ذكر ابن أبي الدنيا عن الفضيل بن عياض قال: "أوحى الله إلى بعض الأنبياء: " إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لايعرفني".. الجواب الكافي31، حلية الأولياء 1/91 هذا الأثر يحتوي أمرين: - ذكر عصيان من يعرف الله تعالى… - ذكر تسلط من لا يعرف الله تعالى على من عصى الله تعالى وهو عارف به.. فمن الذي يعرف الله تعالى؟، ومن الذي لا يعرف الله تعالى؟، وكيف يتسلط هذا على ذاك؟.. الذي يعرف الله تعالى هو الذي تعرف عليه بنعمه الدنيوية والدينية: - فأما النعم الدنيوية فهي مجتمعة في شيئين: الأمن والشبع.. قال تعالى: {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}.. - نعمة الأمن من أكبر النعم لا يعرفها إلا الخائف، وتتبين هذه النعمة وتكتمل، إذا اطلع الإنسان على أحوال الخائفين، الذين لا يجدون الأمن، ممن تهدم مساكنهم، ويشردون من ديارهم، ولا يجدون ملجأ، ولا يأمنون على أنفسهم وأهليهم وأعراضهم وأموالهم.. فالأمن في ذاته نعمة، والأعظم من ذلك أن نرى ونسمع ونقرأ عن أحوال من لا يملكون الأمن، ويعيشون الخوف كل ساعة، فبذلك ندرك قدر هذه النعمة. - ونعمة الشبع نعمة كبرى، يقابلها الجوع والفقر، وكل يوم نطلع على أحوال الفقراء والجوعى من حولنا، ما يذكر بهذه النعمة، إن بعضهم يأكل العشب لايجد غيره، وبعضهم يأس من القوت، فبادره بحفر قبره ينتظر الموت، فالجوع اليوم في كل مكان، حتى حولنا. فهاتان النعمتان يتعرف الله بهما إلى عباده، لتكون تذكيرا بحقه في الطاعة: {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}، فمن عصاه بعدما تعرف عليه بنعمه الدنيوية، سلط الله عليه من لايعرف ربه ولايخافه.. - وأما النعم الدينية: فهي أكبر من نعم الدنيا، وأعظمها الإسلام، فمن هدي إليه فقد هدي إلى الخير كله، قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.. ثم تليها في النعمة الهداية إلى أتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضوان الله عليهم من بعده، فمتبعهم هو الناجي من النار، فقد أخبر النبي فقال: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا واحدة)، هي تلك المتبعة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.. ثم بعد ذلك إذا عرف الإنسان الحلال والحرام، فقد قامت عليه الحجة، وصار في عداد من يعرف الله تعالى، فلا عذر بعد ذلك في العصيان، فإن عصى فقد تعرض لسخط الجبار فلا يأمن من تسلط من لا يعرف الله. وأعظم من أولئك نعمة، وأكثرهم معرفة بالله تعالى، من يسر الله له طلب العلم، بوجود العلم والعلماء، وكفاه هموم الدنيا، وفرغه للتعلم، فعلم الحلال والحرام والمكروه والمستحب والمباح، فتفقه في الدين وفهم أمر الله تعالى، وعرف ذرائع الخير وذرائع الشر، ووقف على مقاصد الشريعة وآدابها ، وقرأ سير الغابرين وأخبار الصالحين والهالكين.. حتى تبين له ما يفعل وما يذر وما يتقي، وماينفع وما يضر، فكان بمنزلة من آتاه الله آياته، فمثل هذا الحجة عليه قائمة أتم قيام،.. فمثله لايوعظ، بل يعظ، فإن عصى وأصر وضل فقد تعرض لأمر خطير، وقد قيل: "شر الضلال ضلال بعد هدى"، وفي هذا جاءت النصوص متوعدة الذين يقولون ما لايفعلون، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}.