طيف

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : اسامة انور عكاشة | المصدر : www.balagh.com

قبل انتصاف الليلة بقليل طرق الباب..
نظر الى ساعة يده ثم الى الباب وهو يرهف السمع.. وحين مرت الثواني الأولى دون ان تتكرر الطرقات أدرك أنه توهم ماسمع.. وعاد الى التليفزيون يتابع البرنامج.. كانت هناك فقرة ضاحكة انتزعت منه ابتسامة.. وقبل ان تتحول الى ضحكة سمع الطرق مرة أخرى..
.. في هذه المرة لايمكن ان يكون الصوت وهماً.. تحرك ناهضا وهو يحس بالدهشة: الباب له جرس كهربائي.. فما الذي دفع الطارق الى استخدام المقبض النحاسي؟.. غمغم لنفسه :ربما تعطل الجرس..
فتح الباب ووجده أمامه...
رجل نحيل.. هضيم الوجه.. دب الشيب في الشعرات القليلة المتبقية في رأسه.. يرتدي اسمالاً ثقيلة تتنافر في فظاظة مع طقس الليل الحار..! حدق فيه مليا.. الملامح ليست غريبة.. ولكنه في نفس الوقت لايعرف من صاحبها..
- نعم ؟..
- ألا تعرفني؟..
- لم يسبق لي شرف التعرف اليك !ولعلك أخطأت طريقك الى شخص آخر..
- ولكني أعرفك.. وأنت من أقصده!.. ولايمكن لصداقة طويلة كصداقتنا أن تنسى بهذه السهولة..
انتابه شعور حذر وداخلته الهواجس.. ربما كانت وسيلة مبتكرة للاحتيال.. وبسرعة أغلق الباب وهو يهتف في حدة: آسف!..
توقف مكانه وراح يصغي بانتباه ... لم يسمع حركة أقدام.. فلجأ الى العين السحرية بالباب وراح ينظر من خلالها .. وأزعجه أنه لم يجد أحداً هناك..
في حذر شديد فتح الباب وأطل برأسه ..لم يكن هناك أي أثر للطارق..
لايمكن أن يكون قد مضى بهذه السرعة!..
عاوده مرة أخرى تصور أن الوهم يخدعه.. (قال له طبيبه أن أحلام اليقظة تتجسد أحياناً.. ولكنه لم يصدقه)..
اتجه الى الحمام وغمر رأسه بالمياه الباردة.. وراح يجففها بالمنشفة عائداً الى الشرفة ووقف بجوار السور يستنشق الهواء بقوة ..ولكنه تجمد مكانه حين نظر الىالرصيف المقابل في الشارع.. كان الرجل النحيل هناك يقف في مواجهته محملقا في شرفته.
غمره العرق البارد.. ثم انسحب الخوف ليحل محله غضب شديد حين رآه يشير له بابتسامة مخبولة أن يأذن له بالصعود..
بادله على الفور إشارة الموافقة وقد قرر أن يؤدبه.. سأضربه! أجل..لابد أن أعلمه كيف يسلك الانسان المتحضر..
أسرع الى الباب ووقف ينتظر الطرقات..
لم تمض ثوان.. حتى سمعها.. فتح الباب بسرعة.. ثم تسمر وهو يشهق.. كان صديقه العتيد ذو الجسم البدين.. والشعر الكثيف يتدلى على جبينه.. يهدر وهو يدخل في ألفة:
- ماذا بك الليلة.. تريد أن تلعب أو أنك تعاني من مرض ما؟
- ليس بي أي شيء..
- إذاً فكيف تغلق بابك في وجهي حين فتحت لي في المرة السابقة؟
- هتف محتجا وكأنه يصرخ: لم تكن أنت؟
- ضحك الصديق وهو يعلق ساخراً: لعله طيفي إذاً!
- غمغم وهو يمضي في إثره الى الشرفة وفرائصه ترتعد:..
- أجل .. ربما كان طيفك.
كلمات من دفتر قديم:
وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم يستطع الأوائل
أبو العلاء المعري