ما هي خصائص التفكير المستقيم في الفكر الإسلامي؟ والجواب : التفكير نعمة ربانية وهبها الله للإنسان، ومِنْ شُكرِ النعمة أن نتحدث بها؛ قال الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (1 ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده»(2 )، وقال في شأن قصر الصلاة - ثم صارت مقولته قاعدة مستمرة: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته»(3 ). والدليل على أن التفكير نعمة أننا قد أُمرنا به في حياتنا كلها، وفي القرآن: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}( 4)، فربط بين الالتزام بالأوامر والنواهي في العقيدة والشريعة والأخلاق، وبين التفكر الذي هو الأساس في الفهم. 1- والفكر: ترتيب أمور معلومة يتوصل الإنسان بها إلى مجهول. والأمور المعلومة تكون في صورة جملة مفيدة، يضم الفكر جملة مع جملة ويربط بينهما ويخرج بنتيجة منهما، وكل جملة مفيدة قد تخبر عن واقع وقد تعبر عن طلب، والتفكير المستقيم يبدأ من البحث في الجملة التي تخبر عن واقع ويأخذ في التأكد من صحتها، وإلا اتجه الفكر إلى الخرافة فلا يكون مستقيمًا. وكل جملة مفيدة لها مجال، وكل مجال له طريقة في إثباته، ودليل يبرهن على صحته، ومعيار للقبول والرد بشأنه. 2- فهناك أمور تعود إلى الحسِّ والتجريب، مثل جملة: النار محرقة، والشمس مشرقة. ودليل هذه الأمور يكون بإدراك الحس، أو بالخبر المتواتر الموثوق به، وهناك أمور أخرى تعود إلى العقل مثل حقائق الرياضيات، وهناك أمور تعود إلى النقل مثل أحكام اللغة وأحكام الشريعة، وكل ذلك يحتاج إلى منهج من التجربة والملاحظة والاستنتاج، وتكرار ذلك مرات حتى تستقر في الذهن حقيقتها وتكون صالحة للاستعمال، ويسمي المناطقة الجملة المفيدة بـ "النسبة التامة"، وتُعَرّف بأنها: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه. فإذا كانت الجملة عادية حسية أضافوا عبارة "بناء على التكرار" وإذا كانت نقلية قالوا: "بناء على وضع الواضع"، وإذا كانت عقلية قالوا: "غير معتمدة على تكرار ولا وضع واضع". 3- ومن صور الانحراف عن التفكير المستقيم أن نبحث عن دليل لمسألة عقلية في النقل، أو عن مسألة حسية في العقل، أو عن مسألة نقلية في الحس، والذي يضبط كل ذلك هو العلم، والعلم في التعريف العربي لا يقتصر على المعنى المترجم لكلمة Science الذي قصر العلم على التجريب فقط؛ وإنما يعني القدر التعييني من المعرفة؛ وبذلك فهو يفرق بين القطعي والظني ويعلم حدود كل واحد منهما. فالخلط بين القطعي والظني من مظاهر التفكير المعوج، والخلط بين مجال الحس والعقل والنقل وعدم التمييز بينها من مظاهر التفكير المعوج كذلك، والسير خبط عشواء من غير اتضاح كيفية الاستفادة من كل المجالات؛ لأنها تمثل الواقع المعيش من مظاهر ذلك التفكير المعوج، واحتقار مجال على حساب مجال آخر من مظاهر التفكير المعوج أيضًا. 4- والتفكير المعوج يؤدي بنا إلى الغثائية، ويؤدي بنا إلى عقلية الخرافة، وإلى منهج الكذب الذي يعني مخالفة الواقع أو مخالفة الواقع والاعتقاد؛ ولذلك أُطلق الكذب في لغة قريش على الخطأ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في يوم فتح مكة: «كذب سعد» عندما قال سعد بن عبادة: اليوم يوم الملحمة. فقال صلى الله عليه وسلم: «بل اليوم يوم الرحمة» وكذب هنا بمعنى أخطأ فيما قال، فعزله النبي صلى الله عليه وسلم من القيادة، وعيّن ابنه قيسًا مكانه. إن التفكير المعوج يجعل الناس تعيش في أوهام، وإذا شاع هذا التفكير اختلت الأمور، وكان ذلك أكبر عائق أمام التنمية البشرية وأمام الإبداع الإنساني، وأمام التقدم والأخذ بزمام الأمور، وأمام العلم وأمام تحصيل القوة، وإذا كان كذلك فشلت كل محاولات الإصلاح وشاعت الغوغائية والعشوائية. 5- وإذا ما قارنّا حالنا مع الفكر المستقيم والفكر المعوج مع حال أسلافنا؛ حيث بنيت الحضارة ونفعت الإنسان في كل مكان - لوجدنا أنهم قد تبنوا الفكر المستقيم وحاربوا بكل قوة الفكر المعوج، وإذا ما قارنّا حالنا في ذلك مع حال الحضارة الغربية وجدناهم أيضًا قد حاربوا الفكر المعوج ورفضوه، ومن مظاهر رفضه قضية التخصص والمرجعية، فقد آمنوا بالتخصص وآمنوا بالمرجعية، ولم تعد شخصية «أبو العريف» التي شاعت في الثقافة الشعبية شخصية محببة أو طريفة، بل هي شخصية غاية في التخلف والانحطاط، ويمثل الكذب عندهم - سواء عند السلف أو عند الغرب - قيمة سلبية يُحاسب عليها من يرتكبها على جميع المستويات، ويكون الكذب جريمة إذا ما صدر من مسئول أو متصدر لخدمة الناس. 6- وتحت فكرة احترام المرجعية تمَّ التفريق بين الحقائق والآراء؛ فليس هناك وجهات نظر في الأمور التي تحتاج إلى تجربة وحس، وجهات النظر تكون في معالجة رعاية شئون الأمة، وتكون في مجال يحتمل الآراء، سواء من أهل التخصص أو كان من عموم الناظرين والكاتبين، ولابد أن يؤسس الرأي - حتى يكون محترمًا- على الفكر المستقيم، ولابد أن يتغيا أيضًا النفع والصالح العام، فإذا خرج عن الفكر المستقيم أو تغيا الشر والفساد فهو مردود على صاحبه مهجور يجب اجتنابه. يبدو أن هذه الحقائق البسيطة المتفق عليها يصعب على كثير من الناس اتباعها، ولا يستطيعون إلا أن يسيروا في نزقهم الفكري وتكبرهم المهني بصورة بشعة تفقد مصداقية الكلمة وينهار معها أسلوب الخطاب. 7- إن الإصرار على اتباع التفكير المعوج الغثائي، والتدخل في التخصصات المختلفة بصورة تجمع بين الجهل وبين الكبر - يجب أن تُحارب بشكل منتظم، ابتداء من مناهج التعليم وانتهاء بالإعلام؛ حتى نعود إلى الأمل في تغيير حالنا: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} ( 5). ويجب أن نعلم جميعًا أن الفقه الإسلامي علم من العلوم عرّفه العلماء بأنه: "العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية"، وهو علم له مسائله وله مناهجه وله أدواته وله مساقاته الدراسية، وله مدارسه الفكرية، وله علومه المساعدة، وله فوائده ونتائجه، وأنه ليس سبيلا يرده كل من أراد أو فكّر دون اعتماد على ذلك العلم، هو علم لا يعرف العنصرية ولا يريدها؛ فكل ذكر أو أنثى وكل أبيض أو أسود له أن يخوض طريق ذلك العلم، ولكن لا يجوز له بأي حال من الأحوال أن يتعدى حدوده وأن يقول فيه ما ليس له أن يقول، ليس من الليبرالية أن تعترض على علم الكيمياء فيما توصلوا إليه بمناهجه وأدواته، وليس من الليبرالية أن تتدخل في الطب وتعرض آراء الناس فيه، بل هذا من عقلية الرُّكة والخرافة التي تجر العلم إلى الانطباعات والرغبات والشهوات ووجهات النظر، وليس هذا بحاله. والفقه علم من العلوم؛ فمن تعامل معه بهذه الطريقة استجلب للعارف بالحقيقة الضحك الممتزج بالبكاء، فإن شر البلية ما يضحكُ قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (6 )، واشتد تحذير الله لنا من هذا الطريق المهلك حيث يقول: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} (7 ).
الهوامش: --------------- (1 ) الآية 11 من سورة الضحى. ( 2) أخرجه الترمذي في كتاب «الأدب» باب «ما جاء إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» حديث (2819) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن». ( 3) أخرجه مسلم في كتاب «صلاة المسافرين وقصرها» حديث (686) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (4 ) الآية 44 من سورة النحل. (5 ) من الآية 11 من سورة الرعد. (6 ) الآية 33 من سورة الأعراف. (7 ) من الآية 17 من سورة يونس.
المصدر : كتاب سمات العصر ، لفضيلة مفتى الديار المصرية الدكتور على جمعة .