الشهادة في اللغة تعني : الخبر القاطع ، والحضور والمعاينة والعلانية ، والقسم ، والإقرار ، وكلمة التوحيد ، والموت في سبيل الله . وفي الاصطلاح الفقهي : استعمل الفقهاء لفظ الشهادة في الإخبار بحق للغير على النفس ، واستعملوا اللفظ في الموت في سبيل الله ، واستعملوه في القسم كما في اللعان ، كما استعمل الفقهاء لفظ الشهادة في الإخبار بحق للغير على الغير في مجلس القضاء ، وهو موضوع البحث في هذا المصطلح ، واختلفوا في تعريف الشهادة بهذا المعنى على النحو التالي : فعرفها الكمال من الحنفية بأنها : إخبار صدق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء . وعرفها الدردير من المالكية : بأنها إخبار حاكم من علم ليقضي بمقتضاه . وعرفها الجمل من الشافعية بأنها : إخبار بحق للغير على الغير بلفظ أشهد . وعرفها الشيباني من الحنابلة بأنها : الإخبار بما علمه بلفظ أشهد أو شهدت . وتسميتها بالشهادة إشارة إلى أنها مأخوذة من المشاهدة المتيقنة ، لأن الشاهد يخبر عن ما شاهده ، وهي إحدى الحجج التي تثبت بها الدعوى . ويتعلق بقضية الشهادة الشبهة الثانية التي يكررها الآخرون ؛ محاولة منهم لاتهام التشريع الإسلامي بانتقاص المرأة وبظلمه لها ، حيث يرددون : « إن الإسلام ظلم المرأة بأن جعل شهادتها نصف شهادة الرجل » . في البداية يجب أن نعلم أن الشهادة تكليف ومسئولية ، وعندما يخفف الله عن المرأة في الشهادة فهذا إكرام لها ، وليس العكس ، كما علينا أن نعلم كذلك أن الشروط التي تراعى في الشهادة ، ليست عائدة إلى وصف الذكورة والأنوثة في الشاهد ، ولكنها عائدة إلى أمرين : الأول : عدالة الشاهد وضبطه . الثاني : أن تكون بين الشاهد والواقعة التي يشهد بها ، صلة تجعله مؤهلاً للدراية بها والشهادة فيها ، ومن المعلوم أنه إذا ثبت لدى القاضي اتصاف هذا (الشاهد) بهذه الصفات ( أي رقة المشاعر والعاطفة ) فإن شهادته تصبح غير مقبولة ؛ إذ لابد أن يقوم من ذلك دليل على أن صلته بالمسائل الجرمية وقدرته على معاينتها ضعيفة أو معدومة ، وهو الأمر الذي يفقده أهليته للشهادة على تلك المسائل . ومن الحقائق التي يجب أن نعلمها في قضية الشهادة ما يلي : 1) شهادة المرأة وحدها تقبل في هلال رمضان شأنها شأن الرجل . 2) تستوي شهادة المرأة بشهادة الرجل في الملاعنة . 3) شهادة المرأة قبلت في الأمور الخاصة بالنساء ، قال ابن قدامة في المغني : " ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال مثل الرضاعة والولادة والحيض والعدة وما أشبهها شهادة امرأة عدل . ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في قبول شهادة النساء المنفردات في الجملة " ، ويوضح الحكم في موضع آخر فيقول: " تقبل شهادة النساء وحدهن - منفردات عن الرجال - في خمسة أشياء : 1 ـ الولادة . 2 ـ الاستهلال. 3 ـ الرضاع . 4 ـ العيوب التي تحت الثوب كالرتق، والقرن، والبكارة، والثيبوبة، والبرص . 5 ـ انقضاء العدة " . 4) تقبل شهادة المرأة الواحدة . قال ابن قدامة : " وكل موضع تقبل فيه شهادة النساء المنفردات فإنه تقبل فيه شهادة المرأة الواحدة " . وجاء في الحديث : " سأل عقبة بن الحارث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إني تزوجت امرأة . فجاءت أمة سوداء فقالت : إنها أرضعتنا فأمره بفراق امرأته . فقال: إنها كاذبة . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " دعها عنك " ، وقد علق ابن القيم فقال: " ففي هذا قبول شهادة المرأة الواحدة ، وإن كانت أمة وشهادتها على فعل نفسها " ، وقد علق معروف الدواليبي بكلام جميل على هذا فقال : " إن الشريعة الإسلامية اتجهت إلى تعزيز الشهادة في القضايا المالية بصورة مطلقة بشهادة رجل آخر ، إلى جانب الرجل الأول ، حتى لا تكون الشهادة عرضة للاتهام . ولم يعتبر أحد تنصيف شهادة الرجل هنا وتعزيزها بشهادة رجل آخر ماسًّا بكرامته ما دام ذلك التعزيز أضمن لحقوق الناس . وزيادة على ذلك فإن شهادة الرجل لم تقبل قط " وحده " حتى في أتفه القضايا المالية . غير أن المرأة قد امتازت على الرجل في سماع شهادتها " وحدها " ، دون الرجل ، فيما هو أخطر من الشهادة على الأمور التافهة ، وذلك كما هو معلم في الشهادة على الولادة وما يلحقها من نسب وإرث ، بينما لم تقبل شهادة الرجل " وحده " في أتفه القضايا المالية وفي هذا ردٌّ بليغ على مَن يتهم الإسلام بتمييز الرجل على المرأة في الشهادة " . 5) شهادة المرأة تقدم أحياناً على شهادة الرجل بعد سماع الشهادتين: " يثبت خيار الفسخ لكل واحد من الزوجين لعيب يجده في صاحبه . . . وإن اختلفا في عيوب النساء أريت النساء الثقات ويقبل فيه قول امرأة واحدة ، فإن شهدت بما قال الزوج وإلا فالقول قول المرأة " . 6) الشهادة تختلف عن الرواية وقد قُبلت رواية المرأة الواحدة - وما تزال - في كل أمر حتى في الحديث ؛ فالحديث النبوي الذي روته لنا امرأة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) له حجية الحديث نفسه الذي يرويه رجل . ولم يرد أحد قول امرأة لمجرد أنها امرأة ، ونقل الدين وما فيه من تشريع أخطر من الشهادة في حكم قضائي ، قال الشوكاني : " لم ينقل عن أحد من العلماء بأنه رد خبر امرأة لكونها امرأة . فكم من سنة قد تلقتها الأمة بالقبول من امرأة واحدة من الصحابة وهذا لا ينكره من له أدنى نصيب من علم السنة " . وقال ابن القيم : " الشارع - صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله - لم يرد خبر العدل قط، لا في رواية ولا في شهادة ، بل قبل خبر العدل الواحد في كل موضع أخبر به . . . وقبل شهادة الأمة السوداء وحدها على الرضاعة " . بعد هذه الحقائق نجد أن مصدر الشبهة التي حسب مثيروها أن الإسلام قد انتقص من أهلية المرأة ، بجعل شهادتها على النصف من شهادة الرجل : ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ) [ البقرة :282] . هو الخلط بين « الشهادة » وبين « الإشهاد » الذي تتحدث عنه هذه الآية الكريمة ، فالشهادة التي يعتمد عليها القضاء في اكتشاف العدل المؤسس على البينة ، واستخلاصه من ثنايا دعاوى الخصوم ، لا تتخذ من الذكورة أو الأنوثة معيارًا لصدقها أو كذبها ، ومن ثم قبولها أو رفضها ؛ وإنما معيارها تحقق اطمئنان القاضي لصدق الشهادة بصرف النظر عن جنس الشاهد ، ذكرًا كان أو أنثى ، وبصرف النظر عن عدد الشهود . فالقاضي إذا اطمأن ضميره إلى ظهور البينة أن يعتمد شهادة رجلين ، أو امرأتين ، أو رجل وامرأة ، أو رجل وامرأتين ، أو امرأة ورجلين ، أو رجل واحد أو امرأة واحدة . . ولا أثر للذكورة أو الأنوثة في الشهادة التى يحكم القضاء بناءً على ما تقدمه له من البينات. أما الآية فإنها تتحدث عن أمر آخر غير « الشهادة » أمام القضاء ؛ حيث تتحدث عن « الإشهاد » الذي يقوم به صاحب الدين للاستيثاق من الحفاظ على دَيْنه ، وليس عن « الشهادة » التي يعتمد عليها القاضي في حكمه بين المتنازعين . . فهي - الآية - موجهة لصاحب الحق الدَّيْن وليس إلى القاضي الحاكم في النزاع . . بل إن هذه الآية لا تتوجه إلى كل صاحب حق دَيْن ولا تشترط ما اشترطت من مستويات الإشهاد وعدد الشهود في كل حالات الدَّيْن . وإنما توجهت بالنصح والإرشاد فقط النصح والإرشاد إلى دائن خاص ، وفي حالات خاصة من الديون ، لها ملابسات خاصة نصت عليها الآية . . فهو دين إلى أجل مسمى . . ولابد من كتابته . . ولابد من عدالة الكاتب . ولقد فقه هذه الحقيقة حقيقة أن هذه الآية إنما تتحدث عن " الإشهاد" في دَيْن خاص ، وليس عن الشهادة . . وإنها نصيحة وإرشاد لصاحب الدَّيْن ذى المواصفات والملابسات الخاصة وليست تشريعاً موجهاً إلى القاضي الحاكم في المنازعات . . فقه ذلك العلماء المجتهدون . ومن هؤلاء العلماء الفقهاء الذين فقهوا هذه الحقيقة ، وفصّلوا القول فيها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم من القدماء والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده والإمام الشيخ محمود شلتوت من المُحْدَثين والمعاصرين ، فقال ابن تيمية فيما يرويه عنه ، ويؤكد عليه ابن القيم : قال عن « البينة » (1) التي يحكم القاضي بناء عليها ، والتي وضع قاعدتها الشرعية والفقهية حديث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : « البينة على المدعى ، واليمين على المدعى عليه »( 2) إن البينة في الشرع ، اسم لما يبيّن الحق ويظهره ، وهى تارة تكون أربعة شهود ، وتارة ثلاثة ، بالنص في بينة المفلس ، وتارة شاهدين ، وشاهد واحد ، وامرأة واحدة ، وتكون نُكولاً( 3) ، ويمينًا ، و خمسين يمينًا أو أربعة أيمان ، وتكون شاهد الحال ، فقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : « البينة على المدعى » ، أي عليه أن يظهر ما يبيَّن صحة دعواه ، فإذا ظهر صدقه بطريق من الطرق حُكِم له ا.هـ . فكما تقوم البينة بشهادة الرجل الواحد أو أكثر ، تقوم بشهادة المرأة الواحدة ، أو أكثر ، وفق معيار البينة التي يطمئن إليها ضمير الحاكم - القاضي - ، وبعد ذلك بقليل علق ابن القيم قائلاً : « قلت : وليس في القرآن ما يقتضى أنه لا يُحْكَم إلا بشاهدين ، أو شاهد وامرأتين ، فإن الله سبحانه إنما أمر بذلك أصحاب الحقوق أن يحفظوا حقوقهم بهذا النِّصاب ، ولم يأمر بذلك الحكام أن يحكموا به ، فضلاً عن أن يكون قد أمرهم ألا يقضوا إلا بذلك . ولهذا يحكم الحاكم بالنكول ، واليمين المردودة ، والمرأة الواحدة ، والنساء المنفردات لا رجل معهن وبعد هذا الضبط والتمييز والتحديد (4) . وقد علل ابن تيمية حكمة كون شهادة المرأتين تعدلان شهادة الرجل الواحد ، بأن المرأة ليست مما يتحمل عادة مجالس وأنواع هذه المعاملات ، لكن إذا تطورت خبراتها وممارساتها وعاداتها ، كانت شهادتها حتى في الإشهاد على حفظ الحقوق والديون مساوية لشهادة الرجل . . فقال : « ولا ريب أن هذه الحكمة في التعدد هى في التحمل ، فأما إذا عقلت المرأة ، وحفظت وكانت ممن يوثق بدينها فإن المقصود حاصل بخبرها كما يحصل بأخبار الديانات ، ولهذا تُقبل شهادتها وحدها في مواضع ، ويُحكم بشهادة امرأتين ويمين الطالب في أصح القولين ، وهو قول مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد »(5) ونفس هذا المعنى ذكره الإمام محمد عبده ، عندما أرجع تميز شهادة الرجال على هذا الحق الذي تحدثت عنه الآية على شهادة النساء ، إلى كون النساء في ذلك التاريخ كن بعيدات عن حضور مجالس التجارات ، ومن ثمَّ بعيدات عن تحصيل التحمل والخبرات في هذه الميادين ، وهو واقع تاريخي خاضع للتطور والتغير ، وليس طبيعة ولا جبلة في جنس النساء على مر العصور ، فقال : « تكلم المفسرون في هذا ، وجعلوا سببه المزاج ، فقالوا : إن مزاج المرأة يعتريه البرد فيتبعه النسيان ، وهذا غير متحقق ، والسبب الصحيح أن المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات ، فلذلك تكون ذاكرتها ضعيفة ، ولا تكون كذلك في الأمور المنزلية التي هي شغلها ، فإنها أقوى ذاكرة من الرجل ، يعنى أن من طبع البشر ذكراناً وإناثاً أن يقوى تذكرهم للأمور التي تهمهم ويكثر اشتغالهم بها » (6) . ولقد سار الشيخ محمود شلتوت الذي استوعب اجتهادات ابن تيمية وابن القيم ومحمد عبده مع هذا الطريق ، مضيفًا إلى هذه الاجتهادات علمًا آخر عندما لفت النظر إلى تساوى شهادة الرجل في « اللعان » فكتب يقول عن شهادة المرأة وكيف أنها دليل على كمال أهليتها : وذلك على العكس من الفكر المغلوط الذي يحسب موقف الإسلام من هذه القضية انتقاصًا من إنسانيتها . . كتب يقول : إن قول الله سبحانه وتعالى : ( فَإِن لَّم يَكُونَا رَجُلَينِ فَرَجُلٌ وَاَمَرأَتَانِ ) [ البقرة :282] ليس واردًا في مقام الشهادة التى يقضى بها القاضى ويحكم ، وإنما هو في مقام الإرشاد إلى طرق الاستيثاق والاطمئنان على الحقوق بين المتعاملين وقت التعامل( الآية ) فالمقام مقام استيثاق على الحقوق ، لا مقام قضاء بها . والآية ترشد إلى أفضل أنواع الاستيثاق الذي تطمئن به نفوس المتعاملين على حقوقهم ، وليس معنى هذا أن شهادة المرأة الواحدة أو شهادة النساء اللاتى ليس معهن رجل ، لايثبت بها الحق ، ولا يحكم بها القاضى ، فإن أقصى ما يطلبه القضاء هو «البينة» . وقد حقق العلامة ابن القيم أن البينة في الشرع أعم من الشهادة ، وأن كل ما يتبين به الحق ويظهره ، هو بينة يقضى بها القاضى ويحكم . ومن ذلك : يحكم القاضى بالقرائن القطعية ، ويحكم بشهادة غير المسلم متى وثق بها واطمأن إليها ، واعتبار المرأتين في الاستيثاق كالرجل الواحد ليس لضعف عقلها ، الذي يتبع نقص إنسانيتها ويكون أثرًا له ، وإنما هو لأن المرأة كما قال الشيخ محمد عبده " ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات ، ومن هنا تكون ذاكرتها فيها ضعيفة ، ولا تكون كذلك في الأمور المنزلية التى هى شغلها ، فإنها فيها أقوى ذاكرة من الرجل ، ومن طبع البشر عامة أن يقوى تذكرهم للأمور التى تهمهم ويمارسونها ، ويكثر اشتغالهم بها . والآية جاءت على ما كان مألوفًا في شأن المرأة ، ولا يزال أكثر النساء كذلك ، لا يشهدن مجالس المداينات ولا يشتغلن بأسواق المبايعات ، واشتغال بعضهن بذلك لا ينافي هذا الأصل الذي تقضى به طبيعتها في الحياة ( 7) . إلى هذا الحد من النقل والتحليل نكون قد رددنا على من حاول إلصاق تهم إلى هذا التشريع الحكيم ، ونحن نرى في إلقاء تلك التهم على فروعنا شرعنا الحنيف تخبط في الآخرين يؤكد لنا أن هذا الشرع متين ، وأنه من لدن حكيم خبير والحمد لله رب العالمين . --------------------- (1) الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية ( ص 34 ) تحقيق : محمد جميل غازي . طبعة القاهرة . (2) صحيح البخاري ( ج2 ص 931 ) وابن حبان فى صحيحه ( ج13 ص 358 ) . (3) هو الامتناع عن اليمين . (4) الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية ص 34 . تحقيق محمد جميل غازى . طبعة القاهرة . (5) إعلام الموقعين عن رب العالمين ( ج1 ص95 ) . طبعة بيروت سنة 1973 م . (6) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ( ج4 ص 732 ) . دراسة وتحقيق : د . محمد عمارة . طبعة القاهرة . (7) الإسلام عقيدة وشريعة ( ص 239 - 241 ) . طبعة القاهرة سنة ( 1400 ) هجرية سنة 1980 .