ما هو المقصود بالإحساس الجمعى كخاصية من خصائص الأمة الإسلامية ؟ والجواب : الإحساس الجمعى جانب من أروع جوانب فلسفة النظرة الإسلامية الهادفة إلى بناء حضارة الإنسان من خلال الإنسان نفسه ، وليس من خلال استلابه واقتلاعه ، فمفردات الحضارة الإسلامية لا تشكلها نزعة فردية أنانية تصيب مناطق الذات بتضخم لا يصيخ للآخرين ، ولا تشكلها كذلك نزعة جبرية ساحقة تحيل مفردات الظاهرة الإنسانية إلى مجرد معابر آلية بكماء . إن فلسفة النظرة الإسلامية تتكئ فيما تتكئ عليه من عناصر البناء الحضارى على الإحساس الجمعى الذى يتيح للذات أن تمارس حقها الطبيعى فى الحلول على الأرض والتاريخ ، وللجماعة أن تمارس حقها الطبيعى فى تشكيل ملامح الأمة . ولا يعنى الإحساس الجمعى تجاوز الفرد إلى الجمع ، لأن الفرد هو التكوين الأول الذى تتشكل منه مفهوم الجماعة الإنسانية ، كما أن الإحساس الجمعى لا ينبع من الذات بما هى ذات موجودة فحسب ، فكم من ذوات إنسانية تعيش على الأرض وهى عارية تماما من مجرد الإحساس بالتواصل الوجدانى مع جماعتها الإنسانية ، وإنما ينبع الإحساس الجمعى من الذات بما يستقطبها من قيم معينة ، قيم لا تتسم بأنانية ، ولا جبرية ، قيم تتواصل مع حقائق الكون ولا تصطدم بها ، قيم تؤمن بأن الإنسان ليس وحده على الأرض . تلك القيم لا تكون إلا فى قيم الإسلام الخالدة . وهذا الإحساس الجمعى الذى يعتبر من أخص خصائص الأمة الإسلامية ينبع من عدة ظواهر إسلامية : أولها : أن القرآن العظيم حرص على استنبات مشاعر الحب والإيثار فى أعماق المسلمين عبر آياته وسوره ، وصولا إلى صهر المجتمع القرآنى فى بوتقة واحدة ، إن القرآن الكريم يضع أمامنا فى هذا الصدد صورة حية للإحساس الجمعى فقال تعالى { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة :128] ، وقوله تعالى { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف :6] ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التى تصور هذا التصوير الرائع لمعاناة النبى صلى الله عليه وسلم من أجل الكل ، الذى هو الجمع الإسلامى ، مما يعكس ذلك الإحساس الجمعى كظاهرة من ظواهر فلسفة النظرة الإسلامية فى البناء الحضارى للإنسان . ثانيها : أن الإحساس الجمعى للأمة الإسلامية يعود إلى فلسفة الوحدة فى الإسلام ، بدء بوحدة الخالق ، وانتهاء بوحدة الخلق قال تعالى { خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الزمر:6]. ومرورا بالوحدة فى كل المجالات من وحدة القرآن الكريم ، ووحدة النبى صلى الله عليه وسلم ، ووحدة القبلة ، ووحدة الشريعة ... إلخ . ثالثها : العلاقة الوطيدة بين القيادة والقاعدة ، فهناك إحساس جمعى يربط القائد بجماهيره ، والجماهير بقائدها ، لقد قاتل النبى صلى الله عليه وسلم إلى جوار أصحابه ، وحفر الخندق معهم ، وعاد مرضاهم ، وواسى حزاناهم ، وفرح لغبطة الهانئين ، أما المسلمون فقد بايعوه على أن يحفظوه مما يحفظوا منه أزواجهم وأبناءهم ، وافتدوه بالروح والمال والولد ، فالمسافة بين النبى صلى الله عليه وسلم وأتباعه من المسلمين كانت ضيقة إلى أقل حد ممكن ، وكانت هذه المسافة مع ضيقها مضيئة غير مظلمة ، وهذا ما ينبغى أن يكون دائما بين الأمة وقوادها .
المصدر : فى الفكر الإسلامى من الوجهة الأدبية ، للدكتور محمد أحمد العزب ، القاهرة : المجلس الأعلى للثقافة ، 1983 م ، (ص 91 - 102) .