ترددت طويلا ـ ومن خلفي طابور طويل من الصحفيين الشرفاء الذين وهبوا عمرهم كله طواعية واختيارا.. دفاعا عن الحق والعدل والخير والجمال ـ قبل أن أكتب قصة أغرب قضية زواج في تاريخ مصر كلها في ذكراها الـ104 و التي أحدثت زلزالا هائلا في كيان المجتمع المصري.. وأثارت زوبعة أعمت العيون واعتمت النفوس.. وفجرت نهرا ثائرا هادرا من الغضب والحسد والتفاخر والتنابذ بالألقاب والمعايرة بالأنساب علوا وهبوطا وانتفاخا بالأوداج والتقرب والتمسح بالعتبات السلطانية والأعتاب السنية.. بل إنها تجاوزت ذلك كله إلي الإعلان صراحة ودون مواربة ودون خوف: كيف يتطاول مجرد جورنالجي علي الوقوف كتفا بكتف مع الأسياد والأشراف؟ وكيف يجرؤ جورنالجي لا يساوي تعريفة ـ حسب تعبيرهم قبل قرن من الزمان ـ علي الزواج ممن خرجت من بيت حسب وشرف ونسب؟ ** كيف يجرؤ جورنالجي لا نسب له ولا حسب يمتهن مهنة القرداتية والارزقية قبل قرن من الزمان.. علي الانتساب إلي بيوت الأشراف ذات الحسب والنسب الرفيع.. هكذا كانت قضية شيخ الصحفيين الشيخ علي يوسف مع صفية السادات قبل مائة عام ؟ **أقول ترددت طويلا قبل أن أكتب عن أشهر قصة زواج ـ في ذكراها المائة تزيد أربعة ـ أيام أن كان الجورنالجي عار وسبة في جبين المجتمع ـ تصوروا ـ ومهنته تنال كل احتقار وتأفف وتنفف وتعفف وعزوف؟ بل إنها ـ حسب تعبيرهم برضه قبل قرن من الزمان ـ تأتي في الدرك الأسفل مع السوقة والمشخصاتية والمرتزقين! وهانحن بعد أن تبدل الحال وتغير المنوال.. وأصبحت مهنة الصحفي الحر.. مثل مهنة القاضي الذي يري ويحقق ويدقق بوازع من ميثاق الشرف الصحفي الذي أقسم عليه قبل أن يمسك القلم.. إنها أشهر قضية زواج في تاريخ مصر كلها.. وقد هزت هذه القضية المجتمع المصري هزا عنيفا.. وأثارت الرأي العام طويلا, وكانت حديث الناس, والصحافة, والمجالس, والندوات, والمنتديات العامة والخاصة, والأزواج والزوجات, والآباء والأمهات, والكتاب والساسة والأدباء والشعراء وأهل الفكر والعلم والقانون. قبل9 سنوات كتبت عن هذه القضية العجيبة واليوم أعود إليها في ذكراها الـ104.. إنها أشهر قضية زواج في تاريخ مصركلها.. من هو العريس ؟ انه الشيخ علي يوسف الرائد الأول للصحافة المصرية, وأول صحفي مصري صميم يمتلك دارا صحفية, وهو صاحب ورئيس تحرير أقوي جريدة يومية كبري وهي جريدة المؤيد, وهو في الوقت نفسه رئيس حزب الاصلاح علي المباديء الدستورية, أحد أول ثلاثة أحزاب مصرية في تاريخ مصر السياسي, ومعه الزعيم مصطفي كامل رئيس الحزب الوطني وهو بالطبع غير الحزب الوطني الآن, ومحمود باشا سليمان الذي كان يرأس حزب الأمة وهو أيضا غير حزب الأمة الحالي. ومن هي العروس؟ انها الانسة صفية ابنة الشيخ عبدالخالق السادات شيخ الطرق الساداتية, وكان من رجال الدين المعتزين بنسبهم إلي سيدنا الحسين رضي الله عنه. ما هي الحكاية؟ لكي نعرف الحكاية علينا أن نذهب أولا إلي شارع محمد علي. نحن الآن في عام1904. وشارع محمد علي ليس هو شارع محمد علي الآن الذي انقلب به حاله واصبح مثل عجوز الفرح بعد أن هجره أهل الفن والطرب والعوالم, وتخرج من مدارسه الشهيرة معظم الفنانين والفنانات والراقصات قبل ظهور الراديو والتليفزيون, وفي أولي سنوات مولد السينما المصرية. ولكي نصل إلي شارع محمد علي قبل104 أعوام.. علينا أن نركب حنطورا أو فيتونا يجره حصان أو حصانان أو نؤجر مكاريا بحمار او نركب عربة سوارس تجرها الخيل لأن السيارات لم تكن معروفة أيامها.. ولم يكن الترام قد دخل القاهرة بعد! ها نحن ندخل شارع محمد علي ببواكيه القديمة والبيوت ذات المشربيات والبلكونات ومحلات الموسيقي والمقاهي العربية والأفرنجية والمطاعم البلدي والكبابجية, ومطاعم علية القوم التي تقدم طعاما فرنسيا وأعجميا وأفرنجيا.. انه شارع محمد علي موديل.1904 نتوقف امام هذه اللافتة المعلقة بهذه البلكونة: جريدة المؤيد.. لنصعد إلي الدور الثاني ونستأذن ونطرق الباب قبل أن ندخل إلي مكتب الشيخ علي يوسف.. إنه يستقبلنا مرحبا بعد أن قام من جلسته خلف مكتب كبير فهو رئيس تحرير الجريدة وصاحبها ومؤسسها. نتأمله قليلا شيخا يرتدي العمامة والملابس الازهرية, علي وجهه دلائل القوة والعزم, ممتليء نشاطا وصحة وعافية ووجهه يفيض بالبشر. لم يكن معنا مصور صحفي لانها مهنة لم تكمن معروفة ايامها ولم تظهر بعد في شارع الصحافة ولكن التصوير الفوتوغرافي وآلات التصوير كانت معروفة ولكن في بدايتها, وكانت الكاميرات تعمل بالماء, كتلك التي كان يستخدمها المصوراتية علي باب الله في حدائق الازبكية والقناطر الخيرية حتي الستينيات, وكان صعبا بالطبع أن انزع واحدا منهم من أكل عيشه لكي يصور لنا هذه الصورة النادرة مع شيخ الصحفيين وقتها الشيخ علي يوسف! خلف الشيخ علي يوسف معلقة علي الحائط صورة كبيرة داخل برواز ذهبي لم أعرف صاحبها.. اسأل الشيخ علي يوسف: من هو صاحب هذه الصورة؟قال: ألا تعرفه.. إنه الخديوي عباس حلمي الثاني انه اخلص اصدقائي آدام الله ولايته ومتعه بالصحة والعافية. علي الحائط المقابل صورة أخري داخل برواز مذهب ايضا ولكن أصغر كثيرا من الصورة الأولي.. انها للشيخ علي يوسف نفسه ويلبس عمامته البيضاء ويرتدي بزة مرصعة بالنياشين والنجوم. طلب لنا الشيخ علي سويف القهوة المحوجة قبل حتي أن يعرف من نحن؟ قلت له: نحن أحفادك في مهنة الصحافة.. صحفيون في جريدة الاهرام التي تنافس جريدتك المؤيد. وقلت في سري دون صوت: ولكننا سنأتي بعد104 أعوام! قال: أهلا بكم أحفاد وزملاء مهنة المتاعب! {{ ملحوظة: كان الأهرام وقت أشهر قضية زواج التي نتحدث عنها هنا.. شابا فتيا عفيا عمره29 سنة! قلت له: قبل أن تحكي لنا قصة زواجك التي هزت مصر هزا, نريد أن نسمع منك يارائد الصحافة في مصر.. قصة كفاحك حتي وصلت إلي ما أنت فيه الآن؟ قال: أنا انسان عصامي بكل معني الكلمة.. فقد خرجت من قريتي بلصنورة من أعماق مديرية سوهاج في صعيد مصر الجواني.. مقيرا معدما.. وسافرت إلي القاهرة علي ظهر مركب مع التيار والبلاليص.. لكي أتلقي العلم. كان عمري وقتها تسعة عشر عاما.. ولعلمك فقد ولدت يتيما بعد أن مات والدي وأنا طفل رضيع فذهبت بي أمي إلي بلدتها بني عدي في أسيوط حيث عشت طفولتي وصباي.. ودخلت الأزهر الشريف ولكنني لم أكف عن القراءة والاطلاع والكتابة في الصحف والمجلات.. وأغرتني صاحبة الجلالة بأن أدخل في بلاطها.. فعملت في مجلة القاهرة الحرة ثم أصدرت مجلة الآداب التي لاقت رواجا كبيرا.. ففكرت في إصدار صحيفة يومية. قلت: صحيفة يومية حتة واحدة, إنها تكلفك كثيرا! قال: نعم.. كان مطلوبا مني مبلغ كبير جدا لم أكن أحتكم عليه.. مائة جنيه مصري! ملحوظة: مبلغ100 جنيه مصري بأسعار عام1889 وهو العام الذي صدرت فيه جريدة المؤيد يساوي الآن100 ألف جنيه بأسعار هذه الأيام إن لم يكن يزيد! قلت: من أين دبرت هذا المبلغ الكبير؟ قال: لقد أقرضني صديقي الشيخ أحمد ماضي نصف المبلغ.. وصدر العدد الأول الذي هز المجتمع المصري هزا.. ولكن ما لبثت الخمسين جنيها أن تسربت.. وأصبحت مهددا باغلاق الجريدة رغم نجاحها المدوي... حتي أرسل لي الله من أقرضني بقية المبلغ.. ووقف بجانبي يشد أزري.. أسأله: من هو ذلك الرجل ياشيخ الصحفيين؟ قال: سعد زغلول.. قلت: الزعيم سعد زغلول بنفسه؟ قال: نعم لقد كان أيامها محاميا شهيرا قبل أن تعرفه الدنيا زعيما وطنيا عظيما.. أسأله: من يكتب في جريدتك يامولانا؟قال: سعد زغلول ومصطفي كامل الطالب في كلية الحقوق قبل أن يتخرج ويصدر جريدة اللواء, وقاسم أمين ومصطفي لطفي المنفلوطي.. قلت: لقد كتب عباس محمود العقاد يقول عنك إنك من الطبقة الأولي من كتاب الصحافة المصرية بما وهبك الله من ذكاء وحصافة وحسن الاستفادة من معلوماتك.. فما هو اتجاه صحيفتك؟قال بحرارة: أنا مع الحق والحرية والدفاع عن تراب الوطن ضد المعتدي, ولابد أن يترك الانجليز بلادنا وأن تتحرر مصر نهائيا ولابد أولا أن يكون لدينا مجلس نيابي حر هو الجمعية العمومية وأنا عضو فيه... وحرية تكوين الأحزاب الوطنية.. ثم بانفعال أكثر: فنحن الآن نعيش عصر تقسيم العالم إلي غنائم بين انجلترا وفرنسا في الاتفاق الودي... واتفقتا فيه علي أن تطلق انجلترا يدها في مصر.. وفي المقابل تطلق فرنسا يدها في المغرب العربي! ملحوظة: لم يتغير العالم بعد104 أعوام.. فأمريكا أخذت مكانة بريطانيا وفرنسا بوصفها القوة الوحيدة في العالم الآن. تحتل العراق.. تقسم العراق.. تحاصر إيران.. تحتل أفغانستان, تخرب السودان.. لا أحد يقول لها: بم! قلت: ألست الآن رئيسا لحزب الاصلاح علي المبادئ الدستورية؟ قال نعم: قلت: سمعت إنك قريب جدا من الخديو عباس حلمي الثاني.. قال: أجل هو رجل وطني يحب بلده ويدافع عنها ويريدها أن تتحرر ولذلك يكرهه الانجليز ويكرهونني أيضا.. قلت ولم يكرهك الانجليز؟قال: يوه لألف سبب وسبب.. في مقدمتها جميعا أنني أريد منهم أن يرحلوا من بلادنا... وقد وصلت كراهية الانجليز لي إلي حد المطالبة بسجني واتهامي بجنحة مباشرة أمام محكمة عابدين! أسأله: وسجنوك! قال: مكروا ولكن الله أشد الماكرين.. وكانت تهمتي أنني نشرت نص برقية أرسلها اللورد كتشنر من دنقلة في السودان عندما كان يقود الحملة المصرية هناك في شهر يوليو..1896 والبرقية تقول: إن الكوليرا قد تفشت بين رجال الجيش المصري وأنها قد وصلت شمالا حتي جنوب مصر.. وقد أثارت البرقية التي نشرها المؤيد ذعرا كبيرا بين عائلات الجنود المصريين في مصر.. وجن جنون اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر لأن البرقية أفشت أسرار الجيش فضلا عما سببته من ذعر عند أهالي الجنود فأمر باجراء تحقيق لمعرفة من الذي سرب البرقية إلي جريدة المؤيد.. أسأل الشيخ علي يوسف: من هو ياتري؟ قال: رجل مصري حر هو توفيق أفندي كيرولس الموظف بمكتب تلغراف الأزبكية.. وهكذا ذهبت مع هذا الوطني الشريف إلي المحاكمة هو بالتسريب وأنا بالنشر! أسأله: وبماذا حكمت المحكمة؟ قال: حكمت المحكمة بحبس توفيق كيرولس ثلاثة أشهر وبراءتي أنا.. ثم استأنفت النيابة الحكم فقضت ببراءتنا معا.. قلت: عظيم! ................ .............. لقد وصف كاتبنا الكبير أحمد بهاء الدين هذه القضية بقوله: إنها قضية زواج.. لاغير.. ولكنها أقامت مصر وأقعدتها, وقسمت الرأي العام والساسة وأهل الرأي, وعامة الناس, وكانت محل كثير من المناورات السياسية الدقيقة التي دارت من وراء الستار.. ذلك أنها كانت صدمة عنيفة للناس في الكثير من معتقداتهم القديمة عن الشرف والحسب والنسب! ومازلنا مع أشهر قضية زواج في تاريخ المحاكم المصرية. ثم ماذا جري يوم المحاكمة التاريخية ؟