المعاصرة حجاب

الناقل : heba | المصدر : www.dar-alifta.org.eg

ترد فى عبارات كثير من العلماء قولهم (المعاصرة حجاب) فما مقصودهم بهذه العبارة ؟

والجواب : 
 
    مما مَنّ الله به على المسلمين أن أبدعوا (علم التوثيق) على غير مثال سابق، فلم يأخذوه من أمة خلت، ولم يقلدوا أحدًا من الناس فكان من العلوم التي وضعوها وكملت غاية الكمال، وعلم التوثيق مثله في ذلك مثل (علم الفهم) أو ما يسمى (بأصول الفقه)، فإنه علم بديع نشأ من حضارة المسلمين، وهذان العِلمان يحتاجهما العالِم الذي يتمسك بالمنهج العلمي فيوثق مصادره ويتأكد من معلوماته حتى لا يقع في عقلية الخرافة ولا في حد الانطباع التي لا ضابط لها ولا رابط.
    ومن علوم التوثيق عند المسلمين (علم القراءات القرآنية) (وعلم رواية الحديث) الذي تولد عنه (علم الجرح والتعديل) والذي يهتم بالبحث في أحوال الرواة ومدى ضبطهم ومدى اتفاقهم مع الأصول المروية ومدى اختلافهم في ذلك، وتولد منه قواعد كثيرة من ألطفها وأرقها هذه القاعدة الفريدة، التي تدل على عمق في الفهم، ورقة في الشعور، واعتذار للآخرين، وعدم التسرع في إصدار الأحكام العشوائية، والعدل حتى مع المخالف، وإن شئت فقل خاصة مع المخالف، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}
(1) وهي قاعدة (المعاصرة حجاب).
    ومعنى هذه القاعدة أن المعاصرة بين اثنين لا تتيح لكل منهما أن يعرف الآخر كما ينبغي؛ وذلك لأن الصورة الذهنية التي تتكون عند كل واحد منهما عن الآخر تكون ناقصة، فقد يكمل الشخص كلامه الذي حمل على غير مراده، وقد يغير رأيه الذي ذهب إليه، بل قد يغير مشربه أو مذهبه بالكلية، وقد يتحول المرء من محب إلى كاره ومن كاره إلى محب، وهذا مصداقًا لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
(2) ولقوله صلى الله عليه وسلم: «القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء»(3). وعلى ذلك فإن الاختلاف الناشئ بين اثنين من قبل الرأي هو اختلاف نسبي قد يتغير، والموقف الذي حمل الشخص على القدح في زميله قابل للتبدل والانتهاء.
    وهذه قاعدة قررها جمهور السلف رضوان الله عليهم، يقول ابن عباس رضي الله عنه: «خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض؛ فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة»
(4).
    وقال مالك بن دينار - رحمه الله: «يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض؛ فإنهم أشد تحاسدًا من التيوس».
    وقال ابن حجر - رحمه الله: "كلام الأقران لا يُعبأ به، لاسيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد. وما ينجو منه إلا من عصمه الله. وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس"
(5).
1- ومن هذه القاعدة تولدت قاعدة أخرى تقيدها وتنظمها وتفسرها وهي: «لا يقبل كلام الأقران بعضهم في بعض». وهذا معنى المعاصرة حجاب، فهي لا تنفي قبول الجرح والتعديل من أهله، بل تتكلم عما إذا تكلم أحدهم في أخيه وقرينه مخالفًا لباقي الناس الذين مدحوا وعدلوا وأقروا بفضل هذا الإنسان، فإذا جاء عظيم من الفضلاء وقدح هذا المزكى المعدل فإنه لا يقبل منه ذلك؛ حيث لا يقبل جرح القرين بقرينه بهذه الصفة، وعللوا ذلك وبينوا سببه بأن المعاصرة حجاب.
2- إذن يمكن قبول جماعة كثيرة من أهل الاختصاص تجرح إنسانًا وترفضه ولكن المعاصرة حجاب بين الأقران، وليس مطلق العصر يخفي حقائق الأشياء والأشخاص، بل العصر حجاب بين القرين وأخيه من نفس مستواه يحجب عنه عدله ويئول له الأمر حتى يقدحه مبررًا ذلك لنفسه أولاً بأن فيه هذه الأخطاء التي يجب إنكارها.
3- ولقد حدث في التاريخ الإسلامي تنابذ بين الكبار منهم: «أبو نعيم الأصبهاني» توفي 436هـ «وابن منده» توفي 511هـ، حتى قال الحافظ الذهبي عن ما دار بينهما: «وكلام ابن منده في أبي نعيم فظيع، لا أُحبُّ حكايته، ولا أقبل قول كلٍّ منهما في الآخر... كلام الأقران بعضهم في بعضٍ لا يُعبأ به، لاسيّما إذا لاح لك أنّه لعداوةٍ أو لمذهب أو لحسد»
(6)، «والمغيرة» توفي 105هـ «والسبيعي» توفي 129هـ «والأعمش» توفي 148هـ. فقد روى جرير عن مغيرة أنّه قال: «ما أفسد حديث أهل الكوفة غير أبي إسحاق والأعمش». قال الذهبي: «لا يسمع قول الأقران بعضهم في بعض»(7)، «وأحمد» توفي 241هـ «وهشام بن عمار» توفي 245هـ فقد قال أبو بكر المروزي: «ذكر أحمدُ بن حنبل هشامَ بن عمّار فقال: طيّاش خفيف»(8).
    ومن ذلك ما كان بين «الفلاس» توفي 249هـ و«السمين» توفي 235هـ حيث ذكر أبو حفص الفلاس محمّدَ بن حاتم البغدادي السمين - من رجال مسلم وأبي داود - فقال: «ليس بشيء». فتعقّبه الذهبي قائلاً: «هذا من كلام الأقران، الذي لا يسمع»
(9).
    ومنه ما كان بين «عبدالمغيث بن زهير» توفي 583هـ و«أبي الفرج بن الجوزي» توفي 597هـ، وقد وقعت العداوة والفتنة الشديدة بينهما، وكلاهما حافظان فقيهان حنبليّان، كان سببها اللعن على يزيد بن معاوية، كان عبدالمغيث يمنع من لعنه، وكتب في ذلك كتابًا وأسمعه للناس، فكتب ابن الجوزي في الردّ عليه كتابًا سمّاه «الرد على المتعصّب العنيد المانع من ذمّ يزيد»، ثمّ تلا ذلك مسائل أُخرى، وقد مات عبدالمغيث وهما متهاجران.
    ومنه ما كان بين «مطين» توفي 297هـ و«ابن أبي شيبة» توفي 235هـ فقد ذكر الحافظ ابن حجر بترجمة محمّد بن عبدالله بن سليمان الحضرمي الملقّب بـ: «مطيَّن» حطّ الحافظ محمّـد بن عثمان بن أبي شيبة عليه، وحطّ مطيّن على ابن أبي شيبة، وأنّ أمرهما آلَ إلى القطيعة. فقال ابن حجر: "ولا نعتدّ - بحمد الله - بكثير من كلام الأقران بعضهم في بعض"(10).
    قال الذهبي: "كلام الأقران بعضهم في بعضٍ يحتمل، وطيّه أَوْلى من بثّه". وعقد له ابن عبدالبرّ في «جامع بيان العلم» بابًا خاصًّا استوفى الكلام فيه على ذلك؛ ولذلك لم يلتفت أهل الجرح إلى مَنْ تُكلّم فيه بسبب المعاصرة - كما يُعلم ذلك من كتب الرجال - ولو عملوا بمقتضاه لما بقي في يدهم راوٍ واحد يُحتجّ به.
    فالمعاصرة تجعلنا أكثر تأنيًا في قبول الآراء، وفي نفس الوقت تجعلنا أكثر مقاومة لأنفسنا في اتهام الأقران والآخرين {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِى القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
(11).

الهوامش:
--------------------
( 1)
من الآية 8 من سورة المائدة.
( 2)
من الآية 24 من سورة الأنفال.
( 3)
أخرجه الترمذي في كتاب «القدر» باب «ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن» حديث (2140)، وابن ماجه في كتاب «الدعاء» باب «دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم» حديث (3834) من حديث أنس رضي الله عنه.
( 4)
«فيض القدير» (4/ 164).
( 5)
«لسان الميزان» (1/ 201).
( 6)
«ميزان الاعتدال» (1/ 251).
( 7)
«سير أعلام النبلاء» (5/ 399).
( 8)
السابق (11/ 427).
( 9)
السابق (11/ 451).
( 10)
«لسان الميزان» (5/ 233).
( 11)
الآية 90 من سورة النحل.

المصدر : كتاب سمات العصر ، لفضيلة مفتى الديار المصرية الدكتور على جمعة