ما منزلة النزعات الفكرية والإنسانية والحفاظ عليها فى الفكر الإسلامى ؟ والجواب : أن أهم ما يميز الفكر الإسلامى هو حفاظه على النزعات الإنسانية والفكرية والعلمية للإنسان ، فعندما أراد الله سبحانه وتعالى إقرار هذا النزعة الإنسانية قام بخلق الإنسان فى أحسن تقويم ، قال تعالى { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين :4] ، ثم قام تعالى بتكريم الإنسان ، وأشار إلى ذلك بقوله تعالى { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء :70] . فالقرآن الكريم يحافظ على هذه النزعة الإنسانية ويعلى من شأنها ، وينظمها فى إطار قيمه السامية . وكل هذا يعطينا صورة صحيحة عن نظرة الإسلام للإنسان، فلقد استهدف الأخذ بما توحى به القيم الروحية ، والمبادئ الربانية التى عاشت فى ضمير الأمة الإسلامية ، تلك القيم التى تكرم الفرد باعتباره إنسانا دون نظر لدينه أو لونه أو لغته أو جنسه أو ماله أو حسبه أو نسبه . وتحمى الإنسانية بصفتها كائنا عضويا حيويا ، قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات :13]. وإذا طالعنا السنة النبوية الشريفة نجد فيها تصويرا قويا للنزعة الإنسانية نزعة العطف والشفقة والرحمة على كل ذى حياة إنسانا كان أو حيوانا أو طيرا ، والإسلام يؤكد على إيجابية هذه النزعة من المبادرة إلى مساعدة الآخرين ودفع الأذى ، وفعل الخير ... ونحو ذلك من قيم إيجايبة تؤكد على الإطار الإسلامى للنزعة الإنسانية ، وفى ذلك ورد الحديث الذى أخرجه أبو يعلى (ح 3315) وغيره عن أنس بن مالك رضى الله عنه مرفوعا : ((الخلق كلهم عيال الله ، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله)) . وهذه النزعة الإنسانية التى حافظ عليها الإسلام تعد الهدف الأسمى لحقوق الإنسان فى العصر الحديث . أما عن النزعة العلمية التى امتاز بها الفكر الإسلامى ، فمع بداية الدعوة الإسلامية غُرست أصول هذه الثورة العلمية التى فجرها قدوم الإسلام ، ولو استطلعنا كلمة (العلم) ومشتقاتها فى القرآن الكريم فقط فضلا عن السنة النبوية الشريفة لوجدنا مئات المواضع التى تتحدث عن العلم وتحث عليه ، ويكفينا فى الدلالة على تأكيد الفكر الإسلامى على هذه النزعة قوله تعالى {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه :114]. فالإسلام يفتح الطريق أمامك لتبحث وتنظر وتفكر ، ولا نعرف دينا من الأديان السماوية غير الدين الإسلامى جعل الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها ، وجعل العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ، فهذا القديس بولس أحد أعمدة المسيحية يتساءل : ألم يصف الرب المعرفة الدنيوية بالغباوة ، والكنيسة فى العصور الوسطى كانت تجعل المعرفة مقصورة على طبقة الكهنة ، أما فى الإسلام فإنما بعث رسوله صلى الله عليه وسلم لينشر العلم والمعرفة والحكمة ، { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِى الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة :2] . فالإسلام كما هو معلوم دين لا يتنافى مع العقل ، ولا مع العلم ، وهو دين نظر وفكر وبحث . وقد جعل تعالى للعلماء منزلتهم الخاصة { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة :11] . كما بين مدى العلاقة الوثيقة بين الله وبين العلماء الحقيقيين لأنهم أسبق الناس إلى الإيمان بالله والوقوف إلى شىء من أسرار قدرته وكنه مخلوقاته . ونحن فى غنى – بعد كل الجهود التى بذلها الدارسون والباحثون عن تاريخ العلم الإسلامى – عن التنويه بذلك وبما قدمته الحضارة الإسلامية للعالم ، ولقد لمع المسلمون فى كل الميادين العلمية ، ولم يتركوا بابا من أبواب العلم إلا طرقوه . أما عن النزعة العقلية فى الفكر الإسلامى ، فإن الإسلام أطلق العقل عن سطوة العادات والتقاليد والأهواء والميول ، وشرفه الله سبحانه بالخطاب ، وجعله مناط التكليف ، فالإسلام لم يحجر على العقل ، ولا على التفكير ، ولم يحبس ضياء العقول ، بل تركها تعمل ، ولكنه رسم لها طريق الهداية وأرشدها إلى حدها الذى يجب أن تتعرف عليه ، وعرفها قلة علمها مهما بلغت ، فقال {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} ، ومع هذا طالبها بطلب الزيادة فى العلم ، فقال {وقل رب زدنى علما} . وقد تأثر المسلمون أيما تأثر بهذا المنهج الإسلامى العقلى فى كل أمورهم ، حتى الأمور الدينية ، ووضعوا المناهج الدقيقة التى توصلهم إلى الفهم الصحيح لدين الإسلام .
المصدر : الفكر الإسلامى (مبادئه – مناهجه – قيمه – أخلاقياته) ، للأستاذ الدكتور محمد الصادق عفيفى ، القاهرة : مكتبة الخانجى ، 1977 .