هل اتصف العقل المسلم عبر تاريخه الفكرى بالقدرة على التنظير؟ والجواب : أن العقل المسلم وخلال حركته الفكرية والحضارية عبر تاريخه الطويل استطاع القيام بالتنظير (وضع النظريات) وعلى كافة الأصعدة والمجالات التى يتحرك فيها العقل الإنسانى ، ويمكننا أن نقدم نموذجا لذلك من خلال علم أصول الفقه . فلقد ثارت أسئلة متتالية في ذهن المجتهد مثلتْ الإجابة عنها مواضيع ذلك العلم ، ونحن نعرض هنا لتلك الاجابات مرتبة ترتيباً منطقياً موافقاً للحاجة والباعث على إثارة هذه الأسئلة في ذهن الأصولى، ونرى أن الإجابة عليها تمثل ما يمكن أن نطلق عليه (نظريات أصول الفقه) ، التي عددنا منها للآن سبع نظريات يمكن أن يُعْمل فيها النظر لزيادتها ، أو ضم بعضها إلى بعض ، . إلا أن معالجة مسائل الأصول من خلال هذه النظريات تمكِّن من فهم أعمق لتلك المسائل ، وتظهر مبنى الخلاف وسببه ، وتساعد في اختيار وترجيح رأي على رأي آخر ، كما أنها تبين فائدة إثارة مسائل لا يمكن معرفة فائدتها إلا بالدخول إليها من خلال هذه النظريات ، وكذلك تبين فائدة بعض الأدلة التي ثار حولها جدل قديم مثل دليل الإجماع . النظرية الأولى : نظرية الحجية : ما الحجة التي نأخذ منها الأحكام ؟ هذا السؤال الأول كانت الإجابة عليه هى : أننا نأخذ الأحكام من القرآن الكريم باعتباره النص الموحَى به ، المعصوم من التحريف ، المنقول إلينا بالتـواتر ، وباعتباره كلمة الله الذى نؤمن بأنه الخالق ، وأننا ملتزمون في هذه الحياة الدنيا بما أمر ونهى ( افعل ، لا تفعل ) ، وأن هذه الأحكام مقياس المؤاخذة في يوم آخر يرجع البشر فيه إلى خالقهم للحساب (العقاب والثواب) . ومن هنا يتضح لنا استمداد أصول الفقه من علم الكلام ، فإذا كان القرآن هو المصدر الأول والأساس للتشريع تأتى السنة مبينة ومتممة للقرآن ، حيث ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن ربه وأن الأمر متوجه لطاعة ذلك الرسول واعتبار عصمة نبيّه عن الخطأ . النظرية الثانية : نظرية الإثبات : فإذا ثبت هذا في القرآن وفي السنة ، تأتى نظرية الإثبات ، وهى مكونة من رؤية كاملة إلى قضية نقل النص شفاهة عبر الناقلين ، وما استلزم هذا من إيجاد علوم خادمة من الجرح والتعديل للرواة ، ومن علم مصطلح الحديث ، وعلم القراءات لنقل وضبط النص الشرعى . وبهذه العلوم تم التثبُّت من النقل، فبعد مرحلة بيان الحجية تأتى مرحلة إثبات ما قد تبين أنه حجة. وقد يظهر في هذا البيان دور ولكن ينفك الدور لانفكاك جهة الإثبات، فالحجية للقرآن والسنة جاءت في أغلبها وأساسها من أدلة عقلية ، ثم ثبوت القرآن والسنة من واقع النقل مضبوط بأدلة نقلية. النظرية الثالثة : نظرية الفهم : بعد ذلك جاء دور النظرية الثالثة وهى نظرية الفهم : كيف نفهم القرآن ( الحجة / الثابت لدينا ) فنحن أمام نص اعتبرناه حجة ، ثم أثبتناه بطرق تطمئن إليها العلماء طبقاً لمنهج علمى مستوفٍ لشروطه ، ولقد وضع الأصوليون لذلك أدوات تحليل ، وفهم للنص ، مستمدين هذا من مجموع اللغة، وقواعدها، ومفرداتها ، وخصائصها من ناحية، وكذلك من مجموع الأحكام الفقهية المنقولة الشائعة من ناحية أخرى. والحاصل أن هذه المرحلة في بناء أصول الفقه مرحلة مهمة للغاية ، وتمثل لبنة من لبنات الأصول ، بغض النظر عن اختلاف المجتهدين والمدارس الفقهية في بناء تلك الأدوات . النظرية الرابعة : نظرية القطعية والظنية : وإذ قد تم تحديد المصدر وحجيته وإثباته وفهمه ، واجهت الفقهاء مشكلة القطعية والظنية حيث إن الاكتفاء بهذه الأدوات يجعل مساحة القطعي أقل مما ينبغى مما أوجد مشكلة حقيقية استوجبت القول بالإجماع كدليل يوسع من مساحة القطعي ، ويخرج ظني الدلالة من ظنيته الى إطار القطع . فالأدوات اللغوية وحدها لا تكفي لتفسير قوله تعالى : {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم}(1) حيث الفاء للتعقيب بما يمكن أن يفيد الوضوء بعد الصلاة ، أي إذا ادعى مدعٍ هذا لم يكن لدينا بمحض الأدوات اللغوية ما يمكن إيقافــه ، ومن هنا كان لابد من الاعتماد على الإجماع الذى يخرج المسألة من دور الظنية إلى القطعية بحيث لا يمكن في ظل هذا النسق المتضمن للإجماع أن يقال : إن الوضوء بعد الصلاة ؟!! . وفهم قضية الإجماع في هذا الإطار يحرر كثيراً من الخلاف حول المسألة ، ويجعل كلام المؤيدين ذا معنى واضح وفائدة مرجوة . ونظرية القطعية والظنية هذه سيكون لها أكبر الأثر في قضايا الخلاف الفقهى ، ومسألة الاجتهاد والإفتاء . النظرية الخامسة : نظرية الإلحاق : وإذا تم تحديد الحجية وإثباتها وفهمها في إطار القطعية والظنية فإن النصوص المحدودة بلفظها وإيقاعها على الواقع النسبى المتغير لا تشتمل على كل الحوادث ، ومن هنا جاءت نظرية الإلحاق التي أخذت في مضمونها أشكالاً متعددة كالقياس ، وكإجراء الكلى على جزئياته ، أو تطبيق المبدأ العام على أفراده . فالكل - حتى الظاهرية - قائلون بما يمكن أن نسميه ( الإلحاق ) ، وإن أنكروا هيئة مخصوصة منه ، وهو ( القياس ) . النظرية السادسة : نظرية الاستدلال : بعد نظرية الإلحاق تأتى نظرية الاستدلال ، والتي رأي الأصولى فيها مجموعة من المحددات كالعرف ، والعادة ، وقول الصحابى ، وشرع من قبلنا ، ونحوها تؤثر بمعنى أو بآخر في الوصول إلى الحكم الشرعى، مما ادعى معه بعضهم أنها أدلة ، وأنكر آخرون فسميت الأدلة المختلف فيها . النظرية السابعة : نظرية الإفتاء : ثم تأتى نظرية الإفتاء التي تشتمل على ذكر المقاصد الشرعية ، والتعارض والترجيح ، مع شروط الاجتهاد والإفتاء ، بحيث يقوم من توافرت فيه شروط الباحث بإصدار الحكم ، ثم عرضه على سقف المقاصد الشرعية بحيث لا يتعداها ، ومراجعة حكمه إن تعداها حتى يتسق معها بحيث لا تقصر الأحكام على المقاصد بالبطلان لما فيه من عكس المطلوب. إن هذه النظريات السبع والدخول إلى علم الأصول من خلالها تبرر كثيراً من المسائل التي يظن طالب ذلك العلم عدم جدواها ببادئ النظر، كما أنها تبنى إطاراً معرفياً مناسباً للتحليل والدرس ، وهى أيضاً تكون المعيار الأمثل لتبنى الآراء الأصولية ، أو تعديلها وكذلك تمكن من تشغيل ، وتفعيل ذلك العلم في علاقته بين العلوم الاجتماعية والإنسانية.
الهوامش: ------------------ (1) المائدة 6 .
المصدر : أصول الفقه وعلاقته بالفلسفة الإسلامية ، لفضيلة مفتى الديار المصرية ، أ/د على جمعة.