إن معظم المراهقين وخاصة في المرحلة المتأخرة، يكونون في حالة أزمة، أو اضطراب وخلط فيما يتعلق بتحديد هويتهم وقد أطلق على هذه الحالة لفظ " أزمة الذاتية " ويعكس هذا المفهوم الأدوار والتوقعات المصاحبة لها، التي يتوقع الفرد أن يتوقع بها في المستقبل وإلى جانب هذا وذاك لا يستبعد العوامل الثقافية سواء منها ما يتصل بالقيم السائدة لهذه الجماعات المرجعية أم القيم السائدة في المجتمع ككل .
والواقع أن التحليل السيكولوجي الذي وضعنا بعض أسسه فيما سبق يؤدي بنا إلى تصور ثلاثة أنواع من العوامل التي قد يكون لها دخل في حدوث هذه الأزمة عوامل تتصل بالتكوين الماضي لشخصية الفرد، وعوامل تتصل بنظرة الفرد إلى المستقبل : طموحاته وآماله وأهدافه وتصوراته لما يتوقعه منه المجتمع وخاصة الجماعة المرجعية، وعوامل تتصل بالحاضر : القيم والمعايير والأوضاع السائدة في الثقافة التي يعيش فيها، ولدى الجماعات التي ينتمي إليها .
ذلك أن تحديد الهوية ليس مجرد عملية تصنيف في أنماط جاهزة، أو سابقة التحديد يختار منها الفرد ما يعجبه كما أنها ليست عملية نمو نمطية تجيء بشكل آلي في مراحل معينة ثابتة، وإنما هي عملية ديناميكية تتوقف نتيجتها على شكل ومراحل التفاعل الذي تتدخل فيه العوامل المعقدة السابق الإشارة إليها كما تتوقف أيضا على نوع هذه العوامل ذاته .
فالفرد الذي يدخل مرحلة المراهقة إنما يدخل هذه المرحلة بعد أن يكون قد مر بعملية تنشئة اجتماعية تقليدية في الغالب وقد سبق أن تحدثنا عن الآثار التي يمكن أن تتركها تلك العملية قبل أن يكون الفرد قد وصل إلى هذه المرحلة الحرجة .
تلك الآثار التي يحملها الفرد معه من المراحل السابقة، تسهم بشكل واضح في الأزمة التي يمر بها فيما يتعلق بتحديد الذاتية ولقد لخصنا الآثار المترتبة على عملية التنشئة الاجتماعية هذه في سلسلة من الأزمات المرحلية التي تميز كل منها مرحلة معينة من مراحل النمو السابقة والآن نبين كيف تنعكس تلك الأزمات في أزمة الهوية عند المراهق.
فحاجة الطفل إلى من يثق به من الكبار المحيطين، مما قد ينشأ نتيجة للأسلوب التقليدي للتنشئة في سني المهد قد تعكس نفسها في صورة البحث عن الناس والأفكار التي تستحق أن يوثق بها من قبل المراهق والجهود التي يقوم بها الطفل في مرحلة ما قبل المدرسة من أجل تحقيق التلقائية وتجنب القيود الشديدة المفروضة عليه يمكن أن نراها في الثورة على السلطة وعدم القدرة على اتخاذ قرار والشعور بالذنب من جانب المراهق . والرغبة التي لم تتحقق في الإنجاز عند طفل المدرسة الابتدائية قد تعكس نفسها في قلق المراهق وتردده في اختيار الطريق المهني الذي يحقق له أهدافه .
باختصار إذن نستطيع أن نتبين العوالم الذاتية في أزمة الهوية فيما يعيش في المراهق من صراع بين الدافع إلى تحقيق صورة مقبولة للذات تحمل آماله وأهدافه وتصوراته لما هو متوقع منه، وبين جانب مستقر ثابت يتضمن معاني القصور والعجز والشعور بالذنب وعدم الثقة مما اكتسبه المراهق كلية خلال عملية تنشئة اجتماعية تقليدية طوال حياته الماضية على أن ذلك الصراع وحده لا يحكي لنا قصة أزمة الذاتية بأكملها . ذلك أن المراهق قد يصطدم في سبيله إلى تحديد صورة مقبولة للذات بعوامل أخرى خلاف المحددات الذاتية .
تلك هي العوامل الثقافية التي يعيش فيها حاضرا : القيم والأوضاع والمعايير التي تسود الثقافة التي يعيش فيها، وعلى الأخص الجماعات المرجعية .
إن الثقافة التي يعيش فيها المراهق العربي الآن ليست نظاما منطقيا مخططا على أساس تجريبي سليم بل هي على العكس عبارة عن تراث تاريخي ينطوي على الكثير من التناقض والمتناقضات فبعض عناصر الثقافة الحالية يرجع إلى آلاف خلت من السنين، ويمثل تاريخا طويلا من الصراع والخلط، وإلى جانب ذلك توجد زيادات وإضافات حديثة لم تمتص بعد امتصاصا كاملا في الثقافة عينها، إن الأمر جميعه يشكل في الواقع ما يمكن أن نسميه " بالخلط " أو البلبلة " الثقافية .
فهناك أولا التناقض بين القديم المحافظ والحديث المتحرر، لقد أصبحت الجماهير العربية العريضة الآن على الحضارة الغربية عن طريقة وسائل الإعلام وغيرها من وسائل المواصلات والاتصال وبعد أن كانت القلة فقط هي التي تتعرف على ذلك العالم وتتقبله من خلال كتابات لا يقرؤها إلا صفوة قليلة من المثقفين أصبحت الحضارة الغربية الآن في كل بيت عن طريق الإذاعة والتلفزة والسينما والجرائد والمجلات وغيرها من وسائل الإعلام المختلفة بل لم تعد المسافات ولا الإمكانيات المادية حائلا دون زيارة الكثير من الشباب للبلاد الغربية والاتصال المباشر بحضارتها خاصة بعد أن قربت وسائل المواصلات الحديثة، والرحلات ذات التكاليف المنخفضة المسافات بين هذه البلاد والبلاد العربية، كل ذلك قد زاد بالطبع من التناقض والحيرة بل والصراع بين المحافظة والتحديث بين القديم والجديد بين الأصيل والمستورد، ولا شك في هذا التناقض وهذا الصراع ما يجعل الشاب أو المراهق العربي قلقا حائرا : أي شيء يختار وأي شيء يترك، أي مظهر يرضاه لنفسه ويرضاه له المجتمع، وأي مظهر يرفضه وترفضه جماعته بل أن التناقض بين الثقافة الفرعية للريف أو للبدو، في مقابل الثقافة الفرعية للمدينة أو للحضر ولقد كثر الكلام أخيرا عن " أخلاق القرية " و" أخلاق المدينة "، وقامت المساجلات على أعلى المستويات القيادية والفكرية في هذا الشأن وإذا كان أخلاق الحاد قد قام بين القياديين أنفسهم على أي القيم يجب أن نتبنى وأي القيم يجب أن تؤكد فما بالنا بالجيل الذي يبحث عن الاستقرار وعن الإجابة على هذه الأمور هذا إذا افترضنا أن هناك وضوحا أصلا فيما يختلف فيه الكبار .
ليس هذا فقط بل إن الكثير من الآباء والمعلمين الذين يقومون على تنفيذ الأهداف المرسومة في التربية من يعاني هو نفسه إنحلالا وضعفا واضطرابا في شخصيته وسلوكه الاجتماعي وأحيانا بل غالبا ما يكون الأب أو المعلم هو نفسه خجولا أو أنانيا أو عصبيا أو كسولا أو اتكلا . . الخ مما يجعل التعاليم التربوية المعلنة في ناحية والقدوة أو النموذج الاجتماعي في ناحية أخرى .
ولا يقتصر التناقض بين المعلن والممارس على المجال التربوي وحده بل إنه شائع أيضا في الثقافة بوجه عام فكثيرا ما تنعدم القدوة السلوكية في المجتمع الخارجي في الوقت الذي ترتفع فيه الشعارات اللفظية . فقد يرفع شعار الديمقراطية وتكافؤ الفرص مثلا في حين يكون الممارس هو التسلط والمحسوبية وقد يرفع شعار العلم والإيمان في حين يكون الممارس هو النزوات الفردية الذاتية والتظاهر بالورع وقد تؤكد الشعارات قيمة العمل والإنتاج والكفاءة في حين يرى المراهق أمامه العديد من النماذج التي نجحت في تحقيق أهدافها على أساس من الوصولية والتسلق والانتهازية، متخيطة بذلك الأكثر ذكاء والأكثر كفاءة وقد تؤكد قيمة الإنسانية والمصلحة العامة على المستوى اللفظي في حين تكون قيمة المادة والمصالح الذاتية هي التي تسير في الواقع دفة الأمورة وهكذا .
من هذا كله أي من النظم الفاسدة في التربية والتنشئة الاجتماعية، ومن النماذج القيادية المنحرفة ومن التناقض السائد بين القيم الاجتماعية في الثقافة التي يعيش فيها المراهقين أو الشباب تتشكل الظروف القاسية التي تجعله ولو لفترة في حيرة من أمره فيما يتصل بهويته الحالة التي يمكن تلخيصها في هذا السؤال : " كيف يحدد اختياراته في وسط هذا الخصم من التناقضات ؟ " .
وسوف نتناول فيما يلي نوعين من المواقف كنماذج يتضح منها بشكل أكثر إجرائية وأكثر تحديدا ما يتعرض له المراهق بالفعل من خلط واضطراب قد يؤدي به في إجماله إلى ما نسميه بأزمة الذاتية