سئل من السيد ----- ـ مندوب مجلة التحرير ـ قال : هل يجوز تفسير القرآن بالرأى أو لا ـ وهل يجوز أن يفسر القرآن تفسيرا يتطور بتطور الزمن ؟
القرآن كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لهداية الناس وبيان الأحكام التي تعبد الله الناس بها وكلفهم بأتباعها والقرآن وحى متلو سمعه الرسول من الوحى وحفظه بألفاظه وعباراته ووعاه وأبلغه كما سمعه إلى أصحابه ودعاهم إلى حفظه وتفهم معانيه والعمل به ، فحفظوه وفهموا معانيه وعملوا بأحكامه ، ونقل إلينا بطريق التواتر وثبت على وجه القطع ورووه عن الله سبحانه وتعالى وصدق ما وعد الله به رسوله ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) . ولذلك كان القرآن الدليل الأول المثبت للحكم ويليه السنة وهى ما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو عمل أو تقرير ، وهى من ناحية الورود عن الرسول قسمان : قطعي وهو السنة المتواترة . وظني وهو السنه غير المتواترة . ولا خلاف بين العلماء في وجوب العمل بالمتواتر من السنة ـ أما غير المتواتر منها فيجب العمل بما توفرت فيه شروط الصحة التي بينها علماء الحديث . والسنة وإن كانت الدليل التالي للقرآن إلا أنه لا يتسنى لمن يريد التفقه في دينه وفهم ألفاظ القرآن ومعانيه أن يصل إلى غرضه من غير أن يرجع إليها ـ فإذا بينت السنة الصحيحة مجملا ورد في القرآن وجب العمل بها ، وكانت هذه السنة مفسرة للمراد من المجمل، ولعل أوضح الأمثلة على ذلك أن الله أمر المسلمين بإقامة الصلاة في كثير من آيات القرآن، وقد بين الرسول المراد من الصلاة التي فرضت إقامتها وكان بيانها بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه الذي شاهده الصحابة وبأمرهم أن يفعلوا فعله ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( صلوا كما رأيتموني أصلى ) فلا يجوز لمسلم أن يبين هذا المجمل على نحو يخالف ما ثبت عن الرسول وفيما عدا ذلك فإنه ينبغى لمن يفسر القرآن أن تتوفر فيه شروط معينة تتلخص فيما يلي : ـ 1- أن يكون ملماً باللغة العربية إلماما واسعا كبيرا عالما بأحوال البشر وما كان عليه العرب قبل نزول القرآن ووقت نزوله . 2- أن يقف على كل ما نقل عن الرسول في بيان القرآن . 3- أن يعرف ما فهمه الصحابة لأنهم أقرب الناس إلى الرسول وأقرب الناس إلى فهم ألفاظ القرآن ومعانيه . 4- أن يعرف أسباب النزول فإن معرفة وقت النزول وسببه يعين على الفهم الصحيح للقرآن . 5- أن يستظهر السماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة والمبدلة وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير . ولذلك فإن من يبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية يكثر غلطه ويدخل في زمرة من يفسر بالرأي والهوى . فمثلا قال الله تعالى ( وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها ) فإن معناها وآتينا ثمود الناقة آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها . والناظر إلى ظاهر الآية يظن أن المراد منها أن الناقة كانت مبصرة إلخ ولم تكن عمياء ولا يدرى بماذا ظلموا ولا أنهم ظلموا غيرهم أو ظلموا أنفسهم وهكذا مما لا سبيل إلى حصره والإحاطة به في عجالة كهذه . وإذا توفرت هذه الشروط وغيرها من الشروط التي ذكرها العلماء فإنه لا يمتنع التفسير ولا يشترط السماع في التأويل ، فيجوز لكل واحد أن يستنبط من القرآن بقدر فهمه ، وهو منهي عن أن يكون له في الشيء رأى يميل إليه طبعه وهواه ، فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه ليحتج به على تصحيح غرضه ، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لما فهم من القرآن هذا المعنى كمن يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعة وهو يعلم أنه لا يراد بالآية ذلك ، وكمن يكون جاهلا والآية محتملة عدة معان فيفسرها برأيه ويكون رأيه هو الذي يحمله على ذلك التفسير ولولا رأيه ما ترجح عنده ذلك الفهم ، وأحيانا يكون له غرض صحيح ويطلب دليله من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنه ما أريد به ـ ولذلك نرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) وأثبت لأهل العلم استنباطهم وفهمهم فقال تعالى ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) . وخلاصة ما تقدم أن تفسير القرآن وفهم معانيه مباح لكل مسلم توفرت فيه دراية اللغة العربية وفهم أسرارها وأساليبها ودراسة علوم القرآن والسنة النبوية وفهم أسباب النزول وغير ذلك من الشروط ، وهو بعد هذا مأمور بأن لا يفسره بالهوى ، ولا يوجد ما يمنعه فيما وراء ذلك من تفسير القرآن غير معتمد على السماع والنقل فيما لم يرد فيه نقل أو سماع تفسيرا يظهر مقدار فضل القرآن وشرفه ـ أما إغفال ما قاله العلماء وعدم النظر إليه والاستقلال بفهم القرآن لمجرد فهم اللغة العربية فقد بينا أنه يوقع صاحبه في الغلط وهو غير جائز ـ كذلك القول بأن القرآن يتطور بتطور أحوال الناس وأنه يجب أن يفهم الآن فهما قد يخالف ما فهمه الرسول وأصحابه ـ إن أريد به إبطال ما ذهب إليه الرسول وصحابته فهو قول مردود حتما ـ وإن أريد به بيان أن ما جاء في القرآن يتفق مع أحوال البشر وحاجاتهم في العصر الحاضر مما لم يسبق لغيره من المفسرين أن يبينوه فإنه لا يكون مذموما ولا يوجد ما يمنع منه ـ هذه عجالة قصيرة موجزة ـ وقد أفاض في هذا الموضوع إفاضة شاملة الإمام السيوطي في الإتقان والإمام محمد عبده في تفسيره القرآن الحكيم ـ والإمام الغزالي في الإحياء ـ وشيخ المفسرين القرطبي في تفسيره جامع الأحكامة . فمن أراد الإطلاع والمزيد فليرجع إليها . والله سبحانه وتعالى أعلم .