ما أسباب شيوع سوء الأخلاق فى العالم ، وهل للطعام الذى يتناوله الإنسان أثر فى ذلك؟ والجواب : يسأل كثير من الناس عن أسباب شيوع سوء الأخلاق في العالم كله من حولنا، وأحد أهم تلك الأسباب - في رأيي - هو سوء الطعام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أطب مطعمك تكن مستجاب الدعاء»(1). وهو حديث مكون من مقطعين، الأول: أطب مطعمك، وهو أمر يطلب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطيب الإنسان مطعمه، وذلك على مستويين: المستوى الأول: أن يكون الطعام حلالاً، ومعنى هذا أن يكون مصدر الدخل حلالاً ليس فيه شيء من الرشوة أو السرقة أو الاختلاس أو الاغتصاب أو التدليس أو الغش، ويكون أيضًا بعيدًا عما حرم الله من المطعومات كالخمر والخنزير والميتة والدم المسفوح، قال تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِى مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (2) بل إن قصة آدم عليه السلام في القرآن بينت نكد أكل الطعام المخالف وجعلته سببًا للطرد من الجنة قال تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (3). وقال الحسن البصري رضي الله عنه: «كانت بلية أبيكم آدم أكلة، وهي بليتكم إلى يوم القيامة»، فإن كان الطعام من مال حلال، وهو مما أحل الله من المطعومات دخل الطاعم حد استجابة الدعاء. المستوى الثاني: هو أن يكون الطعام نفسه طيبًا في مذاقه، وفي إعداده، والذي يطلب هذا النوع من الطعام هو رقيق القلب، رهيف الحس الذي لا يدفعه الجوع لملء البطن دون تلذذ بالتذوق والاستحسان، وهي صفة نراها في قوله تعالى عن أهل الكهف بعد بقائهم 309 سنة في سبات ونوم: {فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} (4) فلم يدفعهم الجوع إلى طلب أي أكل ولو كان حلالا في ذاته، وفي مصدره، بل طلبوا أن يكون مرتبطا بأنه الأزكى، ثم تشير الآية إلى كَمية الطعام وأنها برزق منه، ولم يقولوا: فليأتكم به، وهنا نرى العلاقة مع الطعام نتيجة تزكية النفس، ونرى في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تزكية النفس من طيب المطعم حيث ذكر: «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب. يا رب. ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!»(5). تناول الطعام يجب أن يكون منضبطًا؛ لأن له أثرا في حياتنا اليومية بجميع جوانبها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذه الضوابط تؤخذ من القرآن والسنة، فمنها: 1- قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} (6)، فالكم مهم ينظمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه المقدام بن معدي كرب؛ حيث قال: «ما ملأ آدمي وعاء شرًّا من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن غلبته نفسه فثلث طعام، وثلث شراب، وثلث للنفس»(7). 2- ويدرك السلف الصالح هذا المعنى فيقول ابن ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث: لو استعمل الناس هذه الكلمات لسلموا من الأمراض والأسقام، ولتعطلت المارستانات ودكاكين الصيادلة. ويقول المروزي للإمام أحمد بن حنبل: هل يجد الرجل في قلبه رقة وهو شبع؟ قال: ما أرى ذلك. وقال إبراهيم بن أدهم: "من ضبط بطنه، ضبط دينه، ومن ملك جوعه، ملك الأخلاق الصالحة، وإن معصية الله بعيدة عن الجائع، قريبة من الشبعان، والشبع يميت القلب" وهذه المقولة تلخص تلك العلاقة التي كانت مرئية وعند فقدها فقدنا الشيء الكثير. 3- ويجعل الله سبحانه وتعالى من محاسن الأخلاق إطعام الطعام، فيقول سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا} (8)، فإطعام الطعام الطيب الحبيب إلى النفس - ولابد أن يكون بهذه الصفة - من صفات الذين يحبهم الله. بل جعل الإطعام طريقًا لتكفير الذنوب، واشترط أن يكون من أحسن الطعام وأعلاه، قال تعالى في كفارة اليمين: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (9)، وأوسط معناها أعلى، كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (10)، بل لابد من أن يكون حلالا له مذاق هو من أحسن ما يطعم الإنسان به أهله. 1- وهكذا رأينا زمننا الجميل يهتم الناس بحسن الطعام وإعداده والجلوس له، وعدم الإسراف فيه، وعدم الاستهانة بشأنه، حتى جعلوا الاستهانة بالطعام من كفر نعمة الله على الإنسان، ورأيناهم يتفننون في ذلك حتى مع بساطة الطعام، والمصريون والشاميون وغيرهم مشهورون في التعامل مع «الفول» - مثلا - وهو من الأكلات الشائعة البسيطة، فيقدمون بأشكال شتى وطرق مختلفة، فأين هذا من (كل وأنت تجري) (Take away) وأين هذا من عصر الهمبورجر والصفيح (يقصدون صفيح المشروب البارد). 2- وسن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آداب الطعام، فقال لابن عباس رضي الله عنهما: «يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك»(11) وقال صلى الله عليه وسلم: «من أكل طعامًا، فقال الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه"(12). وقد حث الشرع على التؤدة والتمهل في الأكل، وعدم العجلة والإسراع فيه، وقد ذمت امرأة زوجها بهذه العادة السيئة في حديث أم زرع الذي قصته السيدة عائشة رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قالت عن هذه الزوجة: «قالت السادسة: زوجي إن أكل لف، وإن شرب اشتف، وإن اضطجع التف، لا يولج الكف، ليعلم البث»(13) فدل ذلك على أن هذه الصفة في الأكل والشرب من مساوئ الأخلاق ومذموم الصفات. وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن يأكل في معًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء»(14) وقال صلى الله عليه وسلم: «طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة»(15). 3- ومن رفض هذا المنهج، وسار مسرفًا في أكله، ولا يبالي من أين كسب رزقه، ولا يبالي بطيب مطعمه، ولا يطلب استجابة الدعاء والخلق الحسن، فإنه يكون قد وضع نفسه في دائرة الترك، وفلسفة الترك في القرآن عظيمة، ولها منهجها نلحظها في مسألة الطعام، حيث يقول ربنا سبحانه وتعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (16)، ولعلنا نتوسع في بيان فلسفة الترك، وموقف القرآن منها؛ لأنها نافعة للمسلم في عصرنا. علينا إذن أن نرجع إلى الطعام الحلال، حتى نقضي على الشر في أنفسنا، والفساد في مجتمعاتنا والاختلال في العالم. دعوة قد يراها بعضهم بعيدة، ولكن علينا أن نسعى، وليس علينا إدراك النجاح. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل، والرجلين، والنبي وليس معه أحد»(17) يعني ولا يضره ذلك أنه كان على الحق، ولابد من التغيير «ابدأ بنفسك ثم بمن يليك»(18)، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. المصدر : كتاب سمات العصر ، لفضيلة مفتى الديار المصرية الدكتور على جمعة . الهوامش: ------------------ (1) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (6/ 311) حديث (6495) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (2) الآية 145 من سورة الأنعام. (3) من الآية 22 من سورة الأعراف. (4) من الآية 19 من سورة الكهف. (5) أخرجه مسلم في كتاب «الزكاة» باب «قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها» حديث (1015) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (6) من الآية 31 من سورة الأعراف. (7) أخرجه الترمذي في كتاب «الزهد» باب «ما جاء في كراهية كثرة الأكل» حديث (2380)، والنسائي في «السنن الكبرى» (4/ 177) حديث (6768)، وابن ماجه في كتاب «الأطعمة» باب «الاقتصاد في الأكل وكراهية الشبع» حديث (3349)، وابن حبان في «صحيحه» (12/ 41) حديث (5236)، والحاكم في «مستدركه» (4/ 367) حديث (7945). (8) الآيتان 8، 9 من سورة الإنسان. (9) من الآية 89 من سورة المائدة. (10) من الآية 143 من سورة البقرة. (11) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الأطعمة» باب «التسمية على الطعام والأكل باليمين» حديث (5376)، ومسلم في كتاب «الأشربة» باب «آداب الطعام والشراب وأحكامهما» حديث (2022) من حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه. (12) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/ 439)، وأبو داود في كتاب «اللباس» حديث (4023)، والترمذي في كتاب «الدعوات» باب «ما يقول إذا فرغ من الطعام» حديث (3458)، والحاكم في «مستدركه» (1/ 687) حديث (1870)، (4/ 213) حديث (7409) وصححه من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه. (13) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «النكاح» باب «حسن المعاشرة مع الأهل» حديث (5189)، ومسلم في كتاب «فضائل الصحابة» باب «ذكر حديث أم زرع» حديث (2448). (14) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الأطعمة» باب «المؤمن يأكل في معى واحد» حديث (5393)، (5394)، (5397)، ومسلم في كتاب «الأشربة» باب «المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» حديث (2061) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (15) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الأطعمة» باب «طعام الواحد يكفي الاثنين» حديث (5392)، ومسلم في كتاب «الأشربة» باب «فضيلة المواساة في الطعام وأن طعام الاثنين يكفي الثلاثة ونحو ذلك» حديث (2058) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (16) الآية 3 من سورة الحجر. (17) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الطب» باب «من لم يرق» حديث (5752)، ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة» حديث (220) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، واللفظ للبخاري. (18) هذا حديث مشهور أصله في الصحيحين؛ البخاري في كتاب «النفقات» باب «وجوب النفقة على الأهل والعيال» حديث (5355) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول»، ومسلم في كتاب «الزكاة» باب «الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة» حديث (997) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما بلفظ: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك»، وبهذا اللفظ ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (1/ 24).