في الصباح المبكر والطبيب الجراح ما زال في فراشه، خابره خادمه بالهاتف قائلاً: إن هنالك زائراً مستعجلاً يلح على أن حالته خطرة ولا يمكن تأخيره دقيقة واحدة. فسارع الطبيب إلى لبس ثيابه، ثم قرع الجرس مشيراً إلى خادمه بادخال المريض. كان الداخل رجلاً يظهر عليه من أول وهلة انه ينتمي إلى خير الطبقات الاجتماعية. كانت يده اليمنى معلقة في رباط عنقه. ووجهه الشاحب وتصرفاته العصبية تنم عن عذاب جسمي يقاسيه. ومع انه كان يسيطر على قسمات وجهه كانت آهة من الألم تنطلق من بين شفتيه بين حين وآخر. ـ تفضل اجلس، ماذا أستطيع أن أفعل من أجلك؟ ـ لم أذق النوم أسبوعاً كاملاً. إن يدي اليمنى ليست على ما يرام، ولا أعرف ما الذي أصابها. قد يكون سرطاناً، أو مرضاً آخر رهيباً. لم تزعجني في البداية ولكن حالتها مؤخراً ساءت كثيراً وأصبحت وكأنها تحترق. إنها تؤلمني ألماً يشتد ساعة بعد ساعة حتى بلغ حداً لا يطاق. ولهذا أتيت لاستشارتك. إذا تحملته ساعة أخرى فإني صائر إلى الجنون لا محالة. إني أطلب منك أن تحرق موضع الألم، أو أن تقطعه. افعل أي شيء ترتأيه. فطمأنه الجراح بأنه قد لا يحتاج إلى عملية جراحية. غير أن الزائر ألح: ((لا، لا. يجب أن تجري عملية جراحية لأنني أتيت خصيصاً لقطع الموضع الممروض، ولن يسعفني شيء آخر)). ثم سحب يده من الرباط بمشقة زائدة وتابع: ((أرجوك لا تندهش إذا لم تر على يدي أثر جرح ظاهر. إن قضيتي غير عادية أبداً)). فأكد له الطبيب انه ليس من الذين يدهشون في الأحوال غير الاعتيادية ولكن بعد أن فحص يده جيداً، أسقطها باستغراب كبير. لم يرَ فيها أي شيء بتاتاً، ولم يكن لونها متغيراً. لقد كانت كأي يد عادية أخرى. ولكن، مع كل هذا، كان من الظاهر أن الرجل يقاسي ألماً هائلاً، والطريقة التي أمسك بها يده اليمنى بيده اليسرى عندما أسقطها الطبيب كانت برهاناً على هذه الحقيقة. قال الطبيب: ((أين يؤلمك؟)). فأشار المريض إلى بقعة مستديرة بين العرقين الكبيرين، ولكنه خطف يده بسرعة عندما لمس الطبيب موضعها بحذر بطرف اصبعه. ـ هل هنا موضع ألمك؟ ـ نعم. إنه ألم شديد. ـ هل تشعر بالضغط عندما أضع اصبعي عليها؟ فلم يستطع الرجل الكلام، ولكن الدموع التي اغرورقت بها عيناه أفصحت عن الجواب. فأخذ الطبيب مجهراً وفحصها مرة أخرى بعناية فائقة، ثم قاس حرارته، وفي النهاية هز رأسه وقال: ((إن الجلد في حالة صحية تامة. والعروق طبيعية ولا التهاب هناك ولا انتفاخ. إن يدك طبيعية كأية يد متعافية)). ـ أظن أن موضع الألم أكثر احمراراً قليلاً. ـ أين؟ فرسم المريض دائرة على ظهر يده في حجم الفلس وقال: ((هنا)). فنظر الطبيب إلى الرجل وجعل يتساءل لعل مريضه ذاك معتوه. ثم قال له: ((عليك أن تمكث في المدينة وسأحاول أن أفعل شيئاً لمساعدتك في الأيام القليلة القادمة)). ـ لا أستطيع الانتظار لحظة واحدة. ولا تفكر يا حضرة الطبيب بأني مختل أو أسير وهم من الأوهام. إن هذا الجرح الخفي يؤلمني بشدة، وإني أطلب منك أن تقطع هذا الموضع المستدير عميقاً حتى العظم. ـ لن أفعل ذلك يا سيدي، لأنني لا أرى عطباً في يدك. ـ فقال المريض: ((يظهر أنك تظنني من المجاذيب، أو إنني أخدعك … ثم أخرج من محفظته مبلغاً ضخماً من المال ووضعه على المكتبة، وتابع كلامه: ((هل أنت ترى أن قضيتي خطيرة، حتى إنني أدفع راضياً مبلغ ألف من الدراهم لإجراء العملية. أرجوك أن تقوم بها … )). ـ لو دفعت لي جميع أموال الدنيا لن أمس عضواً صحيحاً بمبضعي، لأن ذلك مخالف لمبادئ المهنة. فسوف يدعوك الناس أحمق، ويتهمونني بأنني غررت بك واستفدت من ضعفك، أو سيفضحونني بأنني لم أستطع تشخيص جرح لا وجود له)). ـ حسناً يا سيدي. أرجو أن تسدي لي معروفاً غير هذا. أنا سأقوم بإجراء العملية بنفسي، مع أن يدي اليسرى أضعف من أن تقوم بعمل كهذا. فكل ما أطلبه منك هو أن تعتني بالجرح بعد أن أقوم بالعملية. فرأى الطبيب والدهشة تمتلكه أن الرجل كان جاداً فيما قاله. إذ رآه ينزع معطفه ويرفع أكمام قميصه، وبعد هذا أخرج سكينه الصغيرة من جيبه، وقبل أن يستطيع الطبيب الاعتراض أحدث جرحاً عميقاً في يده. فصاح الطبيب: ((قف! إن كنت ترى أن العملية ضرورية فأسجريها أنا)). ثم أمسك بيده وأشار عليه بأن يدير وجهه جانباً لأن المرء عادة يفزع من رؤية دمه. فقال الزائر: ((كلا يا سيدي. يتحتم علي أن أقود يدك في إجراء العملية لكي تعرف أين وكيف تبضع اللحم)). تحمل الرجل العملية بشجاعة نادرة، فلم ترتعش يده قط. ولما قطعت البقعة المستديرة من على ظهر يده تنهد بارتياح وشعر بالفرج كأنما أزيح حمل ثقيل عن كاهله. قال الطبيب: ((ألا تشعر بأي ألم الآن؟)). فابتسم الزائر وقال: ((مطلقاً، كأنما قد اجتثت من الجذور، وما الوجع الطفيف الذي سببه التبضيع إلا كنسمة هواء باردة بعد نار محرقة. دع الدم يسيل. إنه يريحني)). وبعد أن ضمد الطبيب الجرح لاح على الرجل أنه قانع وسعيد. لقد أصبح رجلاً آخر. فضغط بيسراه على يد الطبيب بامتنان وقال له: ((إني في الحق مدين لك بشرك عظيم)). زار الطبيب مريضه في فندقه لعدة أيام بعد إجراء العملية. فعرف كيف يحترم هذا الرجل الذي يشغل منصباً هاماً في الأرياف. وهو ذو ثقافة عالية، وينتمي إلى عائلة من أبرز العائلات هناك. وبعد أن شفي الجرح تماماً رجع الرجل إلى بلدته في الريف. ولكن بعد ثلاثة أسابيع ظهر ثانية في عيادة الطبيب ويده معلقة في الرباط حول عنقه، يشكو نفس الألم في تلك البقعة نفسها التي أجريت عليها العملية. وكان وجهه شاحباً كالشمع، والعرق البارد يلتمع على جبينه. فجلس، ودون أن ينطق بكلمة واحدة مد يده اليمنى إلى الطبيب ليفحصها. قال له وهو يئن: ((إنك لم تتعمق في تبضيع البقعة، ولذلك عاد الألم ثانية، لا بل عاد أسوأ بكثير مما كان. إنني هالك لا محالة. لم أشأ في البداية أن أزعجك مرة أخرى فتحملت الألم بصبر، ولكنني لم أعد أطيقه أبداً يجب أن تجري العملية ثانية)). ففحص الطبيب مكان البقعة فوجد أنها قد اكتست بجلد ناعم جديد وتعافت تماماً. ومع أن النبض كان عادياً ولم تكن هناك أية حمى، كان الرجل يرتجف في كل عضو من أعضائه. قال الطبيب: ((غريب، إني لم أسمع بشيء كهذا من قبل)). لم يكن بد من إجراء العملية ثانية، فقام بها الطبيب وانتهت كالمرة السابقة، فتوقف الألم حالاً، وشعر المريض بالفرج. غير أنه لم يبتسم هذه المرة. شكر الطبيب وهو في حالة من أشد حالات البؤس والتعاسة، وعندما استأذن بالانصراف قال: ((أرجو أن لا تستغرب إذا ما عدت إليك ثانية خلال شهر)). ـ يجب ألا تفكر فيها. ـ أنا متأكد من إنني راجع إليك، إلى اللقاء. بحيث الطبيب في هذه الحالة مع عدد من زملائه، فأبدى كل منهم رأياً مخالفاً للآخر، ولكن لم يستطع أحد منهم أن يقدم إيضاحاً مقنعاً. مر شهر ولم يهر المريض. وبعد انصرام أسابيع أخرى، لم يأت المريض، بل أتت منه رسالة. ففتحها الطبيب فرحاً وهو يظن أن مريضه قد شفي. وراح يقرأ: ((سيدي الطبيب: أنا لا أريد أن أتركك في شك من أمر شقائي ومنشئه. وكذلك لا يهمني أن أحمل سره معي إلى قبري. أنا في أشد الشوق إلى اطلاعك على تاريخ مرضي الهائل. لقد عاد علي ثلاث مرات في هذه الفترة، ولا أريد أن أقاومه بعد الآن. وها أنا أكتب إليك الآن بيدي اليمنى، ولكن بعد أن وضعت على مكان البقعة جمرة نار كترياق مسكن للنار الجهنمية التي تحترق فيها. قبل أشهر ستة كنت أسعد رجل في الدنيا. كنت ثرياً وقانعاً، أجد لذة في كل ما ينجذب إليه رجل في الخامسة والثلاثين من عمره. تزوجت قبل سنة بعد حب جارف، وكانت زوجتي فتاة لطيفة مثقفة وفي غاية الجمال، وكانت صديقة لكونتسه لا يبعد قصرها كثيراً عن أملاكي. كانت تحبني فمرت علي ستة أشهر وأنا أهنأ ما يكون انسان، وكل يوم يأتيني بسعادة أعظم من سابقه. كانت تسير مسافة أميال على الطريق لملاقاتي كلما اضطررت للنزول إلى المدينة. وما كانت لتمكث أكثر من بضع ساعات عند مربيتها التي كانت تتردد عليها أحياناً. ولم تراقص أي رجل سواي. بل إن مجرد ظهور أحد غيري في أحلامها كان عندها جريمة لا تغتفر! وبالاختصار، كانت طفلة جميلة بريئة. غير أ،ني لا أدري ما الذي ساقني إلى الاعتقاد بأن هذا إنما هو تظاهر منها. لقد بلغ الانسان في الحماقة ما يجعله يسعى مفتشاً عن الشقاء وهو في أوج سعادته. كانت لديها آلة خياطة صغيرة وتحتفظ بدرجها مغلقاً دائماً، فأخذ هذا يعذبني. وقد لاحظت مراراً أنها لا تترك المفتاح على الدرج، وأنها لا تتركه مفتوحاً أبداً. فما هو هذا الشيء الذي تخبئه عني بهذا الحرص الشديد؟ أخذت الغيرة تنهشني. لم اصدق عينيها البريئتين ولا قبلاتها. ألا يجوز أن يكون كل ذلك خداعاً ومكراً؟ وفي يوم من الأيام أتت صديقتها الكونتسه، وأغرتها بالذهاب معها لتقضي ذلك اليوم في قصرها، ووعدتها بأني سألحق بهما بعد الظهر. وما كادت العربة تتحرك من فناء الدار حتى ابتدأت في معالجة فتح ذلك الدرج، وإذا بأحد المفاتيح التي جربتها يفتحه في النهاية. وبعد أن بعثرت عدة أشياء نسوية من محفظة حريرية وجدت رزمة من الرسائل، يستطيع المرء إدراك ماهيتها من أول نظرة. كانت بالطبع رسائل غرامية مربوطة بشريط قرنفلي. لم أقف لأتروى بأنه ليس من الشرف أن أفتش عن أسرار زوجتي أيام صباها! ولكن الدافع الذي حثني على الاستمرار هو أنها ربما كتبت تلك الرسائل بعد أن حملت اسمي … فككت الشريط وقرأتها بأكملها، الواحدة تلو الأخرى. كانت تلك الساعة أرهب ساعة في حياتي. لقد كشفت الرسائل عن أعظم خيانة اقترفها انسان ضد انسان! كان كاتبها أعز صديق لدي … أما لهجتها … فقد كشفت عن إلفة حميمة عميقة، وعبرت عن أرق المشاعر والعواطف. كم كان يحثها على التكتم، ويتهكم على الأزواج المغفلين! ثم يشير عليها بماذا تفعل لكي تخدع زوجها وتتركه في غفلته! لقد كتبت الرسائل كلها بعد زواجنا، وكنت أظن بأنني سعيد! لا أريد أن أصف مشاعري. لقد شربت السم حتى آخر قطرة. طويت الرسائل وارجعتها إلى مخبئها ثانية، ثم أغلقت الدرج. كنت أعلم أنني إذا لم أذهب إلى القصر سترجع في المساء. وهذا ما حصل بالفعل. قفزت من العربة بجذل وخفت للقائي في الرواق وهي تقبلني وتحتضنني بمنتهى الرقة، فتظاهرت كأنما لم يحدث أي شيء. تحدثنا وتعشينا معاً، ثم ذهبنا إلى الفراش كالعادة، كل إلى غرفته. وكنت في أثناء ذلك قد وطدت العزم على ارتكاب عمل سأنفذه بعناد الرجل المجنون. وعندما دخلت مخدعها في منتصف الليل ورأيت وجهها الجميل البريء قلت لنفسي: يا لخداع الطبيعة عندما تمنح الاثم لوجه صبوح كهذا! كان السم قد فعل فعله في نفسي وتغلغل في كل عرق من عروق. فوضعت يدي اليمنى بكل هدوء على عنقها وضغطته بجميع ما أوتيت من قوة. ففتحت عينيها للحظة. ونظرت إلي مصعوقة، ثم أغمضتهما وماتت. لم تأت بأية حركة مقاومة، بل ماتت وهي أهدأ ما تكون وكأنها في حلم. أظن أنها لم تحمل لي أية ضغينة في قلبها، ولو أنني قتلتها. نقطة دم واحدة طرت من بين شفتيها وسقطت على يدي. إنك تعرف مكانها. غير إنني لم ألاحظ تلك القطرة إلا في الصباح بعد أن كانت قد جفت تماماً. دفناها بدون أية جلبة، لأنني كنت أعيش في الريف في أملاكي الخاصة، ولم تكن هناك سلطات تتدخل وتتحرى ومع كل ذلك، لم يشتبه أحد في الأمر لأن المرأة زوجتي، وليس لها أقرباء، فلم يكن هناك أي سؤال أو جواب. ولقد تعمدت أن أعلن خبر موتها بعد الجنازة لكي أتلخص من الحاح الناس وفضولهم. لم أشعر بأي وخز في الضمير. لقد كنت قاسياً، ولكنها كانت تستحق هذا الجزاء. لم أبغضها بل كنت أستطيع أن أنساها بكل سهولة. ليس هناك مَن اقترف جريمة قتل بلا مبالاة أكثر مني. ولما رجعت إلى البيت كانت الكونتيسة قد وصلت في الوقت نفسه. لقد أتت متأخرة فلم تلحق الجنازة، لأنني كنت قد رتبت هذا عن عمد وقصد، كانت متوترة الأعصاب، ومضطربة أشد الاضطراب. لقد كاد الهلع وصدمة الخبر أن يفقداها رشدها. فكانت تتكلم بصورة غريبة فلم أدرك ما الذي تعنيه عندما حاولت تعزيني. بل إنني لم أصغ إليها بانتباه، لأنني لم أكن في حاجة إلى تعزية، ثم أمسكت بيدي بين راحتيها، وقالت إنها ترعب في أن تفضي إلى بسر، راجية ألا أحاول استغلاله في المستقبل. ((قالت إنها كانت قد أودعت رزمة من الرسائل عند زوجتي المرحومة، وأنها لم تستطع أن تحتفظ بها في بيتها لطابعها الخاص، ولذلك رجتني أن أعيدها إليها. وعندما سمعت منها هذا شعرت بقشعريرة تسري في سلسلة ظهري. وبهدوء مصطنع سألتها ماذا تحتوي هذه الرسائل؟ فارتعدت لهذا السؤال وقالت: ـ كانت زوجتك أخلص وأشرف امرأة صادفتها في حياتي. إنها لم تسألني عن فحواها بل أقسمت بأنها لن تنظر فيها. 1 ـ أين كانت تحتفظ برسائلك؟ ـ قالت إنها تحتفظ بها في درج آلة الخياطة المغلق بالقفل وهي مربوطة بشريطة قرنفي. ستعرفها للتو من شكلها، ثلاثون رسالة بالتمام. أخذتها للغرفة حيث كانت آلة الخياطة موضوعة وفتحت الدرج، وأخذت رزمة الرسائل وناولتها إياها. ـ هل هذه هي الرسائل؟ فمدت إليها يدها بلهفة. فلم أجرؤ على رفع عيني إليها لئلا تقرأ فيهما شيئاً. قم تركت الغرفة. وبعد دفن زوجتي بأسبوع واحد حل ألم بالغ في تلك البقعة على يدي حيث سقطت نقطة الدم في تلك الليلة المخيفة. أما ما حدث بعد ذلك فأنت تعرفه. إني أعلم تماماً أن هذا ليس إلا إيحاء ذاتياً، ولكنني لا أستطيع أن أتخلص منه، إنه القصاص على تهوري وقسوتي اللذين دفعاني إلى قتل زوجتي الجميلة البريئة، لن أحاول مقاومة الألم بعد الآن. إني سأنضم إليها عما قريب، وسأحاول أن أنال غفرانها. لا شك أنها ستغفر لي، وستحبني كما كانت تحبني وهي على قيد الحياة. إني أشكر لك، أيها الطبيب، كل ما فعلته من أجلي)).