لا يوجد مصطلح يؤثر في نفس الإنسان، ويحدث في نفسه هزة كمصطلح السعادة، ولذلك أستغل هذا المصطلح أسوأ الاستغلال، وتعرض لعلميات تعليب وتغير، وزيادة وبتر، وأصبحت ترى أفواجاً من الناس يموجون يمنة وسره كأنهم دمي، وذلك لما يعرض عليهم من سلع وخدمات، وأعمال واجتماعات، بدعوى أنها تجلب لهم السعادة ولكن هؤلاء العابثون اللاهون من الصنفين قد واجهوا حقيقة مرة، واصطدموا بمشكلة كبيرة، أينما توجهوا وجدوها إنها مشكلة "عدم تحقق السعادة ". لقد تفننوا في التنقيب عن طرق تجلبها، وسخروا عقولهم وطاقاتهم في سبيل تحقيقها، وأنفقوا أموالهم وأوقاتهم من أجل تحصيلها، حتى بدؤوا يشعرون بالذعر والخوف والقلق، ولكن ليس بسبب "عدم تحقق السعادة " التي يطلبون فقط ، ولكن لشعورهم باستنفاذ الوسع، وبلوغ الغاية، والنتيجة في كل مرة " لاشيء "، وعلى أحسن الأحوال " سعادة مؤقتة " ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه أو ربما أسوأ، صاحب هذا عدم وجود بوارق أمل يدفعون ما يشعرون به من موجات القلق والاضطراب. ووجدوا في تحصيل السعادة واستمرارها عقبات ومشاكل منها: 1ـ أن السعادة شيء معنوي، وهم يتعاملون مع المحسوس، يعني ذلك أنهم لا يستطيعون أن يضعوا مصطلح السعادة تحت سندان الترهيب، ولا أن يذيقوه حلاوة الترغيب، فلا يستطيعوا أن يجيشوا الجيوش الجرارة فيحطموه ولا أن يغدقوا عليه الأموال فيستميلوه. 2ـ وجدوا في السعادة مشكلة أنها تتعامل مع الحقائق مباشرة ولا تقبل الوساطة، فلا يُحسّن عندها القبيح، و لا يُقبّح عندها الحسن، ولا ينطوي عليها تشويه الحقائق و لوسموها بغير لسمها، هذا يعني أن الإمكانيات الإعلامية الضخمة من المقروء والمسموع والمشاهد، لا تغني ولا تسمن من جوع مع المصطلح الذي يتهافتون عليه. 3ـ وجدوا في السعادة مشكلة أنها لا تقبل التناقض، وتنفر منه وتأباه و ترفضه، وأشد أنواع التناقض هو تناقض الروح والجسد، فالجسد يلقي أشد العناية والاهتمام، بينما تطرح الروح على مائدة الحرمان، بل وتقبع في عالم النسيان، و السعادة تشترط التوافق بين الروح و الجسد كشرط وجود، مما يعني حتمية التنازل عن كثير من المبادئ و القيم الغربية، فكيف وهم يعدونها شرطاً لقيادة العالم والإمساك بزمامه، فهم بين شرطين أحلاهما مُر، إما القيادة و إما السعادة. 4ـ وجدوا في السعادة مشكلة أنها لا تقبل التشكل والتلوين، فأحضروا علماء الزينة والمكياج، لإجراء عملية تجميل لها، ليشهدوا وجهها، ويطيلوا شعرها، ويضيقوا خصرها، ويوسعوا عينها، ولكن الفريسة في هذه المرة نفرت، ورفضت وتمنعت، وقالت: لا، في وقت قال الكثير: نعم، وهزت رأسها سلباً، في وقت هز الكثير رؤوسهم إيجاباً. 5ـ المشكلة في السعادة أنها تحكمها المبادئ والثوابت، ولكن القوم حذفوا هذا المصطلح من قاموسهم فليس عندهم ثوابت ومبادئ تحكم حياتهم ويرجعون إليها عند الحاجة، بل هم تائهون في كل يوم لهم وجهة، وهذا من أسرار عدم مصاحبة السعادة لهم، واستمرارها معهم، أنهم يفارقونها عند مفترق الطرق، فبيناهم يأخذون طريق المنعطفات والعقبات، وربما يعودون إلى من حيث ما بدؤوا، تسير السعادة في طريقها الواضح على ضوء المبادئ والثوابت لم يثنها تثبيط المثبطين، و لا انقطاع المنقطعين، ولازالت القافلة تسير تحمل معها الكثير من الأعباء والمخالفات، ثم يزعمون مع هذا أنهم يجلبون السعادة للبشرية، ويحهم! عن أي سعادة يتحدثون؟ وأرقام الجريمة والانتحار والقتل والإدمان والقلق والاضطرابات العصبية أصبحت من أسباب انزعاجهم، فضلاً عن خواء الروح و تولي الشيطان و الخوف من المستقبل...إلخ
، ثم يزعمون بعد ذلك تصدير السعادة، و جندوا فئة من التعساء يضعون قواعد السعادة ويحدون حدودها، وهم أبعد الناس عن ذلك، حتى ضاقت السعادة ذرعاً بذلك، وكادت تعلن الرحيل لولا يقينها بأن هناك بقايا ممن يعيشون على المنهج الحق ويحملون همّيه، هم الاحتفاظ به وهم تبليغه للناس، فتطلق صيحة مدوية في وجوه الأعداء " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة " ثم تدلهم على طريقها المستقيم الواسع الواضح "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون". ولذلك عبر عنها من ذاقها بكلمات صادقة، لا أدري أتكلم بها لسانه أم نضح بها فؤاده، حين قال: أبو العباس ابن تيمية – رحمه الله –: " من أراد السعادة الأبدية، فليلزم عتبة العبودية " فيا من يُريد السعادة الحقيقية: الزم الباب، و اطّرح على عتبة العبودية، و رابط حتى يُفتح لك، فإن السعادة ثمّ.