آنسهُ صوته فرفع الوتيرة إلى أقصى مدى، وتجاوب رجع الصدى مع أوراق الأشجار وقطرات الرذاذ ولفحة مقرورة نفذت إلى عظامه .. يا عباد الله وحدوا الله .. مدينته الصغيرة الأقرب إلى تل أبيب يشم فيها رائحة البحر، وفي الصباحات الصافية يراه بعيداً عميق الزرقة .. ولم يصل إلى سمعه هدير جنازير الدبابات بعد في الحلكة الخرساء .. حتى يكاد يرى في الصمت صورة وجهه ... اعتصرت قلبه أصابع خرافية .. فتش في ذاكرته طويلاً عن تفاصيلها ولكنه فشل .. وظل الغموض يغرقه كأنما يسبح في اللجة السوداء التي لا يعكرها حتى ضوء نافذة في الشارع المستقيم المتفرع من قلب المدينة متجهاً إلى الغرب. لم يبتعد عن بيته كثيراً، فكر بالاستدارة والعودة إلى الدفء ولا حاجة للصائمين لمن يوقظهم .. تعود في سنوات مضت أن يلمح وجوه الأطفال تطل من النوافذ وتطلق أصواتاً ناعمة تغمره بالسعادة .. الواحدة والنصف ليلاً وقت مناسب للانطلاق .. يستيقظ الصائمون في الثالثة، وتنفجر أصوات المآذن في الرابعة .. يكون أكمل دورته في نصف المدينة الغربي وامطر الصمت بكلمات التوحيد وأبيات الشعر والوجد الصوفي والنسائي .. السميعة قلائل، وقلبه منكسر لنداء زوجته الأخير وهو يقف على عتبة المنزل .. أمكث هذه الليلة .. قلبي يحدثني أن اليهود قادمون لاقتحام طولكرم .. اتسعت ابتسامته الساخرة وكأنما شق الظلمة شعاع منها، فلم تعد لحياته كبير قيمة والجوع يحاصر عائلته الكبيرة، ولحيته البيضاء التي لم يحلقها منذ أسبوع .. وهواجس مكافأة ليست بسخاء سنوات مضت .. والعيد يقترب كوحش يثير في نفسه رعباً أشد وطأة من دباباتهم. قرع الطبلة بشراسة وتمالك صوته وهو ينغم ((عجبت لك يا زمن .. وحدوا الله .. )) استوى واقفاً بعد تعثره بجسم مجهول في منتصف الشارع الخالي المطفأة عيونه الكهربائية .. وتابع منغماً ((معوّد على الصدعات جلبي)) استرد أنفاسه .. موجة صاخبة من الذعر تهاجم .. فالليل يحمل اللحظة الأصوات الهادرة الكريهة ((هل يأبهون لوجود المسحر في منع التجول .. )) استعرض أحلامه في الليلة الماضية .. فتش عن رموز موت ممكن فيما يتذكره منها لكنها تلاشت، لم يبق إلا هلام حب غامض لاستمراره على قيد الحياة .. واتسعت ابتسامته الساخرة وفتح فمه على مصراعيه محاولاً ابتلاع الظلام والأصوات المقتربة المنذرة بالموت .. وكالبوفالو المتجه إلى مصيره المحتوم تابع القرع والاتجاه غرباً نحو مصدر الصوت. ((وحدوا الله يا عباد الله)) هذه المرة تصاعد لهاثه مستغيثاً .. ابعد خواطر الانكفاء عائداً إلى البيت ((يا ربي من أين تأتيني هذه الشجاعة)) حك شعيرات ذقنه بباطن كفه مستشعراً قسوتها متبرداً بالرذاذ المتقاطر على أطرافها، ((لو أن هذه الطبلة ترفع وتيرتها)) استأنس بهذا الكائن الوحيد الذي يقف إلى جانبه في هذا الشارع المغمور بالعدم .. طبلة صغيرة تثير الشفقة رافقته رمضانات عديدة وتفاءل بها معلقة على جدار غرفته إحدى عشر شهراً، يبدأ بتسخينها قبيل كل خروج، وعندما يداهمها البرد والمطر ترسل صوتاً مبحوحاً مثيراً للكآبة .. وهاهي تفعل ذلك اليوم .. رفعها إلى شفتيه وقبلها وعبر وجه صغيره الأخير (سعود) ((هل أراه مرة أخرى)) ((وحدوا الله يا عباد الله)) تسربت دموع أحس بسخونتها على يده اليسرى. انفجر سيل من الطلقات ولم يكن بعيداً، هكذا يمهدون ويعلم ذلك جيداً .. لم يؤنسه ضوء نافذة واحدة فيما يرى من الشارع .. التجأ إلى الجدار وأطلق نداءه مجدداً ((اصح يا صايم وحد الدايم)) .. ((أهرب إذا)). الدبابة الأولى بأضوائها الكاشفة بدت على مرمى حجر .. مسح ببصره الجانب الذي يقف فيه حتى لا يضطر إلى عبور الشارع راكضاً .. سدت كل منافذ الأبنية بالظلام والأبواب الحديدية المغلقة بأحكام، وبقعة الضوء تقترب من مكان وقوفه سريعاً كالقدر .. شملته قشعريرة وهو يلتجئ إلى صوت الطبلة البائس .. ((وحدوا الله يا عباد الله)) ((لن يقتلوا المسحراتي فهم يعرفون عاداتنا في رمضان)) عبرت الفكرة ذاكرته الملتهبة متكئاً على خيط واهٍ من مشاعر إنسانية ربما تخلفت في ضمير رامي الرشاش الغامض في قلب الكائن الخرافي الكئيب المنتصب أمامه في منتصف الشارع على بعد ثلاثين متراً لا غير .. التصق بالجدار البارد والرصيف عند قدميه يئن من عشرات الطلقات التي جرحت حجارته الداكنة ووخزت بؤبؤي عينيه بوميض صارخ .. ((أحلم أنا بكل تأكيد ولابد أن أستيقظ)) .. تداعت في ذاكرته ملايين الصور عن حبه العميق للاستمرار في اغتراف متعة الشمس والبحر وعيون أولاده والصبايا .. وخوف غامض من البرزخ، وطعم لحظة الموت، وعبور الطلقة الأولى إلى جسده .. عبر الذاكرة قرار الصمود والكرامة ومفردات الشجاعة والوطن واليهود ضغط على ركبتيه بقسوة ليرفع يده اليمنى ويقرع بها صديقته الوحيدة. ((يا عباد الله .. أشهد أن لا إله إلا هو)) سمع عبارته كأنما تصدر من مذياع مجاور وأنه المسحراتي يخطئ في التعبير عن النداء ((أكره الموت وحيداً .. وما الفرق؟ .. )) لا زال الصوت يصله من المذياع المجاور في مكان ما في أعماق الظلام ((هذا أنا .. أنا المسحر يا أولاد الكلب .. لا تطلقوا النار .. )) غمره الضوء الكاشف، كل شيء يتراقص في غمرته حتى ذبابة الليل التي عبرت وجهه وغابت .. رف يديه بأقصى امتدادهما معلناً استسلامه .. وشاهدهما .. جنديان مدججان أدمنت عيناه الشكل المرتبط بالموت والحقد، تشكيل كريه متريب في لا وعيه منذ طفولته. لم يتكلما، وغرق في صمت مذعور والعينان تحاولان اكتشافا لعيون الأربعة عبثاً، لكن فوهتي الرشاشين بدتا في وضوح ساطع تحت أشعة منهمرة من الكشاف، ينعكس بريق المعدن ليخترق بؤبؤيه في اتساعهما وقد غشاهما الدمع ولسعات البرد. التصق بالحائط، وعبرته كلمات بدأ يصوغها تتوسل إليهما تركه وشأنه ليتابع إيقاظ الصائمين الذين تجاهلوه وتركوه قدره وحيداً .. فجأة أحس بأن ما يستند إليه يتحول كائناً حريرياً تصل بجسده منه أيد ناعمة مفعمة بالحنان تربت ظهرت ورقبته، كأنهما يدي زوجته، لم يجرؤ الالتفات وتقبيل هذا الكائن وشكره ... هاهي حجارة بلده الحبيب .. وتلاشت وحشته. وحدها كلمات التوسل تتوضع جملاً مفيدة فيها إقناع، تشرح شهر رمضان والمسحر، والعبادة وتناشدهما الرحمة .. الكلمات وصلت شفتيه وكادت تنطلق .. عندها .. وذاكرته المشتعلة تصب في وعيه آلاف الصور القديمة، جاءه مشهد لسعد زغلول في مسلسل شاهده في الأيام التي عبرت يخالها دهراً يفصل بينهما ((عندما أردت الانحناء لملكة بريطانيا شعرت بأيدي عشرين مليوناً من المصريين تشد رأسي إلى الأعلى فلم أستطع .. )) ((هل هذا وقتك يا زغلول)) تمتم .. عبرته لحظاته الرتيبة المتكررة حتى الملل في حياة متشابهة منذ أربعين عاماً مضت، لم يحمل سلاحاً في حياته .. أرنباً لطيفاً كان وسيبقى .. وانفجر ضاحكاً .. ورجلاه تداعبان الأرض الموحلة .. تراب بلاده الحنون .. صديقته الطبلة الشاحبة مغمورة بالضوء الساطع تنظر إليه بتوسل ووراءها بحر عميق من الليل .. قذفها في وجهيهما وهو يصرخ مختلطاً بضحكته المدوية ((يا أولاد الزنا)) وشاهد الوميض المتدفق من فوهتين .. لم يشعر بالألم .. محاطاً بالأصدقاء استدار ليطبع قبلة أخيرة على الجدار. ـ هامش: ((يا سعيد هذا شهيدنا الوحيد لهذه الليلة .. إنه أبو محمود المسحر .. انظر هذه بقايا الطبلة الممزقة .. عشرون طلقة مزقت صدره .. رحمه الله .. ضعه في الثلاجة .. الغريب أنني لم أستطع اكتشاف تعبير وجهه .. كأنه كان يبتسم في لحظاته الأخيرة. كأنه .. )). نطلق الطبيب المناوب كلماته بهدوء ثم مشى إلى غرفته ليأخذ قسطاً من النوم.