فوق أبراج الحمام

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : طالب همّاش | المصدر : www.adab.com

 

متأبطاً ناييْ القديمَ،‏

ذهبتُ أبكي فوقَ أبراجِ الحمامْ!‏

لكأنني رجلُ الكهانةِ‏

في كنائسِ حزنيَ العالي،‏

وأتباعي اللقالقُ واليمامْ.‏

أَوَكُلَّما أصغيتْ أسمعُ من بعيدٍ‏

صوتَ روحيَ ضائعاً يتوجّعُ؟‏

أو كلما أحببتُ امرأةً‏

غرقتُ بحزنها؟‏

وأنا وحيدٌ ضائعُ!!‏

والروحُ ثكلى‏

والكمنجةُ لا تملُّ من الهزامْ!‏

والأرضُ أمُّ الناسِ‏

لم تشعرْ بآلامي‏

ولم تسمعْ صراخيَ في الحطامْ!‏

فحملتُ مزماري القديمَ‏

***‏

ورحتُ أبكي فوق أبراجِ الحمامْ!‏

لكأنّني شيخوخةُ الخسرانِ‏

في مُتَعَزَّلي العالي‏

وحارسُ وحشة المعتزّلينْ!‏

النائحينَ، المبعدينَ، الغائبينَ،‏

الموحشينَ المفردينْ!‏

أنا كلُّ هذا الثكل‏

محمولاً على أكتافِ من غابوا،‏

ومرفوعاً على الصلبانِ‏

من حواءَ حتى مريم الحزنِ المجدّفِ‏

في بحارِ النادمينْ!‏

نذراً عليّ لئنْ رأيتكَ‏

يا عزيزَ الروحِ من بعدِ الغيابِ‏

لأبكينَ إليكَ من مُتَعَبَّدي النائي‏

بكاءَ الفاقدينْ!‏

أنّى حللتَ وأنتَ مخلوقٌ فروقٌ،‏

موحشُ الدنيا، حزينْ؟‏

في أيّ (أيلولٍ) من الأيامِ‏

خلَّفكَ الخريفُ؟..‏

تضمُّ دنياكَ الحزينةَ في إزاركَ‏

لا تُبانُ ولا تبينْ!‏

ما زالَ صوتكَ لائباً في الروحِ‏

ما زلتْ خيولُ الريحِ‏

تحملُ في المساءِ‏

أنينَ مثواكَ الجريحْ!‏

يا ليتني حجرٌ على ذاكَ الضريحْ!‏

لأظلَّ أسمعَ نايكَ المعتلَّ‏

في الأيامِ..‏

ينشجُ: يا مسيحْ:‏

لهفي عليكَ وأنت ريحانٌ وريحٌ،‏

أن تباعدكَ السنينْ!‏

ضاقتْ عليكَ الأرضُ وهيَ رحيبةٌ‏

والنفسُ وهي عزيزةٌ..‏

فضممتَ روحكَ وانسللتَ بوحشةٍ،‏

كالخلدِ في رحمِ الظلامْ.‏

وتركتني مستوحشاً في ركنكَ النائي‏

يأوّهني هديلُ الروحِ كالناياتِ..‏

والحسراتُ تذروني كأصداءِ‏

المراثي فوق أبراج الحمامْ.‏

كلُّ الذينَ أحبهمْ حملوا حقائبهمْ وخلّوني وحيداً‏

بين عائلةِ اللقالقِ واليمامْ!‏

أبكي فيحفرُ ثعلبٌ في الأرضِ‏

أنفاقاً ليأسِ الروحِ‏

ثم يجوسُ في عتماتها‏

بحثاً عن المعنى الذي فقدتهُ باصرةُ الخليقةِ‏

حينما اكتشفَ الكلامْ.‏

ويشجّرُ اللبلابُ وحشته على الجدرانِ‏

بحثاً عن أنينِ الناي في الأعلى‏

فتسقطُ جثّةُ النهوندِ فوق الضارعينْ.‏

أبكي فيحتطبُ النشيجُ جراحهُ‏

بالفأسِ من حلقِ الرياحِ المرِّ‏

معتصراً ثمالتها على شفتيهِ‏

كالسكّيرِ‏

ثم يخرُّ مذبوحاً بسكّينِ الحنينْ.‏

ويضرّجُ الأفقَ الجريحَ‏

بصرخةِ الموتِ الأخيرةِ‏

ثم يسقطُ في انتحارٍ رائعٍ‏

فوق البراري‏

طائرُ الموتِ الحزينْ!‏

أبكي فتضربُ وحشةُ الحزنِ القديمةُ‏

في عراءِ الروحِ ميتمها الكئيبَ‏

وتقرعُ الأجراسُ ناحبةً‏

على أبوابِ مريمَ في ظلامِ الليلِ‏

قرعَ اليائسينْ!‏

ويرجّعُ الناقوسُ وحدتها الثقيلةَ‏

بالرنينِ الصعبِ ساعاتِ السآمةِ‏

ثم يغرقُ في دماءِ المنشدينْ!‏

وأنا حزينٌ‏

وسطَ هذي الريح‏

أنظرُ في فجاجِ الأرضِ كالنسرِ الجريحِ‏

وأكتفي بالدمعِ مثلَ العاشقينْ!‏

فالليلُ هذا المولويُّ الكهلُ‏

لم يتعبْ مَنَ التحديقِ في ندمي‏

ولم تحدبْ على روحي غداةَ اليأسِ‏

عاهلةُ الظلامْ!‏

فضربتُ كالبجعِ المهيضِ‏

بجانحي السكرانِ جدرانَ الهواء‏

وطرتُ كي أبكي وحيداً‏

فوق أبراج الحمامْ!‏

***‏

آنستُ ليلاً هادئاً‏

فجلستُ أنصتُ كاليسوعِ‏

إلى بكاءِ الروحِ‏

في مُتَعَبَّدي العالي..‏

وأحتطبُ النياحةَ من أعالي السنديانْ!‏

غيرُ الغيومِ السودِ‏

لم تشرفْ على يأسي..‏

وما سمعتْ بكائي‏

غيرُ أصواتِ الآذانْ!‏

وأنا الذي باكيتُ كلَّ حزينةٍ‏

ثكلى‏

فما قرأتْ على ليلي مراثيها..‏

ولا رقّتْ على روحي‏

سوى الناي الكفيفةِ والربابة والكمانْ!‏

يا ليتني شجرٌ أشيلُ الريحَ‏

بين جوانحي..‏

وأهزُّ أغصاني ليغفو العمرُ‏

في مهدِ الحفيفِ بلذّةٍ،‏

ويفيءَ تحتيَ عاشقانْ!‏

يا ليتني إبريقُ راهبةٍ‏

يذهبهُ غروبٌ (أخضرٌ)‏

وحمامتانِ حزينتانْ!‏

يا ليتني نايٌ‏

تكفكفُ دمعه شفةٌ‏

وتحضنهُ يدان رحيمتانْ!‏

يا ليتني مرآةٌ عاشقةٍ‏

تسرّحني ضفائرها الشفيفةُ‏

في سهولِ البيلسانْ!‏

يا ليتني قمرٌ طليقٌ في سماواتِ الأذانْ!‏

لا أقْرَبُ الأرضَ الضريرةَ‏

أو ألامسُ صدرها‏

إلا كما يرتاحُ عصفورٌ على صفصافها‏

وقتاً ويرجعُ للغمامْ!‏

فالأرضُ أمّ الناس‏

لم تشعرْ بآلامي،‏

وما سمعتْ صراخي في الحطامْ!‏

فحملتُ مزماري القديم!‏

ورحتُ كي أبكي وحيداً‏

فوق أبراج الحمامْ!