شرع الله الزواج مودة ورحمة بين الرجل والمرأة ، وهذا مما امتن الله تعالى به على الإنسانية بأسرها ، لا فرق في هذا بين المسلمين وغيرهم . وقد وضع الإسلام أسس الزواج وضوابطه التي بها يتم بين المسلمين ، وأقر غير المسلمين على أنكحتهم ، لكن إذا أسلم أحد الزوجين أو أسلما معًا فهنا تنشأ لدينا صور متعددة تختلف باختلافها الأحكام: فإذا أسلم الزوجان معًا ، ولم تكن الزوجة ممن يحرم عليه ابتداء الزواج بها – كالمحرمة بنسب أو رضاع – فهما على نكاحهما الأول سواء كان هذا قبل الدخول أو بعده ؛ لأن الشرع قد أقر الكفار على أنكحتهم كما قلنا ، فهم يقرون عليها إذا أسلموا أو تحاكموا إلينا , من غير أن يُنظر إلى صفة عقدهم وكيفيته , ولا يعتبر له شروط أنكحة المسلمين , من الولي , والشهود , وصيغة الإيجاب والقبول , وأشباه ذلك . بلا خلاف بين المسلمين ، وقد أسلم خلق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم نساؤهم , وأقروا على أنكحتهم , ولم يسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شروط النكاح , ولا كيفيته , وهذا أمر علم بالتواتر والضرورة , فكان يقينًا(1) . قال ابن عبد البر : " أجمع العلماء أن الزوجين إذا أسلما معًا في حال واحدة أن لهما المقام على نكاحهما إلا أن يكون بينهما نسب أو رضاع يوجب التحريم ، وأن كل من كان له العقد عليها في الشرك كان له المقام معها إذا أسلما معًا ، وأصل العقد معفي عنه لأن عامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا كفارًا فأسلموا بعد التزويج ، وأقروا على النكاح الأول ولم يعتبر في أصل نكاحهم شروط الإسلام وهذا إجماع وتوقيف "(2) . وكذلك إذا أسلم الزوج وحده ، وكانت الزوجة من أهل الكتاب ، ولم تكن ممن يحرم عليه ابتداء ، فهما على نكاحهما الأول سواء كان قبل الدخول أو بعده ؛ لأن نكاح الكتابيات مباح لنا ، دل على ذلك قوله تعالى : {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}(3) ، فالكتابية محل لنكاح المسلم ابتداء فكذا بقاء ، لكن المسألة الشائكة هي : إذا أسلمت الزوجة وبقي زوجها على دينه . وقد اتفق الفقهاء على أن المرأة المسلمة لا يجوز لها أن تتزوج غير مسلم ابتداء ، وإذا وقع مثل هذا الزواج وقع باطلاً ، ولكن ما الحكم الشرعي إذا كان الزوجان في الأصل غير مسلمين ، ثم أسلمت الزوجة وبقي زوجها على دينه ؟ والذي اخترناه للفتوى هو : أن الزوجة إذا أسلمت ، وكان إسلامها قبل الدخول ، فتتعجل الفرقة ؛ لأن هذا هو الأصل ، ولا تظهر هنا مصلحة راجحة تصرفنا عنه ، وإن كان إسلامها بعد الدخول، وأسلم زوجها قبل انقضاء عدتها ، فهما على نكاحهما ، وإن انقضت العدة ، ولم يسلم الزوج خلالها ، فلها مطلق الحرية في الاختيار ، فإن اختارت أن تتزوج من تشاء فلها ذلك ، لكن لابد أن ترفع الأمر إلى القاضي لكي يفسخ عقد النكاح ، وإن اختارت أن تتربص وتنتظر إسلامه ولو طالت المدة فلها ذلك ، ويعتبر في هذه الحالة النكاح موقوفًا ، فإن أسلم فهما على نكاحهما الأول ، دون الحاجة إلى تجديد عقد النكاح ، مع اعتبار وقوع الانفصال الحسي وتوقف المعاشرة الزوجية بينهما من أول إسلامها. وهذا الرأي قال به ابن تيمية ، وابن القيم . واستُدل على ذلك بعدة أدلة : أولها : ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رد زينب ابنته على أبي العاص بالنكاح الأول . فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (رد رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ابنته على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ولم يحدث شيئًا)(4). وفي لفظ (لم يحدث صداقاً)(5). وفي لفظ آخر (لم يحدث شهادة ولا صداقاً)(6). وفي لفظ (لم يحدث نكاحاً)(7). وفي رواية (بعد ست سنين)(8). وفي رواية (بعد سنتين)(9). قال الخطابي عن هذا الحديث : هو أصح من حديث عمرو بن شعيب ، وكذا قال البخاري. قال ابن كثير في الإرشاد : هو حديث جيد قوي(10) . وقال الترمذي في كتابه العلل : سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذين الحديثين – أي حديث ابن عباس وحديث عمرو بن شعيب – فقال : حديث ابن عباس أصح في هذا الباب من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده(11) ، وقال الدارقطني في حديث عمرو بن شعيب هذا : لا يثبت ، والصواب حديث ابن عباس(12) ، وهذا الحديث صححه أيضًا ابن حزم(13) . فدل فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا ، على أن رد المرأة علـى زوجهـا بعد إسلامـه لا يحتاج إلى تجديد وإن طال الزمان وانقضت العدة . وأما ما روي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه ردها بنكاح جديد ، فقد جاء بلفظين : الأول : أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ردّ ابنته على أبي العاص بمهر جديد ونكاح جديد (14). الثاني : أسلمت زينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم قبل زوجها أبي العاص بسنة ، ثم أسلم فردها النبي صلى الله عليه وسلم بنكاح جديد(15) . ومدار هذا الحديث بلفظيه على الحجاج بن أرطأة ، فهو راويه عن عمرو بن شعيب ، وقد كان مدلسًا قبيح التدليس ، يدلس عن المجروحين . فعن يحيى بن سعيد القطان أن حجاجًا لم يسمعه من عمرو وإنه من حديث محمد بن عبد الله العرزمي عن عمرو ، قال البيهقي : فهذا وجه لا يعبأ به أحد يدري ما الحديث (16) . وقال أحمد عنه : هذا حديث ضعيف أو قال واه ، ولم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب إنما سمعه من محمد بن عبيد الله العرزمي ، والعرزمي لا يساوي حديثه شيئًا ، والحديث الصحيح الذي روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح الأول(17) . وهذا الحديث ضعّفه الترمذي أيضًا ، وقال : في إسناده مقال(18) . وقال الدارقطني عن هذا الحديث : هذا لا يثبت ، وحجاج لا يحتج به ، والصواب حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها بالنكاح الأول(19) . وكانت زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أسلمت منذ أول البعثة، وقد حكى ابن حزم الإجماع على ذلك ، ولم تهاجر إلى المدينة مع أبيها صلى الله عليه وسلم، بل بقيت بمكّة مع زوجها أبي العاص ، وهاجرت بعد غزوة بدر بقليل في السنة الثانية بعد الهجرة، ولم ينزل تحريم المسلمات على الكفّار إلاّ بعد الحديبية سنة ستّ من الهجرة، عندما وفدت بعض النساء المسلمات مهاجرات وطلبت قريش إرجاعهنّ إليها عملًا بصلح الحديبية ، فنزلت الآية: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}(20) . وأسلم أبو العاص بعد الحديبية بسنتين أي في السنة الثامنة للهجرة ، كما أخرج ابن عساكر عن الزهري قال : " ولم يزل أبو جندل وأبو بصير وأصحابهما الذين اجتمعوا إليهما هنالك(21) حتى مر بهم أبو العاص بن الربيع وكانت تحته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشام في نفر من قريش فأخذوهم وما معهم وأسروهم ولم يقتلوا منهم أحدا لصهر أبى العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو العاص يومئذ مشرك وهو ابن أخت خديجة بنت خويلد لأمها وأبيها وخلوا سبيل أبي العاص فقدم المدينة على امرأته وهي بالمدينة عند أبيها كان أذن لها أبو العاص حين خرج إلى الشام أن تقدم المدينة فتكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمها أبو العاص في أصحابه الذين أسر أبو جندل وأبو بصير وما أخذوا لهم فكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فخطب الناس وقال إنا صاهرنا ناسا وصاهرنا أبا العاص فنعم الصهر وجدناه وأنه أقبل من الشام في أصحاب له من قريش فأخذهم أبو جندل وأبو بصير فأسروهم وأخذوا ما كان معهم ولم يقتلوا منهم أحدًا وإن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتني أن أجيرهم فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه فقال الناس نعم فلما بلغ أبا جندل وأصحابه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي العاص وأصحابه الذين كانوا عنده من الأسرى رد إليهم كل شيء أخذ منهم حتى العقال"(22) . ومما هو معلوم أن هذه السرية كانت في السنة الثامنة للهجرة . وقد اختار ابن كثير أن إسلام أبي العاص قد تأخر عن وقت تحريم المؤمنات على الكفار بسنتين ، وقال : " كان إسلامه في سنة ثمان لا كما في كلام الواقدي من أنه سنة ست "(23) . وقال ابن حجر في الفتح : " وأغرب ابن حزم فقال ما ملخصه : إن قوله ردها إليه بعد كذا مراده جمع بينهما ، وإلا فإسلام أبي العاص كان قبل الحديبية ، وذلك قبل أن ينزل تحريم المسلمة على المشرك ، هكذا زعم ، وهو مخالف لما أطبق عليه أهل المغازي أن إسلامه كان في الهدنة بعد نزول آية التحريم "(24) . وثاني الأدلة : ما روي عن ابن عباس قال : (أسلمت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجت فجاء زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني قد كنت أسلمت وعلمت بإسلامي فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها الآخر وردها إلى زوجها الأول) . وفي لفظ : أن رجلًا جاء مسلمًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاءت امرأته مسلمة فقال يا رسول الله ! إنها كانت أسلمت معي فردها علي فردها عليه(25) . والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل هل علمت زوجته بإسلامه قبل انقضاء عدتها أم لا، مما يدل على أن العدة لا اعتبار لها، وذلك بناء على القاعدة الأصولية التي تقول: إن ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال ويحسن به الاستدلال(26). والاحتمال هنا قائم، هل علمت بإسلامه قبل انقضاء العدة أم بعدها، ومع ذلك لم يستفصل منه النبي صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على عموم هذا الحكم للحالين وأنه لافرق بين أن يقع الرد قبل انقضاء العدة أو بعدها. وثالث الأدلة : ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : (كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين : كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه ، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه ، وكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر ، فإذا طهرت حل لها النكاح ، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه ، وإن هاجر عبد منهم أو أمة فهما حران ولهما ما للمهاجرين)(27) . ومعنى ذلك : أنّ نكاحها الأول يبقى قائمًا ولكنّه موقوف - بمعنى عدم حلّ المعاشرة الزوجية بينهما - حتّى إذا تزوّجت من آخر انحلّ العقد الأول، وإذا أسلم زوجها قبل أن تتزوّج غيره رُدّت إليه. ورابع الأدلة : ما روي عن عبد الله بن يزيد الخطمي قال : أسلمت امرأة من أهل الحيرة ولم يسلم زوجها فكتب فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أن خيروها ، فإن شاءت فارقته ، وإن شاءت قرت عنده (28). وليس معنى ذلك أن تقيم تحته وهو غير مسلم ، بل إن هذا دال على أن المرأة لها أن تنتظر وتتربص بإسلام زوجها ، فمتى يسلم فهي امرأته ، ولو مكثت سنين ، طالما أنها اختارت هذا . فإن اعترض على هذا بأنه لعله اجتهاد من عمر رضي الله عنه ، أُجيب : بأنه فعله بمحضر الصحابة من غير اعتراض من أحد ، ولو حدث لنقل. وخامس الأدلة : أن المرأة كانت تسلم ثم يسلم زوجها بعدها والنكاح بحاله مثل أم الفضـل امـرأة العباس بـن عبد المطلب فإنها أسلمت قبل العباس بمدة ، قال عبد الله بن عباس كنت أنا وأمي ممن عذر الله بقوله: {إِلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}(29) . وسر المسألة كما يرى ابن القيم أن العقد في هذه المدة جائز لا لازم ولا محذور في ذلك ولا ضرر على الزوجة فيه ولا يناقض ذلك شيئا من قواعد الشرع ، وذلك بخلاف الرجل إذا أسلم وتحته كافرة وامتنعت عن الإسلام ، فإن إمساكه لها يضر بها ولا مصلحة لها فيه ، فإنه إذا لم يقم لها بما تستحقه كان ظالما فلهذا قال تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} فنهى الرجال أن يستديموا نكاح الكافرة فإذا أسلم الرجل أمرت امرأتـه بالإسلام فإن لم تسلم فـرق بينهما(30) . وقد اختلف الفقهاء قديمًا في هذه المسألة ، ولهم فيها آراء عدة ، وسوف نبدأ بعرض هذه الآراء والمذاهب ومناقشتها : رأي الظاهرية وأبو ثوروحكاه أبو محمد بن حزم عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وحماد بن زيد والحكم بن عتيبة وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعدي بن عدي وقتادة والشعبي :- أن النكاح ينفسخ بمجرد الإسلام ، سواء أسلم الزوج بعدها بطرفة عين أو أكثر أو لم يسلم , ولا سبيل له عليها إلا بنكاح جديد بعد إسلامه وبرضاها(31). واستدلوا على ذلك بأدلة : أحدها : قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَـا أَنفَقُـوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ}(32) ، قال ابن حزم : فهذا حكم الله الذي لا يحل لأحد أن يخرج عنه , فقد حرم الله تعالى رجوع المؤمنة إلى الكافر ، وصرح سبحانه وتعالى بأن نكاحها مباح لنا , فهذا صريح في انقطاع العصمة بإسلامها ، وصح أن الذي يسلم مأمور بأن لا يمسك عصمة كافرة , فصح أن ساعة يقع الإسلام , أو الردة , فقد انقطعت عصمة المسلمة من الكافر , وعصمة الكافرة من المسلم - سواء أسلم أحدهما وكانا كافرين , أو ارتد أحدهما وكانا مسلمين ، فهذه الآية ضمت مجموعة من الأدلة . وثانيها : قول النبي صلى الله عليه وسلم : " المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " فكل من أسلم فقد هجر الكفر الذي قد نهي عنه فهو مهاجر(33) . ويُناقش ذلك بما يلي : أولاً : ليس في الآية ما يقتضي تعجيل الفرقة ، فقوله تعالى : } فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ { إنما يدل على النهي عن رد النساء المهاجرات إلى الله ورسوله إلى الكفار ، فأين في هذا ما يقتضي أنها لا تنتظر زوجها حتى يصير مسلمًا مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم ترد إليه ؟! ، وكذلك قوله تعالى : } لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ { إنما فيه إثبات التحريم بين المسلمين ، والكفار وأن أحدهما لا يحل للآخر ، وليس فيه أن أحدهما لا يتربص بصاحبه الإسلام فيحل له إذا أسلما ، وقوله تعالى : } وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ { فهذا خطاب للمسلمين ورفع للحرج عنهم أن ينكحوا المؤمنات المهاجرات إذا بِنَّ من أزواجهن وتخلين عنهم ، وهذا إنما يكون بعد انقضاء عدة المرأة واختيارها لنفسها ، ولا ريب أن المرأة إذا انقضت عدتها تخير بين أن تتزوج من شاءت وبين أن تقيم حتى يسلم زوجها ، فترجع إليه إما بالعقد الأول على ما نصرناه ، وإما بعقد جديد على قول من يرى انفساخ النكاح بمجرد انقضاء العدة ، فلو أنا قلنا إن المرأة تبقى محبوسة على الزوج لا نمكنها أن تتزوج بعد انقضاء العدة شاءت أم أبت لكان في الآية حجة علينا ، ونحن لم نقل ذلك ولا غيرنا من أهل الإسلام ، بل هي أحق بنفسهـا ، إن شاءت تزوجت وإن شاءت تربصت ، وأما قولـه تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} فإنما تضمن النهي عن استدامة نكاح المشركة والتمسك بها وهي مقيمة على شركها وكفرها ، وليس فيه النهي عن الانتظار حتى تسلم ثم يمسك بعصمتها . فإن قيل : فهو في التربص ممسك بعصمتها ، قلنا : ليس كذلك ، بل هي متمكنة بعد انقضاء عدتها من مفارقته والتزوج بغيره ، ولو كانت العصمة بيده لما أمكنها ذلك . وأيضا فالآية إنما دلت على أن الرجل إذا أسلم ولم تسلم المرأة أنه لا يمسكها ، بل يفارقها ، فإذا أسلمت بعده فله أن يمسك بعصمتها وهو إنما أمسك بعصمة مسلمة لا كافرة(34) . ثانيًا : الحديث الشريف السالف ذكره ، ليس فيه ما يفيد أن الزوج إذا أسلم بعد زوجته في عدتها أو بعد انقضائها أنه يحتاج إلى عقد جديد . ثم إن هذا القول قول في غاية الضعف ؛ لأنه خلاف المعلوم المتواتر من شريعة الإسلام ، فإنه قد علم أن المسلمين الذين دخلوا في الإسلام كان يسبق بعضهم بعضا بالتكلم بالشهادتين ، فتارة يسلم الرجل وتبقى المرأة مدة ثم تسلم ، كما أسلم كثير من نساء قريش وغيرهم قبل الرجال ، وتارة يسلم الرجل قبل المرأة ثم تسلم بعده بمدة قريبة أو بعيدة . فإن قيل هذا دليل قد تطرق إليه الاحتمال، وهو احتمال أن يكون هذا قبل تحريم نكاح المشركين، قلنا: لقد أسلم الناس ودخلوا في دين الله أفواجًا بعد نزول تحريم المشركات ونزول النهي عن التمسك بعصم الكوافر ، فأسلم الطلقاء بمكة ، وهم خلق كثير وأسلم أهل الطائف ، وهم أهل مدينة ،وكان إسلامهم بعد أن حاصرهم النبي ،ونصب عليهم المنجنيق ، ولم يفتحها ، ثم قسم غنائم حنين بالجعرانة ، واعتمر عمرة الجعرانة ، ثم رجع بالمسلمين إلى المدينة ، ثم وَفَد وَفْد الطائف فأسلموا ونساؤهم بالبلد لم يسلمن ، ثم رجعوا وأسلم نساؤهم بعد ذلك ، فمن قال إن إسلام أحد الزوجين قبل الآخر يوجب تعجيل الفرقة قبل الدخول أو بعده فقوله مقطوع بخطئه ، ولم يسأل النبي أحدا ممن أسلم هل دخلت بامرأتك أم لا بل كل من أسلم وأسلمت امرأته بعده فهي امرأته من غير تجديد نكاح ، وقد قدم عليه وفود العرب وكانوا يسلمون ثم يرجعون إلى أهليهم فيسلم نساؤهم على أيديهم بعد إسلام أزواجهن ، وبعث عليًا ومعاذًا وأبا موسى إلى اليمن فأسلم على أيديهم من لا يحصيهم إلا الله من الرجال والنساء ، ومعلوم قطعا أن الرجل كان يأتيهم فيسلم قبل امرأته والمرأة تأتيهم فتسلم قبل الرجل ، ولم يقولوا لأحد ليكن تلفظك وتلفظ امرأتك بالإسلام في آن واحد لئلا ينفسخ النكاح ، ولم يفرقوا بين من دخل بامرأته وبين من لم يدخل ، ولا حدوا ذلك بثلاثة قروء ثم يقع الفسخ بعدها(35) . وذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن إسلام الزوجة إن كان قبل الدخول وقعت الفرقة في الحال ، وإن كان بعد الدخول توقفت الفرقة على انقضاء العدة ، فإن أسلم زوجها قبل انقضاء العدة بقيا على نكاحهما ، وإن لم يسلم حتى انقضت العدة وقعت الفرقة بينهما ، وبه قال الأوزاعي , والليث , والزهري , وإسحاق :- قال النفراوي المالكي : " وأما لو أسلمت الزوجة ابتداء فإن كان قبل البناء بانت مكانها , وإن كان بعد البناء أقر عليها إن أسلم في عدتها لا إن تأخر إسلامه عن عدتها فلا يقر عليها لبينونتها بانقضاء عدتها "(36) . وفي المنهاج وشرحه للرملي من كتب الشافعية : " ( ولو أسلمت ) زوجة كافرة ( وأصر ) زوجها على كفره كتابيا كان , أو غيره ( فكعكسه ) المذكور فإن كان قبل نحو وطء تنجزت الفرقة أو بعده وأسلم في العدة دام نكاحه , وإلا فالفرقة من حين إسلامها وهي فيهما فرقة فسخ لا طلاق لأنها بغير اختيارهما "(37) . وفي الإقناع وشرحه للبهوتي من كتب الحنابلة : " ( وإن أسلمت كتابية ) تحت كتابي أو غير كتابي , ( أو ) أسلم ( أحد الزوجين غير الكتابيين ) كالمجوسيين والوثنيين ( قبل الدخول انفسخ النكاح ) لقوله تعالى : } لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ { ، ( وإن أسلم أحدهما ) أي الزوجين ( بعد الدخول وقف الأمر على فراغ العدة , فإن أسلم الآخر فيها بقي النكاح ) ( وإلا ) أي وإن لم يسلم الآخر في العدة ( تبينا فسخه منذ أسلم الأول ) لأن سبب الفرقة اختلاف الدين فوجب أن تحسب الفرقة منه كالطلاق "(38) . واستدلوا على ذلك بأدلة : أولها : ما روى عن ابن شُبْرُمَة أنه قال : " كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يسلم الرجل قبل المرأة والمرأة قبله , فأيهما أسلم قبل انقضاء العدة فهي امرأته , وإن أسلم بعد العدة فلا نكاح بينهما "(39) . وثانيها : ما روي عن الزهري : أن زوجة صفوان بن أمية أسلمت ثم أسلم صفوان فلم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما ، قال ابن شهاب : وكان بينهما نحو من شهر . قال ابن عبد البر : شهرة هذا الحديث أقوى من إسناده ، وقال ابن شهاب : أسلمت أم حكيم وهرب زوجها عكرمة إلى اليمن فارتحلت إليه ودعته إلى الإسلام فأسلم , وقدم فبايع النبي صلى الله عليه وسلم فبقيا على نكاحهما(40) . وثالثها : قال الزهري : ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت وزوجها مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل انقضاء عدتها(41) . ويرد ذلك بما يلي : أولًا : ما روي عن ابن شُبْرُمة ، فهو معضل الإسناد ؛ لأن ابن شُبْرُمة غالب رواياته عن التابعين(42) . ثانيًا : خبر صفوان رواه مالك في الموطأ(43) ، والبيهقي في السنن الكبرى(44) ، وهو مرسل فلا يعارض به المرفوع. وكذلك خبر عكرمة رواه مالك في الموطأ(45) ، والبيهقي في السنن الكبرى(46) ، وهو مرسل كسابقه . ثالثًا : وقول ابن شهاب الزهري أخرجه مالك في الموطأ(47) ، والبيهقي في الكبرى(48) ، وقال الطحاوي : وهو منقطع لا يصح الاحتجاج به في الأصول ، كما في مختصر اختلاف العلماء(49) . ويشكل على هذا كله الحديث الذي ذكرناه أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على زوجها بالنكاح الأول . ثم إن اعتبار الفرقة بانقضاء العدة رده طائفة من أهل العلم وأنكروه : فقد قال ابن الهمام من الحنفية : " إن اعتبار انقضاء العدة قبل الفرقة ، لا نظير له في الشرع، ولا أصل يصح القياس عليه "(50) . وقال ابن حزم : " من أين لكم أن المراعى في أمر أبي العاص وأمر هند وامرأة صفوان وسائر من أسلم إنما هو العدة ؟ ومن أخبركم بهذا ؟ وليس في شيء من هذه الأخبار كلها ذكر عدة ، ولا دليل عليه أصلًا "(51) . وقال ابن القيم : " وأما مراعاة زمن العدة فلا دليل عليه من نص ولا إجماع "(52) . وقال أيضًا : " وبالجملة فتجديد رد المرأة على زوجها بانقضاء العدة ، لو كان هو شرعه الذي جاء به صلى الله عليه وسلم ، لكان هذا مما يجب بيانه للناس من قبل ذلك الوقت فإنهم أحوج ما كانوا إلى بيانه "(53) . وقال كذلك : " ولا يحفظ اعتبار العدة عن صاحب واحد البتة ، وأرفع ما فيه قول الزهري الذي رواه مالك عنه في الموطأ "(54) . بل إن ابن مفلح الحنبلي ذكر في الفروع عن بعض متأخري الحنابلة قولهم : " إنما نزل تحريم المسلمة على الكافر بعد صلح الحديبية , ولما نزل التحريم أسلم أبو العاص فردت عليه زينب , ولا ذكر للعدة في حديث , ولا أثر لها في بقاء النكاح , وكذا أيضا لم ينجز عليه السلام الفرقة في حديث , ولا جدد نكاحًا "(55) .