بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وبعد.. فهذا بحث في حكم القنوت في صلاة الصبح. القُنوتُ في اللغة: الطاعة. هذا هو الأصل، ومنه قوله تعالى: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب: 35] ثم سمِّي القيام في الصلاة قنوتًا(1) قال القاضي أبو بكر بن العربي في العارضة: "تتبعت موارد القنوت فوجدتها عشرة: الطاعة، العبادة، دوام الطاعة، الصلاة، القيام، طول القيام، الدعاء، الخشوع، السكوت، ترك الالتفات، وكلها محتملة أولاها: السكوت والخشوع والقيام وأحدها في هذا الحديث([2]) القيام وهو في النافلة بالليل أفضل والسجود والركوع بالنهار أفضل"([3]). وعلى ذلك يرى المفسرون: أن القنوت هو الطاعة في سكون، أو هو المداومة على الطاعة ([4])، ومنه قوله تعالى: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا}[الزمر: 9] أما القنوت في الاصطلاح: فهو اسم للدعاء في الصلاة، في محل مخصوص من القيام([5]). وقد اختلفت كلمة العلماء حول مشروعية القنوت وتباينت آراء الفقهاء في حكمه وفي وقته وفي سببه، وهل هو مشروع مأمور به أم لا؟ ثم إنه إذا كان مشروعًا فهل هو واجب أو مندوب - أي مسنون -؟ ومتى يكون مشروعًا؟ واختلفوا في محله هل هو قبل الركوع أو بعده؟ والذي اخترناه للفتوى أن القنوت في الصبح سنة نبوية ماضية سواء نزلت نازلة أو لم تنزل، وبهذا قال أكثر السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار. والدليل على ذلك ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا يدعو عليهم - أي: على قاتلي القراء - ثم ترك، فأمَّا في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا". قال الإمام النووي في المجموع: "وهو حديث صحيح رواه جماعة من الحفاظ وصححوه، وممن نص على صحته الحافظ أبو عبد الله محمد بن علي البلخي والحاكم أبو عبد الله في مواضع من كتبه والبيهقي، ورواه الدارقطني من طرق بأسانيد صحيحة"([6]) قلت: وهذا الحديث مروي من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك رضي الله عنه، ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا يدعو عليهم ثم ترك، فأمَّا في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا" أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"، ومن طريقه الدارقطني في "السنن"، وأحمد في "المسند"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"، والحاكم في "الأربعين"، وعنه البيهقي في "السنن الكبرى"، ونور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رجاله موثقون ([7]) وأبو جعفر الرازي اسمه عيسى بن ماهان الرازي، اختلفت فيه عبارات أهل العلم. قال عنه الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: "صدوق سيء الحفظ"([8]) وهو بذلك من أهل المرتبة الخامسة عند ابن حجر، ويُعدُّون عنده فوق مراتب الضعف عمومًا، ويشاركون أهل المرتبة الرابعة في الحجية بما دون الثقة، ويُحسَّن حديثهم لذاته([9]) لذلك نجد أن الحافظ ابن حجر قد حسن هذا الحديث في نتائج الأفكار([10]). ولهذا الحديث شاهد صحيح يقويه، ففي الصحيحين عن عاصم قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن القنوت في الصلاة، فقال: نعم، فقلت: كان قبل الركوع أو بعده. قال: قبله. قلت: فإن فلانًا أخبرني عنك أنك قلت بعده. قال: كذب: إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا أنه كان بعث ناسًا يقال لهم القراء وهم سبعون رجلا إلى ناس من المشركين وبينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد قبلهم فظهر هؤلاء الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا يدعو عليهم ([11]) وعاصم لم ينفرد بهذه الرواية، فقد تابعه عبد العزيز بن صهيب، كما في صحيح البخاري، حيث قال في حديثه بعد ذكر قصة القراء: "وسأل رجل أنسًا عن القنوت أبعد الركوع أو عند الفراغ من القراءة؟ قال: لا بل عند فراغ من القراءة"([12]) ووافقه حميد عن أنس بن مالك رضي الله عنه فقال: "سئل عن القنوت في صلاة الصبح؟ فقال: كنا نقنت قبل الركوع وبعده"([13]) ومعنى هذا أن القنوت الدائم كان قبل الركوع. فإذا كان ثمة نازلة قنت بعد الركوع. و هذا واضح لا إشكال فيه. قال الحافظ في الفتح: "ومجموع ما جاء عن أنس من ذلك؛ أنّ القنوت للحاجة بعد الركوع لا خلاف عنه في ذلك، وأمّا لغير الحاجة فالصحيح عنه أنه قبل الركوع. وقد اختلف عمل الصحابة في ذلك، والظاهر أنه من الاختلاف المباح"([14]) قال بعض الباحثين المعاصرين([15]): "والأحاديث في هذا الباب سواء عن أنس أو عن غيره من الصحابة، كلها متوافقة وترجع إلى معنى واحد. ولاينبغي بأيّ حال طرح شيء منها بدعوى الاختلاف والاضطراب ما أمكن الجمع. وقد تصرف الرواة في هذه الأخبار اختصارًا وبسطًا، وطيًّا ونشرًا، حتى تخيّل من لم يعطِ النظر حقه أنّ التوفيق بينها متعذر. ومن أَعْمَلَ قواعد أصول الفقه في تلك الروايات فأَرْجَعَ المجمل إلى المبيّن، والمطلق إلى المقيّد سَهُلَ عليه الجمع و لله الحمد. وقد اتفقت الروايات عن الصحابة الذين رووا أحاديث القنوت، على أنّ القنوت للحاجة محله بعد الرفع من الركوع". واستدلوا أيضًا بما جاء عن البراء رضي الله تعالى عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الصبح والمغرب"([16]) قال الإمام النووي: "ولا يضر ترك الناس القنوت في صلاة المغرب؛ لأنه ليس بواجب أو دل الإجماع على نسخه فيها"([17]) وقد ذكر ابن قتيبة أن الناس لا يختلفون فيترك القنوت في المغرب([18]) وممن قال بهذا من الصحابة أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن عباس والبراء بن عازب رضي الله تعالى عنهم جميعًا. فعن العوام بن حمزة قال: "سألت أبا عثمان عن القنوت في الصبح. قال: بعد الركوع. قلت: عمن؟ قال: عن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم"([19]) وروي عن أبي رجاء قال: "صلى ابن عباس صلاة الصبح في هذا المسجد فقنت وقرأ هذه الآية {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}"([20]) [البقرة: 238]. وروي عن عبيد بن البراء عن البراء: أنه قنت في الفجر([21]) وهو مذهب الشافعية، ففي المنهاج للإمام النووي: "ويسن القنوت في اعتدال ثانية الصبح"([22]) وقد حكي وجه عن أبي علي بن أبي هريرة من الشافعية: أنه لا يقنت في الصبح، وقد أجاب الإمام النووي عن هذا فقال: "وهذا غريب، وغلط"([23]) وذهب المالكية إلى القول بأن القنوت في الصبح مستحب ففي الشرح الكبير للشيخ الدردير: "(و) ندب (قنوت) أي دعاء (سرًا بصبح) (فقط)" وعلق الشيخ الدسوقي في حاشيته قائلا: "(قوله: وندب قنوت) ما ذكره المصنف من كونه مستحبا هو المشهور، وقال سحنون: إنه سنة، وقال يحيى بن عمر: إنه غير مشروع، وقال ابن زياد: من تركه فسدت صلاته وهو يدل على وجوبه عنده (قوله: أي دعاء) أشار بهذا إلى أن المراد بالقنوت هنا الدعاء لأنه يطلق في اللغة على أمور منها الطاعة والعبادة" ([24]) ومعنى هذا أن المشهور من مذهب المالكية أن القنوت في الصبح مستحب، وذهب سحنون إلى القول بأنه سنة، وقال ابن زياد من المالكية أن من تركه فسدت صلاته، فَفُهِم من كلامه أنه واجب عنده. وقال بهذا من التابعين فمن بعدهم خلائق، وهو مذهب ابن أبي ليلى والحسن بن صالح وداود([25]) وقال عبد الله بن مسعود وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري وأحمد: لا قنوت في الصبح. قال أحمد إلا الإمام فيقنت إذا بعث الجيوش، وقال إسحاق يقنت للنازلة خاصة. وروي أيضًا عدم القنوت عن ابن عمر، وأبي الدرداء ([26]) والمذهب عند الحنفية أنه لا يجوز القنوت في الصبح، ففي الكنز وشرحه للزيلعي: "قال رحمه الله: (ولا يقنت لغيره) أي في غير الوتر، وهو مروي عن عمر وابن مسعود وابن عباس وابن عمر"([27]) وفي الدر المختار وهو يذكر واجبات الصلاة، ذكر منها: متابعة الإمام يعني في المجتهد فيه لا في المقطوع بنسخه أو بعدم سنيته كقنوت فجر. علق ابن عابدين في حاشيته قائلا: "(قوله: كقنوت فجر) فإنه إما مقطوع بنسخه على تقدير أنه كان سنة، أو بعدم سنيته على تقدير أنه كان دعاء على قوم شهرًا، فهو مثال للمقطوع بنسخه أو بعدم سنيته على سبيل البدل"([28]) والمذهب عند الحنابلة أن القنوت في الصبح مكروه، ففي شرح المنتهى للبهوتي: "(وكره قنوت في غير وتر) حتى فجر روي ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس وابن عمر، وأبي الدرداء"([29]) واستدلوا ([30]) على ذلك بما روي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا يدعو على أحياء من أحياء العرب ثم تركه ([31]) . ويُناقش هذا بأن الذي تركه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث إنما هو ترك الدعاء على أولئك الكفار ولعنتهم فقط، لا ترك جميع القنوت أو ترك القنوت في غيرالصبح، وهذا التأويل متعين; لأن حديث أنس في قوله: "لم يزل يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا" صحيح صريح فيجب الجمع بينهما، وهذا الذي ذكرناه متعين للجمع، وقد روى البيهقي بإسناده عن عبد الرحمن بن مهدي الإمام أنه قال: "إنما ترك اللعن" ويوضح هذاالتأويل رواية أبي هريرة السابقة، وهي قوله "ثم ترك الدعاء لهم" ([32]) وتعقب هذا البدر العيني في العمدة قائلا: "هذا كلام متحكم متعصب بلا توجيه ولا دليل، فإن الضمير في (تركه) يرجع إلى القنوت الذي يدل عليه لفظ (قنت)، وهو عام يتناول جميع القنوت الذي كان في الصلوات. وتخصيص الفجر من بينها بلا دليل من اللفظ يدل عليه باطل. وقوله: " أي ترك الدعاء" غير صحيح؛ لأن الدعاء لم يمض ذكره ولئن سلمنا، فالدعاء هو عين القنوت وما ثَمَّ شيء غيره فيكون قد ترك القنوت والترك بعد العمل نسخ"([33]) وهذا تعقب قوي ووجيه في بعض أجزائه. ويؤيده لفظ بعض الروايات من حديث أنس رضي الله عنه: "ثم تركه بعد الركوع"([34])، وهذا نص في محل النزاع. وهو يفيد أن المتروك إنما هو القنوت بعد الركوع، وهذا ليس بسبب النسخ، كما يزعم الأحناف، ولكن لعدم وجود مقتضاه. وأمّا القنوت الدائم الذي موضعه قبل الركوع فقد بيّنته رواية عاصم المخرّجة في الصحيحين. وهي مفسِّرة، ومعلوم في قواعد فقه الحنفية: أن المفسر مقدم على النص؛ لقوة المفسر، لأنه لايحتمل تأويلا ولا تخصيصًا، والنص يحتملهما. وحاصل ذلك أن أقسام الدليل اللفظي بحسب الإفضاء إلى الأحكام أربعة: 1- ظاهر وهو ما ظهر المراد منه للسامع بصيغته مع احتمال التأويل والتخصيص. 2- نص وهو ما ازداد وضوحًا على الظاهر بمعنى سيق له الكلام من المتكلم وهو قصد معنى الكلام وسوقه لأجله لا من نفس الصيغة مع احتمال التأويل والتخصيص أيضاً. 3- مفسر وهو ما ازداد وضوحًا على النص على وجه لا يبقى معه احتمال التخصيص إن كان عامًا والتأويل إن كان خاصًا. 4- محكم وهو ما أحكم المراد منه من غير احتمال تأويل ولا تخصيص ولا نسخ([35]) واستدلوا([36]) أيضًا بحديث أبي مالك الأشجعي سعد بن طارق بن أشْيَم قال: قلت لأبي: يا أبت إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ههنا بالكوفة، نحوًا من خمس سنين. فكانوا يقنتون في الفجر؟ فقال: أي بني محدث([37]). ويُناقش هذا بأن الرواية التي فيها إثبات القنوت فيها زيادة علم فوجب تقديمها. وطارق لم يحفظ ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. واستدلوا أيضًا بما رواه البيهقي عن أبي مجلز قال: صليت مع ابن عمر صلاة الصبح فلم يقنت، فقلت لابن عمر: لا أراك تقنت. قال: لا أحفظه عن أحد من أصحابنا([38]) ويُناقش هذا بأن نسيان بعض الصحابة أو غفلته عن بعض السنن لا يقدح في رواية من حفظه وأثبته، فإذا كان ابن عمر رضي الله عنهما لم يحفظه أو نسيه فقد حفظه أنس والبراء بن عازب وغيرهما فقدم من حفظ([39]) واستدلوا([40]) أيضًا بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن القنوت في صلاة الفجر بدعة([41]). ويُناقش هذا بأن حديث ابن عباس رضي الله عنهما ضعيف جدًا، وقد رواه البيهقي من رواية أبي ليلى الكوفي، وقال: هذا لا يصح وأبو ليلى متروك، وقد روينا عن ابن عباس أنه قنت في الصبح([42]) فقد روي عن أبي رجاء قال: صلى بنا ابن عباس صلاة الصبح فقنت قبل الركوع فلما انصرف قال هذه صلاة الوسطى التي قال الله عز وجل فيها:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}[البقرة: 238]([43]) ففي هذا بيان أنه رضي الله عنه كان يقنت قبل الركوع، ويحمل هذا على القنوت الراتب، أما ما روي عنه من الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحمل على دعاء الحاجة أو النازلة محله بعد الرفع من الركوع، وهذا مجموع ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذا الشأن. وقد ذكر الإمام النووي في المجموع دليلين آخرين لهم ثم أجاب عنهما([44]). أحدهما: ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "ما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من صلاته"([45]) ويُناقش هذا بأنه من رواية محمد بن جابر السحيمي، وقد ضعفه بعض العلماء وتركوا حديثه، وعلى فرض ثبوته وصحته فإنه نفي وحديث أنس إثبات، والإثبات مقدم على النفي؛ لأن فيه زيادة العلم. والآخر: ما روي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن القنوت في الصبح([46]) ويُناقش بأنه ضعيف; لأنه من رواية محمد بن يعلى عن عنبسة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن نافع عن أبيه عن أم سلمة. قال الدارقطني: هؤلاء الثلاثة ضعفاء، ولا يصح لنافع سماع من أم سلمة ([47]) وقال ابن حجر عن عنبسة بن عبد الرحمن: "متروك رماه أبو حاتم"([48])، وعلى فرض التسليم بصحته فإنه يجاب عنه بنحو ما أجيب به عن سابقه. وقد أجاب المانعون للقنوت في الصبح - سواء القائلون بنسخه أو القائلون بأنه كان للنوازل - عن حديث أنس رضي الله عنه: "ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا": بأن فيه مقال، وأنه يحتمل: أنه أراد بالقنوت: طول القيام، فإنه يسمى قنوتًا"([49]) وهذا المعنى مردود بسياق الرواية التي تبين أن المراد بالقنوت هو الدعاء، ففيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا يدعو عليهم ثم ترك، فأمَّا في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا. وقد ذهب ابن تيمية وابن القيم إلى أن المداومة على القنوت في الصبح خلاف السنة، ولكن لا ينكر على من فَعَلَه، وقالا كلامًا طويلا([50]) مُحَصَّلُه: أنه صلى الله عليه وسلم قنت في الصبح بعد الركوع شهرًا ثم ترك القنوت ولم يكن من هديه القنوت فيها دائمًا، ولكن هذا لا يدل على كراهية غيره ولا أنه بدعة ولكن هديه صلى الله عليه وسلم أكمل الهدي وأفضله. والذي يبين هذا أنه لو كان صلى الله عليه وسلم يقنت دائمًا، ويدعو بدعاء راتب، لنقله المسلمون عنه صلى الله عليه وسلم، فإن هذا من الأمور التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها، فكيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم يقنت دائمًا في الفجر أو غيرها، ويدعو بدعاء راتب، ولم ينقل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لا في خبر صحيح ، ولا ضعيف؟. ويُناقش القول: بأن المداومة على القنوت في الصبح لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم ومع هذا لا يدل على كراهية غيره ولا أنه بدعة، بأنه كلام غاية في الإشكال؛ لأنه إمّا أن يكون مشروعًا فلا كراهة حينئذِ. وإمّا أن يكون غير مشروع ومخالف للسنة، فهذا ينبغي أن يكون مكروهًا([51]) وأما مناقشة الكلام على النقل فنقول: إن مطلق النقل قد حدث؛ فقد نقل عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ما زال يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا، وكذلك نقل القنوت عن غيره من الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم أجمعين - كما تقدم -. واختار ابن تيمية وابن القيم القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم قنت لسبب نزل به ثم تركه عند عدم ذلك السبب النازل به، فيكون القنوت مسنونًا عند النوازل، وهذا القول هو الذي عليه فقهاء أهل الحديث. ثم كان جوابهم عن حديث أنس بأن فيه أبا جعفر الرازي، وهو ضعيف ضعفه غير واحد من الحفاظ، وعلى فرض صحته فليس فيه دليل على هذا القنوت المعين البتة فإنه ليس فيه أن القنوت هذا الدعاء، فإن القنوت يطلق على القيام والسكوت ودوام العبادة والدعاء والتسبيح والخشوع، وأنس رضي الله عنه لم يقل لم يزل يقنت بعد الركوع رافعا صوته: اللهم اهدني فيمن هديت.. إلى آخرهو يُؤمِّن من خلفه، ولا ريب أن قوله: ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شئ بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد.. إلى آخر الدعاء والثناء الذي كان يقوله قنوت وتطويل هذا الركن قنوت وتطويل القراءة قنوت وهذا الدعاء المعين قنوت.. فمن أين لكم أن أنسًا إنما أراد هذا الدعاء المعين دون سائر أقسام القنوت؟ ! ولا يقال: تخصيصه القنوت بالفجر دون غيرها من الصلوات دليل على إرادة الدعاء المعين إذ سائر ما ذكرتم من أقسام القنوت مشترك بين الفجر وغيرها وأنس خص الفجر دون سائر الصلوات بالقنوت. ولا يمكن أن يقال: إنه الدعاء على الكفار ولا الدعاء للمستضعفين من المؤمنين لأن أنسا قد أخبر أنه كان قنت شهرا ثم تركه فتعين أن يكون هذا الدعاء الذي داوم عليه هو القنوت المعروف وقد قنت أبو بكر وعمر وعثمان وعلى والبراء بن عازب وأبو هريرة وعبد الله بن عباس وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك وغيرهم. ثم كان جوابهم - عما سبق - من وجوه كما يلي.. أولا: إن أنسًا قد أخبر أنه صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الفجر والمغرب كما ذكره البخاري فلم يخصص القنوت بالفجر وكذلك ذكر البراء بن عازب فما بال القنوت اختص بالفجر؟ ! فإن قلتم: قنوت المغرب منسوخ قال لكم منازعوكم من أهل الكوفة: وكذلك قنوت الفجر سواء ولا تأتون بحجة على نسخ قنوت المغرب إلا كانت دليلا على نسخ قنوت الفجر سواء ولا يمكنكم أبدا أن تقيموا دليلا على نسخ قنوت المغرب وإحكام قنوت الفجر ويُناقش هذا: بأن ترك القنوت في المغرب لا يضر كما قال النووي، وأن الناس لا يختلفون في ترك القنوت في المغرب كما مر من قول ابن قتيبة. وأن الدليل الذي دل على نسخ القنوت في المغرب لا يصلح بمفرده دليلا على نسخه في الصبح؛ لورود أحاديث أخرى دالة على المداومة والاستمرار على القنوت في الصبح. فلا يستويان. ثم قالا: فإن قلتم: قنوت المغرب كان قنوتا للنوازل لا قنوتا راتبا قال منازعوكم من أهل الحديث: نعم كذلك هو وكذلك قنوت الفجر سواء وما الفرق؟ قالوا : ويدل على أن قنوت الفجر كان قنوت نازلة لا قنوتا راتبا أن أنسًا نفسه أخبر بذلك وعمدتكم في القنوت الراتب إنما هو أنس وأنس أخبر أنه كان قنوت نازلة ثم تركه ففي الصحيحين عن أنس قال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على حي من أحياء العرب ثم تركه. ويُناقش هذا: بأننا لم نَقُل هذا البتة، وإنما قلنا ما تقدم من قول ابن قتيبة إن الناس لا يختلفون في ترك القنوت في المغرب، ثم إن القنوت الذي تركه النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو ما كان بعد الركوع أما الذي قبله فلم يتركه. دلَّ على هذا رواية أخرى في الصحيحين – وقد تقدم ذكرها - تُبين المراد من الرواية التي استدللتم بها، مفادها أن عاصمًا سأل أنس بن مالك رضي الله عنه عن القنوت في الصلاة أكان قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله. فقال عاصم: فإن فلانًا أخبرني عنك أنك قلت بعده. قال: كذب: إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا. ففُهم من هذه الرواية أن القنوت بعد الركوع كان خاصًا بالنوازل أما قبله فلا. والجواب الثاني: أن شبابة روى عن قيس بن الربيع عن عاصم بن سليمان قال: قلنا لأنس بن مالك: إن قومًا يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت بالفجر قال: كذبوا وإنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا واحدا يدعو على حي من أحياء العرب، وقيس بن الربيع وإن كان يحيى بن معين ضعفه فقد وثقه غيره وليس بدون أبي جعفر الرازي فكيف يكون أبو جعفر حجة في قوله: لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا وقيس ليس بحجة في هذا الحديث وهو أوثق منه أو مثله والذين ضعفوا أبا جعفر أكثر من الذين ضعفوا قيسا فإنما يعرف تضعيف قيس عن يحيى وذكر سبب تضعيفه فقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم : سألت يحيى عن قيس بن الربيع فقال : ضعيف لا يكتب حديثه كان يحدث بالحديث عن عبيدة وهو عنده عن منصور ومثل هذا لا يوجب رد حديث الراوي لأن غاية ذلك أن يكون غلط ووهم في ذكر عبيدة بدل منصور ومن الذي يسلم من هذا من المحدثين ؟ ويُناقش هذا أيضًا بما تقدم من رواية عاصم السالفة في الصحيحين، وفيها أن عاصمًا قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن القنوت في الصلاة، فقال: نعم، فقلت: كان قبل الركوع أو بعده. قال: قبله. قلت: فإن فلانًا أخبرني عنك أنك قلتبعده. قال: كذب: إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا أنه كان بعث ناسًا يقال لهم القراء وهم سبعون رجلا إلى ناس من المشركين وبينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد قبلهم فظهر هؤلاء الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا يدعو عليهم. وللجمع بين حديث عاصم وحديث قيس ورفع ما ظاهره التعارض بينهما نقول: إن قيسًا - وإن كان قد تُكلم فيه – إلا أن حديثه عن القنوت الذي قنته رسول الله صلى الله عليه وسلم لشهر واحد يدعو فيه على حي من أحياء العرب، وكان ذلك بعد الركوع، أما حديث عاصم فهو عن القنوت الدائم وكان موضعه قبل الركوع. والجواب الثالث: أن أنسًا أخبر أنهم لم يكونوا يقنتون وأن بدء القنوت هو قنوت النبي صلى الله عليه وسلميدعو على رعل وذكوان ففي الصحيحين من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا لحاجة يقال لهم: القراء فعرض لهم حيان من بني سليم رعل وذكوان عند بئر يقال له: بئر معونة فقال القوم: والله ما إياكم أردنا وإنما نحن مجتازون في حاجة النبي صلى الله عليه وسلم فقتلوهم فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم شهرًا في صلاة الغداة وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت([52]) فهذا يدل على أنه لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم القنوت دائما وقول أنس: فذلك بدء القنوت مع قوله: قنت شهرا ثم تركه دليل على أنه أراد بما أثبته من القنوت قنوت النوازل وهو الذي وقته بشهر وهذا كما قنت في صلاة العتمة شهرًا كما في الصحيحين عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله عنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم:قنت بعد الركعة في صلاة شهرًا إذا قال سمع الله لمن حمده يقول في قنوته: "اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم نج سلمة بن هشام اللهم نج عياش بن أبي ربيعة اللهم نج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف. قال أبو هريرة: ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الدعاء بعد فقلت: أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك الدعاء لهم. قال: فقيل وما تراهم قد قدموا؟([53]) فقنوته في الفجر كان هكذا سواء لأجل أمر عارض ونازلة ولذلك وقته أنس بشهر. وقد تقدم ذكر حديث عكرمة عن ابن عباس: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح ورواه أبو داود ([54]) وغيره وهو حديث صحيح. وقد ذكر الطبراني في معجمه من حديث محمد بن أنس: حدثنا مطرف بن طريف عن أبي الجهم عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي صلاة مكتوبة إلا قنت فيها([55]). انتهى. ويُناقش هذا بأن بدء القنوت إنما المراد به قنوت النوازل وكان بعد الركوع أما القنوت الدائم فكان قبل الركوع كما بينته رواية عاصم المتقدمة في الصحيحين. أما حمل القنوت في الصبح على معنى الحديث المروي عن ابن عباس والبراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي صلاة مكتوبة إلا قنت فيها، فهو لا يصح؛ لأنه لن تكون هناك خصوصية للصبح كما في أحاديث أنس. ولا يفوتنا أن نقول: إن حديث البراء هذا قال عنه ابن القيم نفسه: لا تقوم به حجة. والجواب الرابع: أن أحاديث أنس كلها صحاح تبين المراد يصدق بعضها بعضًا ولا تتناقض: ففي الصحيحين من حديث عاصم الأحول قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة؟ فقال: قد كان القنوت فقلت: كان قبل الركوع أوبعده؟ قال: قبله؟ قلت: وإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت: قنت بعده قال: كذب إنما قلت: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا. فالقنوت الذي ذكره قبل الركوع قد يراد به طول القيام قبل الركوع، سواء كان هناك دعاء زائد أو لم يكن، والذي ذكره بعده هو إطالة القيام للدعاء فعله شهرا يدعو على قوم ويدعو لقوم ثم استمر يطيل هذا الركن للدعاء والثناء إلى أن فارق الدنيا. كما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بنا. قال ثابت: كان أنس يصنع شيئًا لم أركم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع قامحتى يقول القائل قد نسي وبين السجدتين حتى يقول القائل قد نسي([56]). ومعلوم أنه لم يكن يسكت في مثل هذا الوقوف الطويل بل كان يثني على ربه ويمجده ويدعوه وهذا غير القنوت الموقَّت بشهر، فإن ذلك دعاء على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان ودعاء للمستضعفين الذين كانوا بمكة. فحينئذ لا يكون اللفظ دالا على قنوت الدعاء. ويُناقش هذا بأن القنوت له عدة معان في اللغة. وفي اصطلاح الفقهاء هو الدعاء المخصوص، فإذا كان الأمر كذلك فما الذي صرف معنى القنوت هنا إلى إطالة القيام ولاقرينة، والمتبادر هو القنوت بمعنى الدعاء، والتبادر أقوى أمارات الحقيقة، فلابد من دليل أو قرينة تصرف معنى القنوت إلى إطالة القيام. كما أننا نقول: ما الذي يمنع من حصول الأمرين معًا، إطالة القيام مع الدعاء، ولا شك أن سياق الروايات عن أنس تبين أن القنوت هو الدعاء لا غيره، ثم إننا نسأل: ما فائدة ذكر القنوت بمعنى إطالةالقيام في سياق من سأل عن القنوت بمعنى الدعاء، ففي الصحيحين عن عاصم قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن القنوت في الصلاة.. إلى آخر الرواية، والقنوت في السؤالوفي جواب أنس بمعنى الدعاء لا إطالة القيام. وذكرا أيضًا: أن المروي عن الصحابة نوعان : أحدهما: قنوت عند النوازل كقنوت الصديق رضي الله عنه في محاربة الصحابة لمسيلمة وعند محاربة أهل الكتاب، وكذلك قنوت عمر وقنوت علي عند محاربته لمعاوية وأهل الشام. الثاني: مطلق مراد من حكاه عنهم به تطويل هذا الركن للدعاء والثناء. ويُناقش هذا بأننا لا نسلم حمل الآثار المروية عن الصحابة في قنوت الصبح على هذين المعنيين فحسب. ومما ينبغي التنبيه عليه أن الشيخين ابن تيمية وابن القيم ذكرا في سياق كلامهما أنه وإن لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم المداومة على القنوت في الصبح فإن هذا لا يدل على كراهية غيره ولا أنه بدعة، وأن من اعتقد المداومة على القنوت في الصبح مجتهدًا في الأدلة بما تحتمله- فله ذلك، كما في سائرما يصح فيه الاجتهاد، ولهذا ينبغي للمأموم أن يتبع إمامه فيما يسوغ فيه الاجتهاد، فإذا قنت قنت معه، وإن ترك القنوت لم يقنت. فصل في محل القنوت: اختلف القائلون بمشروعية القنوت في الصبح في محله، فذهب المالكية في المشهور عندهم إلى أنه يكون قبل ركوع الركعة الثانية بلا تكبيرة قبله؛ لما فيه من الرفق بالمسبوق وعدم الفصل به بين ركني الصلاة، والمشهور عندهم أيضًا الإسرار به([57]) وذهب الشافعية أنه بعد ركوع الركعة الثانية، فلو قنت قبل الركوع فالمشهور عندهم أنه لا يجزئه، والأصح استحباب الجهر([58]) قلت: وقد وردت الأحاديث الصحاح بالأمرين كما مر، ولا إشكال؛ فهذا من الاختلاف المباح كما تقدم من كلام ابن حجر. فصل في صيغة القنوت: واختلفوا أيضًا في لفظ القنوت وصيغته، فالمندوب عند المالكية كونه بلفظ: (اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونخنع ونخلع لك، ونترك من يكفرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخاف عذابك الجد، إن عذابك بالكافرين ملحق). فلو دعا بغيره مثل: اللهم اهدنا إلى آخره لأتى بمندوب وأخل بآخر([59]) والسنة عند الشافعية أن يقول فيه: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وأنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت)([60])، ولا بأس أن يزيد فيه: (ولا يعز من عاديت) قبل : (تباركت ربناوتعاليت) وبعده: (فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك وأتوب إليك). وإن كان إمامًا لم يخص نفسه بالدعاء، بل يعمم فيأتي بلفظ الجمع: اللهم اهدنا إلى آخره ([61])، ولابأس أن يزيد فيه: (ولا يعز من عاديت) قبل : (تباركت ربنا وتعاليت) وبعده: (فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك وأتوب إليك). وإن كان إمامًا لم يخص نفسه بالدعاء، بليعمم فيأتي بلفظ الجمع: اللهم اهدنا إلى آخره . قال الإمام النووي: "والمذهب أنه لا يتعين الدعاء بهذه الكلمات. ولو قنت بالمنقول عن سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه كان حسنًا، ويُستحب الجمع بين قنوت عمر رضي الله عنه وبين ما سبق، فإن جمع بينهما فالأصح تأخير قنوت عمر، وفي وجه يستحب تقديمه، وإن اقتصر فليقتصر على الأول، وإنما يستحب الجمع بينهما إذا كان منفردًا أو إمام محصورين يرضون بالتطويل والله أعلم"([62]) فبان مما سبق أن هذا أيضًا من الاختلاف المباح، ومبنى الأمر فيه على التوسعة، فلو قُنِتَ بأيِّ شيءٍ من الدعاء المأثور وغيره أجزأه عن قنوته كما قال الإمام الماوردي في الحاوي([63]). خلاصة البحث: والذي نَخْلُص إليه في نهاية هذا البحث: أن العلماء اختلفوا في حكم القنوت في الصبح، فمنهم من قال إنه سنة، ومنهم من قال إنه منسوخ، ومنهم من قال إنه يكون عند النوازل، والذي اخترناه هو سنية القنوت في الصبح، وأنه ليس بدعة يُنهى عنها، وأن القنوت ليس خاصًا بالنوازل فحسب، بعدما اتضح مما نُفل عن الفقهاء والمحدثين من استفاضة وقوع القنوت عن الخلفاء الراشدين في غير النوازل، والقنوت كماقال ابن حزم: "ذِكْرٌ للَّه تعالى، ففعْلُهُ حسنٌ ، وترْكُهُ مُبَاحٌ"([64])، ومع هذا فإن حكم القنوت في الصبح من الأمور الخلافية التي ليس فيها إنكار لا على الفعل أو الترك، فالقاعدة تقول: "لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المجمع عليه"([65])، ومن ثم فإن على المسلمين ألا يجعلوا مثل هذه الفروع الخلافية بابًَا لنشر الفتن والفرقة فيما بينهم، كما يجب ألا يُطْلَق لفظ البدعة على ما كان سنة متبعة تلقتهاالأمة بالقبول؛ فالبدعة المنهي عنها كما قال الإمام الغزالي: "بدعة تضاد سنة ثابتة،وترفع أمرًا من الشرع مع بقاء علته"([66])، وقد جعل الله تعالى الدين يسرًا، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَيُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال أيضًا: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِيالدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج: 78]، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنَّ هذا الدين متينٌ فأوغل فيه برفق ولا تُبَغِّض إلى نفسك عبادة الله، فإن الْمُنْبَتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى"([67]) والله تعالى أعلى وأعلم