مفهوم الأمة فى الإسلام ؟

الناقل : heba | المصدر : www.dar-alifta.org.eg

ما هو مفهوم الأمة فى الإسلام ؟ وما هو منهج التعامل مع الحياة الدنيا، وتحديد العلاقة مع الآخرين ؟

والجواب :

1- إن من مقتضيات مفهوم الأمة في الإسلام ترتيب الأولويات، ومنهج التعامل مع الحياة الدنيا، وتحديد العلاقة مع الآخرين، ووضع برنامج عملي لعمارة الأرض، وعلى ذلك فإن إدراك مفهوم الأمة أمر أساسي إذا كان يمثل المنطلق لهذه القضايا وغيرها، وتفعيل ذلك الإدراك أمر أكثر أهمية من الإدراك المشار إليه.
2- فلابد علينا أن نتكلم بتوسع - وتحديد أيضًا - عن مفهوم الأمة، ففي نظر المسلمين الأمة ممتدة عبر الزمان فيما يمكن أن نسميه بالدين الإلهي، فالأمة تبدأ من آدم، وتشمل كل الرسل والأنبياء في موكبهم المقدس عبر التاريخ، والأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ممتدة عبر الزمان والمكان، وفي جميع الأحوال ولدى جميع الأشخاص، وهذا أمر غاية في الأهمية إذا اعتبرناه تأسيسًا لما ندعو إليه من معاصرة وإصلاح وتجديد، فالمسلمون لا يعرفون الرابطة القومية أساسًا للاجتماع البشري، وإن كانوا لا ينكرونها في سياقها، ولا يعترفون بالرابطة الوطنية إذا أدت إلى الشوفونية المتعصبة، وإن كانوا يعتبرون حب الوطن من الإيمان.
3- وبدء الأمة من آدم يجعل لقصة الخلق الواردة في القرآن الكريم معنى جليلاً، ولا تكون إقرارًا لحقيقة أو لواقع فحسب، بقدر ما تكون تأسيسًا لمفهوم يبنى عليه الاجتماع البشري، فماذا قالت القصة؟ قالت الحقائق الآتية:
(أ) إن آدم من الأرض، فالأرض إذن أمه وأبوه، ليس هذا شعارًا لدعاة الحفاظ على البيئة، بل جزء من تصديق كلمة الله سبحانه وتعالى، وكون آدم من الأرض معناه أنه لابد عليه وعلى أبنائه أن يعاملوها معاملة الابن للوالدين، وأن العلاقة بينهما هي علاقة البر، وكون آدم من الأرض معناه المساواة التي ستكون بين بنيه فهم كلهم لآدم وآدم من تراب كما ورد في الحديث النبوي؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجِعلان التي تدفع بأنفها النتن»
(1)، (والجِعلان هي الخنافس).
    وكون آدم من الأرض معناه أنه سيعود إليها، وأن حياته هنا محدودة بالموت، ولذلك فهي دار ابتلاء واختبار وتكليف، وليست دار خلود وتشريف قال سبحانه: { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى }
(2)، وكون آدم من الأرض يقتضي أنه محتاج إلى غيره وليس قائما بنفسه، وهو معنى قولهم (لا حول ولا قوة إلا بالله) التي ورد في الحديث أنها كنز من كنوز الجنة فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله بن قيس، قل: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها كنز من كنوز الجنة»، أو قال: «ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة، لا حول ولا قوة إلا بالله»(3)؛ حيث تدل هذه الكلمة على حقيقة وجود الإنسان في الأرض، وحقيقة سعيه فيها.
(ب) إن آدم قد نُفخ فيه من روح الله سبحانه وتعالى، وروح الله مخلوق راق من مخلوقاته، فروح الله مضاف ومضاف إليه، والإضافة فيها للقداسة مثل قولنا: (بيت الله) و(رسل الله) قال تعالى: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ }
(4).
(ج) إن آدم قد سجدت له ملائكة الرحمن مما يدل على تكريمه، قال تعالى: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }
(5).
(د) إن آدم يمثل الخير في أصله، في مقابلة الشر الذي عند إبليس، ولذلك من تشبه بآدم فهو خير، ومن انحرف وخالفه وتشبه بإبليس فهو شر؛ قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ }
(6). وقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }(7).
(هـ) فآدم إذن هُدي النجدين؛ قال الله تعالى: { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ }
(8)؛ أي طريق الخير وطريق الشر.
(و) آدم إذن شُرِّف وكُلِّف؛ قال الله سبحانه: { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ }
(9).
4- هذه الرؤية للإنسانية ستحدد مفهوم الأمة التي بدأت مع آدم هذا البدء، قال الله تعالى: { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ }
(10)، وقال تعالى: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ }(11).
    ويمكن أن نقرر صفات لتلك الأمة الواحدة أن هناك مساواة بين البشر، فأصلهم واحد، ومصيرهم واحد، وهو الموت، والخطاب الإلهي إليهم واحد؛ قال تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }
(12).
5- فإذا تحدد مفهوم الأمة بهذا المعنى فإن لدينا أمة الدعوة وهي الإنسانية كلها، وأمة الإجابة وهم من صدقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ودينه ومنهجه في الحياة، وهو مفهوم للأمة يشمل البشرية كلها، ويرى المسلمين مع غير المسلمين أمة دعوة يتوجه لهم جميعًا الخطاب بـ (يا أيها الناس)، وإن اختص المسلمون بخطاب (يا أيها الذين آمنوا)، حتى إنه في العقائد الإسلامية نرى شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة لجميع الخلائق حتى يصدق عليه قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }
(13) أي: السابقين واللاحقين.
    وإذا تقرر هذا وأردنا أن نبني على مفهوم الأمة برنامجًا عمليًّا يتعلق بالسياسة والاقتصاد والاجتماع، ويتواءم مع واقعنا ومشكلاتنا الآتية، فإنه يمكن تطبيق ذلك وترتيب أولوياتنا بأجندة تنبثق من واقعنا وحاجاتنا دون النظر إلى ما يحاولونه من فرض الهيمنة من الخارج لمصالحهم ومنافعهم.
6- فإنه إذا كانت الأمة واحدة عبر التاريخ الماضي، وواحدة بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وواحدة في يومنا هذا في أساس عقائدها، فلماذا لا نكون أمة واحدة أيضًا في واقع معاشنا، مع اختراع ما يلزم من نظم وإجراءات تحقق هذا النظر وتؤيد هذا التوجه فإن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز»
(14)، ويمكن أن نضع برنامجا عمليا منبثقا منا يشتمل على:
أولا: التقريب والتحالف بين دول المنطقة، ولنبدأ باقتراح الطريق السريع الذي يربط بين طنجة وعمان، وشبكة الطرق السريعة هذه هي أول خطوة في ربط البلدان بعضها مع بعض، وفي إذابة الفوارق، بل والعوائق، وهي لا تتدخل في استقلال الدول، ولا في أنظمتها السياسية، ولا في شئونها الداخلية، وهي لا تحتاج إلا إلى قرار ومال وتنفيذ، بل جزء كبير من ذلك الطريق موجود بالفعل ويحتاج إلى تفعيل وأن يقوم بدوره في ربط الدول بعضها مع بعض.
ثانيًا: رفع تأشيرات الدخول والإقامة بين العالم العربي، وهو أمر مأخوذ به في كثير من البلدان العربية، ولا يحتاج إلا إلى انتشار، ويمكن استثناء الأراضي المقدسة لتنظيم الحج والعمرة إليها بصورة تمنع من عدم الانضباط.
ثالثًا: السعي إلى تفعيل السوق المشتركة والتجارة البينية والاكتفاء الذاتي، عن طريق المشروعات العملاقة كالتي بين مصر والسودان خاصة لزراعة القمح، فإذا كان طعامك من فأسك كان رأيك من رأسك، وأيضًا التخصص وتقسيم العمل بين الدول العربية للوصول إلى التكامل الاقتصادي.
رابعًا: هل نأمل في السعي الحثيث لتوحيد العملة بين الأقطار العربية، ثم الإسلامية؟! ولتأخذ وقتها من التنفيذ، وهو مطلب قديم كنا نسمع عنه من التيار القومي حتى حققته أوربا في صورة اليورو.
خامسًا: وبعد ذلك هناك أساليب للوحدة مع الاحتفاظ بالهُوية والخصوصية كالاتحاد الفيدرالي، وهو أمر يحتاج أيضًا إلى رأي عام، وتوجه صادق، وخطوط كثيرة للوصول إلى التواؤم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين الدول العربية، وهو أمر ليس بالمستحيل حتى لو اكتنفته بعض العقبات، أو احتاج إلى كثير من الجهد والترتيب والإجراءات.
سادسًا: إصلاح التعليم بالاهتمام بمراكز البحث العلمي، وتشجيع الابتكار وحمايته والاهتمام بقضايا التدريب، وبالجانب التطبيقي.
    عسى الله أن يمن علينا وأن يمكنا في الأرض كما مكن الذين من قبلنا { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ }
(15).


المصدر : كتاب سمات العصر ، لفضيلة مفتى الديار المصرية الدكتور على جمعة .

 

الهوامش:
--------------------------
(1)
أخرجه أحمد في «مسنده» (2/ 361) حديث (8721)، وأبو داود في كتاب «تفسير القرآن» باب «ومن سورة الحجرات» حديث (3270)، وفي كتاب «الأدب» باب «في التفاخر بالأحساب» حديث (3955)، (5116)، والترمذي في كتاب «المناقب» باب «في فضل الشام واليمن» حديث (3956) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
الآية 55 من سورة طه.
(3)
متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الدعوات» باب «الدعاء إذا علا عقبة» حديث (6384)، ومسلم في كتاب «الذكر والدعاء التوبة والاستغفار» باب «استحباب خفض الصوت بالذكر» حديث (2704).
(4)
الآية 29 من سورة الحجر.
(5)
الآية 70 من سورة الإسراء.
(6)
من الآية 21 من سورة النور.
(7)
الآية 168 من سورة البقرة.
(8)
الآية 10 من سورة البلد.
(9)
من الآية 72 من سورة الأحزاب.
(10)
الآية 52 من سورة المؤمنون.
(11)
من الآية 92 من سورة الأنبياء.
(12)
من الآية 158 من سورة الأعراف.
(13)
الآية 107 من سورة الأنبياء.
(14)
أخرجه مسلم في كتاب «القدر» باب «في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله» حديث (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(15)
الآية 41 من سورة الحج.