الواقع – إدراكه ومكوناته وكيفية التعامل معه

الناقل : heba | المصدر : www.dar-alifta.org.eg

كثيرًا ما نذكر في كلامنا عبارة «إدراك الواقع» ، فما هو هذا الواقع؟ وما مكوناته؟ وكيف نتعامل معه في جزئياته وكلياته؟ وما القواعد التي يمكن للمسلم بعامة، وللفقيه بخاصة أن يراعيها وأن يستخدمها في هذا الإدراك؟

والجواب : 
    أننا في عصر قد تغيَّر عن العصور السابقة في برنامج حياة الإنسان، وأصبح أكثرَ تعقدًا وسرعة وتطورًا، وقد يكون في بعض جوانبه أكثر تدهورًا، ولابدَّ للمؤمن الفَطِنِ أن يكون مدركًا لشأنه، عالمًا بزمانه.
    وقد وردَ ذلك المعنى في الآثار النبوية؛ فعن وهب بن مُنَبِّهٍ من حكمة آل داود: «على العاقل أن لا يشتغل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربَّه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذين يصدقونه عيوبه وينصحونه في نفسه، وساعة يخلو فيها بين نفسه وبين لذتها مما يحل ويَجْمُلُ، فإنَّ هذه الساعة عون لهذه الساعات، واستجمام للقلوب وفضل وبُلْغَةٌ. وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنًًا إلا في إحدى ثلاث: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم، وعلى العاقل أن يكون: عالمًا بزمانه، ممسكًًًا للسانه، مقبلا على شانه»(1)
    ولنذكر ذلك في نظرة شاملة على الواقع، وعلى سمات العصر، وسنحاول في هذه القضية أن نتناول ذلك الواقع بالاقتراح والتعامل والاستفادة من جوانب الخير، ومحاولة البعد عن الشر، ومحاولة الحفاظ على الهوية في عالم متلاطم الأمواج سمي بـ «عالم ماك» وهو المقطع الأول من كلمات كثيرة شاعت في ثقافة العصر مثل: (ماكدونالد، وماكنتوش، ماكروييف) والتي ترمز للتطور والتغيير في الطعام، والتقنية، والاتصالات.
1- الواقع كما حلله مالك بن نبي يتكون من عوالم أربعة: عالم الأشياء، وعالم الأشخاص، وعالم الأحداث، وعالم الأفكار، ولكل عالم من هذه العوالم مكوناته، ولكل منها أسلوب أمثل للتعامل، ومنهج مختلف للفهم.
2- فعالَمُ الأشياء له واقعٌ مدرَكٌ بالحسِّ المعتاد، وله حقيقةٌ يدركها الإنسان بالمجهر، ويبني عليها أحكامه ومنهجه وهو المنهج التجريبي الذي ارتضاه المسلمون، ثم انتقل إلى العالَم كله دون نكير من العقلاء الذين تحرروا من عقلية الخرافة وتمسكوا بالعلم والواقع، إلا أن بعضهم قد اقتصر عليه، ولم يربطه بالله سبحانه، فصار فكره عميقًا ولكنه ليس مستنيرًا، بل إنه دون أن يشعر أنكر جزءًا من الحقيقة هو أهم ما فيها، وهو إيمانه بخالق الأكوان.
    ويمكن أن نعرِّف الواقع بأنه: ما أدركه الإنسان بحسِّه المعتاد، وهو بهذا المعنى قَدْرٌ مشترك بين آدم والرجل المعاصر. في حين أن نفس الأمر المتعلق بحقائق الأشياء يختلف إدراك الإنسان له عبر الزمان، وحسب كَمِّ المعلومات التي لديه، ويكتشفه الإنسان عن طريق الآلة - المجهر مثلاً - شيئًا فشيئًا، فالبشر ترى الشمس تسير في السماء، في حين أن نفس الأمر أنها ثابتة، والأرض هي التي تدور.
    ونفس الأمر أن الماء مكون من غاز يشتعل، وآخر يساعد على الاشتعال، فهو نار الله الموقدة، وأنَّ الهيدروجين مكون من نواة وإلكترون واحد، وأنَّ شحنة الإلكترون سالبة، والواقع أنه شراب لطيف عليه حياة الإنسان. فكل يوم - وليس بصورة عامة في الزمان والمكان والأشخاص - يدرك الإنسان حقيقة جديدة قد تخالف، أو تزيد من الواقع.
    فإذا كان الأمر كذلك، فإن النصوص الشرعية ينبغي أن تتعلق في خطابها العام للكافة بالواقع بصورة أصلية، ولا تتعلق بنفس الأمر إلا بصورة ثانوية، وأظن أن هذا الفهم يحل «مشكلة العلم والدين»، التي نشأت من صدام النصوص المحرفة للوحي في الغرب مع الحقائق المتتالية المدرَكة بالتجربة والحسِّ، أي: مشكلة «العلم والدين» كما سُميت.
    بل قد يحل هذا المدخل - عند عرضه بتوسع - المشكلة بين الفقهاء، والصوفية الذين يتكلمون عن الحقيقة ومخالفتها للشريعة، ومحاولة التوفيق بينهما، وهو أمر جدير بالتأمل ومزيد البحث.
3- وعالم الأشخاص قد تطور أيضًا، وأصبح هناك الشخصية الطبيعية، والشخصيةُ الاعتبارية التي لا تزال تنفصل وتستقل عن الشخصية الطبيعية، حتى كمل استقلالها وأصبحت كائنًا قائمًا بذاته، له أحكامٌ تختلف عن أحكام الشخصية الطبيعية؛ حيث لا يوجد فيها نَفْسٌ ناطقة تحتاج إلى شعور وحُبٍّ، ويُخشى عليها من سوء الخُلق ودناءة الطبع، وأصبح التعامل مع الشخصية الاعتبارية يكاد أن يكون موضوعيًّا بعيدًا عن الذاتية التي أثرت في مسائل كثيرة في التعامل مع الشخصية الطبيعية.
4- أما الأحداث فهي تتكون من تفاعل الأشياء مع الأشخاص، وهي تحتاج إلى تحليل للمضمون وإلى توقعات للمستقبل وإلى سيطرة وتوجيه في بعض الأحيان، وإلى حساب المآلات، وتحقيق المصالح، وترتيب الأولويات والقيام إزائها بواجب الوقت.
5- أما الأفكار، فلابد من معيار للتقويم يقبل الصالح ويرفض الطالح، وهذا المعيار مرتبط عند المسلمين بالنموذج المعرفي الذي يتبنونه، والذي أخذوه من الكتاب والسنة وفهم الصحابة والتجربة التاريخية والعقيدة والرؤية الكلية للإنسان والكون والحياة، والمبادئ القرآنية والسُّنن الإلهية ومنظومة القيم، ومقاصد الشرع في التشريع، والتكليف، وكل عنصر من هذه العناصر له معانيه ومبانيه ومكانه في المعيار الذي به تقويم الأفكار.
6- والواقع الذي نعيشه قد تغير، فمنذ (1830م) وحتى (1930م) اكتشف الإنسان واخترع ما استطاع به أن يغير برنامج حياته اليومي، ولقد حدَّد علماء الحضارة (1830م) باعتبارها نقطة فارقة، والنقطة الفارقة يكون فيها حدث يتخذ كعنوان على بدء مرحلة أو انتهائها، ويكون لذلك الحدث دلالة، وفي هذه السَّنة أدخل الإنجليز الحديد في السُّفن، ولم يكن هناك في المقابل في محور الجنوب أو على الأصح في محور الإسلام (طنجة - جاكرتا، غانا - فرغانة) ما يقابل ذلك الاختراع، ولا هذا الاكتشاف الذي أمكن معه جعل الحديد يطفو على سطح الماء، ولقد قلَّد العالمُ الإنجليزَ، وأدخلوا الحديد في سفنهم، ولكنَّ الشعور بالإبداع والمبادأة والثقة بالنفس، وشعور الآخر بالاحتياج وانتظار الإبداع حتى يتبعه ويقلده، جعل هذه النقطة فارقة لما بعدها، وقدحت كثيرًا في الندية بين الشرق والغرب، بعدما ذهب من قبل الشعور بالعلو أيام الحروب الصَّليبية.
     في هذه المائة سنة ظهرت علوم الإنسان، وبدأت في النمو، وظهرت أفكار أخرى غير الأفكار السائدة، وجاءت الدعوة إلى التنوير والحداثة، وأصدر البابا في الفاتيكان خطابه المشهور «باسنت» يلعن فيه سبعين علمًا ويحرمها؛ لأنها تكوّن في مفهومها ومناهجها هذه الفكرة الجديدة التي تُسمَّى بالحداثة، والتي جاءت وليدة النهضة الأوربية من قبل، ومتوجة لأربعة قرون من الزمن تمت فيها الاكتشافات الجغرافية والثورة الصناعية والمطبعة والثورة الفرنسية... إلخ. وأصبح الإنسان لا يعيش غده كما يعيش يومه، ولا يومه كما عاش أمسه، وانتشرت الصحف، وحدثت ثورة في المواصلات والاتصالات والتكنولوجيا. واستطاع الإنسان أن يغادر الأرض إلى الفضاء بالطائرة.
    وبعد (1930م) وحتى اليوم، استطاع الإنسان أن يطور ما اخترع، وأن يستغل ما اكتشف، وأن يجمع كُلَّ الفلسفات والرؤى التي تخدمه، وظهرت عدة نظريات:
أولها: نظرية التطور مع دارون.
ثانيها: نظرية النسبية الفلسفية مع نيتشه، ثم الرياضية مع أينشتين.
ثالثها: نظرية التحليل الفلسفي عند فرويد.
رابعها: نظرية رأس المال عند ماركس.
    كل هذه النظريات كونت عقلية المتحكم في الأرض، ونتج عنها وعن صفة العصر سمات عصرنا الذي نريد أن نتعرف عليها.

 

الهوامش:
-----------------
(1) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 268) رقم (5047)، وهناد في «الزهد» (2/ 580) رقم (1226)، ومعمر بن راشد في «جامعه» (11/ 22)، واللفظ له.

 

المصدر : كتاب سمات العصر ، لفضيلة مفتى الديار المصرية الدكتور على جمعة