3) . وباستبعاد هاتين السورتين من السور التسع والعشرين تُصبح هذه السور سبعاً وعشرين سورة ، منها سورة الشورى ، التى ذكرت فيها هذه الحروف المقطعة مرتين هكذا : "حم ، عسق " فيكون عدد الآيات موضوع هذه الملاحظة ثمانى وعشرين آية فى القرآن كله ، وعدد آيات القرآن الكريم 6236 آية . فكيف ينطبق وصف ثمانٍ وعشرين آية على 6208 آية ؟ . والمعانى التى فُهمتْ من هذه " الحروف " نختار منها ما يأتى فى الرد على هؤلاء الخصوم . الرأى الأول: يرى بعض العلماء القدامى أن هذه الفواتح ، مثل : الم ، و الر ، والمص " . تشير إلى إعجاز القرآن ، بأنه مؤلف من الحروف التى عرفها العرب ، وصاغوا منها مفرداتهم ، وصاغوا من مفرداتهم تراكيبهم . وأن القرآن لم يغير من أصول اللغة ومادتها شيئاً ، ومع ذلك كان القرآن معجزاً ؛ لا لأنه نزل بلغة تغاير لغتهم ، ولكن لأنه نزل بعلم الله عز وجل ، كما يتفوق صانع على صانع آخر فى حذقه ومهارته فى صنعته مع أن المادة التى استخدمها الصانعان فى " النموذج المصنوع " واحدة وفى هذا قطع للحُجة عنهم . . ويؤيد هذا قوله سبحانه وتعالى : ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ) (4). يعنى أن اللغة واحدة ، وإنما كان القرآن معجزاً لأمر واحد هو أنه كلام الله ، نازل وفق علم الله وصنعه ، الذى لا يرقى إليه مخلوق . الرأى الثانى : إن هذه الحروف " المُقطعة " التى بدئت بها بعض سور القرآن إنما هى أدوات صوتية مثيرة لانتباه السامعين ، يقصد بها تفريغ القلوب من الشواغل الصارفة لها عن السماع من أول وهلة . فمثلاً " الم " فى مطلع سورة البقرة ، وهى تنطق هكذا . " ألف - لام - ميم " تستغرق مسافة من الزمن بقدر ما يتسع لتسعة أصوات ، يتخللها المد - مد الصوت - عندما تقرع السمع تهيؤه ، وتجذبه لعقبى الكلام قبل أن يسمع السامع قوله - تعالى - بعد هذه الأصوات التسعة : ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) (5). وإثارة الانتباه بمثل هذه المداخل سمة من سمات البيان العالى ، ولذلك يطلق بعض الدارسين على هذه " الحروف " فى فواتح السور عبارة " قرع عصى " (6) وهى وسيلة كانت تستعمل فى إيقاظ النائم ، وتنبيه الغافل . وهى كناية لطيفة ، وتطبيقها على هذه " الحروف " غير مستنكر . لأن الله - عز وجل - دعا الناس لسماع كلامه ، وتدبر معانيه ، وفى ذلك يقول سبحانه وتعالى : ( وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) (7). الرأى الثالث : ويرى الإمام الزمخشرى أن فى هذه " الحروف " سرًّا دقيقاً من أسرار الإعجاز القرآنى المفحم ، وخلاصة رأيه نعرضها فى الآتى : " واعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه فى الفواتح من هذه الأسماء - يقصد الحروف - وجدتها نصف حروف المعجم ، أربعة عشر سواء ، وهى : الألف واللام والميم والصاد ، والراء والكاف والهاء ، والياء والعين والطاء والسين والحاء ، والقاف والنون ، فى تسع وعشرين سورة ، على حذو حروف المعجم ". ثم إذا نظرت فى هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف ، بيان ذلك أن فيها : من المهموسة نصفها : " الصاد ، والكاف ، والهاء والسين والخاء ". ومن المجهورة نصفها : الألف واللام والميم ، والراء والعين والطاء ، والقاف والياء والنون . ومن الشديدة نصفها : " الألف والكاف ، والطاء والقاف " . ومن الرخوة نصفها : " اللام والميم ، والراء والصاد ، والهاء والعين ، والسين والحاء والياء والنون " . ومن المطبقة نصفها : " الصاد والطاء " . ومن المنفتحة نصفها : " الألف واللام ، والميم والراء ، والكاف ، والهاء والعين والسين والحاء ، والقاف والياء والنون ". ومن المستعلية نصفها : " القاف والصاد ، والطاء " . ومن المنخفضة نصفها : " الألف واللام والميم ، والراء والكاف والهاء ، والياء ، والعين والسين ، والحاء والنون " . ومن حروف القلقلة نصفها : " القاف والطاء " (8). يريد أن يقول : إن هذه الحروف المذكورة يلحظ فيها ملحظان إعجازيان : الأول : من حيث عدد الأبجدية العربية ، وهى ثمانية وعشرون حرفاً . فإن هذه الحروف المذكورة فى فواتح السور تعادل نصف حروف الأبجدية ، يعنى أن المذكور منها أربعة عشر حرفاً والذى لم يذكر مثلها أربعة عشر حرفا : 14+14 = 28 حرفاً هى مجموع الأبجدية العربية . . الثانى : من حيث صفات الحروف وهى : الهمس فى مقابلة الجهارة . . الشدة فى مقابلة الرخاوة . . الانطباق فى مقابلة الانفتاح . . والاستعلاء فى مقابلة الانخفاض . . والقلقلة فى مقابلة غيرها . . نجد هذه الحروف المذكورة فى الفواتح القرآنية لبعض سور القرآن تعادل نصف أحرف كل صفة من الصفات السبع المذكورة . . وهذا الانتصاف مع ما يلاحظ فيه من التناسب الدقيق بين المذكور والمتروك ، لا يوجد إلا فى كلام الله المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -. وهو ذو مغزى إعجازى مذهل لذوى الألباب ، لذلك نرى الإمام جار الله الزمخشرى يقول مُعقباً على هذا الصنع الحكيم : " فسبحان الذى دقت فى كل شىء حكمته . . وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته . فكأن الله عز اسمه عدد على العرب الألفاظ التى منها تراكيب كلامهم ، إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم ، وإلزام الحُجة إياهم (9) . ثم أخذ الإمام الزمخشرى ، يذكر فى إسهاب الدقائق والأسرار واللطائف ، التى تستشف من هذه " الحروف " التى بدئت بها بعض سور القرآن ، وتابعه فى ذلك السيد الشريف فى حاشيته التى وضعها على الكشاف ، والمطبوعة بأسفل تفسير الزمخشرى . وذكر ما قاله الرجلان - هنا - يخرج بنا عن سبيل القصد الذى نتوخاه فى هذه الرسالة . ونوصى القراء الكرام بالاطلاع عليه فى المواضع المشار إليها فى الهوامش المذكورة . وبقى أمرٌ مهمٌّ فى الرد على هذه الشبهة التى أثارها خصوم الإسلام ، وهى شبهة وصف القرآن بالكلام العاطل . نذكره فى إيجاز فى الآتى : لو كانت هذه " الحروف " من الكلام العاطل لما تركها العرب المعارضون للدعوة فى عصر نزول القرآن ، وهم المشهود لهم بالفصاحة والبلاغة ، والمهارة فى البيان إنشاءً ونقداً ؛ فعلى قدر ما طعنوا فى القرآن لم يثبت عنهم أنهم عابوا هذه " الفواتح " وهم أهل الذكر " الاختصاص " فى هذا المجال . . وأين يكون " الخواجات " الذين يتصدون الآن لنقد القرآن من أولئك الذين كانوا أعلم الناس بمزايا الكلام وعيوبه ؟! وقد ذكر القرآن نفسه مطاعنهم فى القرآن ، ولم يذكر بينها أنهم أخذوا على القرآن أىَّ مأخذ ، لا فى مفرداته ولا فى جمله ، ولا فى تراكيبه . بل على العكس سلَّموا له بالتفوق فى هذا الجانب ، وبعض العرب غير المسلمين امتدحوا هذا النظم القرآنى ورفعوه فوق كلام الإنس والجن . . ولشدة تأثيره على النفوس اكتفوا بالتواصى بينهم على عدم سماعه ، والشوشرة عليه . . والطاعنون الجدد فى القرآن لا قدرة لهم على فهم تراكيب اللغة العربية ، ولا على صوغ تراكيبها صوغاً سليماً ، والشرط فيمن يتصدى لنقد شىء أن تكون خبرته وتجربته أقوى من الشىء الذى ينقده . . وهذا الشرط منعدم أصلاً عندهم .
الهوامش: ------------------------ (1) انظر للوقوف على هذه المعانى : التفسير الكبير " للفخر الرازى . . تفسير سورة البقرة. (2) طه : 2. (3) يس: 3. (4) هود : 13-14. (5) البقرة : 2. (6) يعنى الضرب بالعصى على الأرض لتنبيه المراد تنبيهه. (7) الأعراف : 204. (8) الكشاف (ج1 ص 100 - 103 ) (9) الكشاف (ج1 ص 103 )