بشارة النبي صلى الله عليه و سلم به : قال النبي صلى الله عليه وسلم مبشراً بأبي حنيفة: " لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجل من فارس ". وفي لفظ لمسلم: " لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجل من أبناء فارس حتى يتناوله ".
نزل ثابت والد الإمام الكوفة وكان من وجوه بلاد فارس، وعمل بالتجارة و كان ماهراً فيها و حافظ على نفس المستوى الاجتماعي الذي عاشته الأسرة من قبل، في رخاء و بحبوحة. التقى ثابت الإمام عليّ كرَّم الله وجهه الذي دعا له بالبركة فيه وفي ذريته.
والإمام أبو حنيفة هو النعمان بن ثابت بن زوطي، ولِدَ سنة 80 من الهجرة بالكوفة. بدأ أبو حنيفة و منذ نعومة أظافره يذهب مع أبيه إلى متجره حيث كان يلازمه ويتعلم منه أصول وأسس التعامل مع البائعين والمشترين، وتابع خطى أبيه و عاش في رخاء ويُسر وكان بزّازاً أي تاجر أقمشة وثياب وكان له شريك في متجره يساعده.
حرصه على الكسب الحلال: كان يقول: " أفضل المال الكسب من الحلال وأطيب ما يأكله المرء من عمل يده ".
جاءته امرأة بثوب من الحرير تبيعه له فقال كم ثمنه، قالت مئة، فقال هو خير من مئة، فقالت مئتين، فقال هو خير من ذلك، حتى وصلت إلى أربع مئة فقال هو خير من ذلك، قالت أتهزأ بي؟ فجاء برجل فاشتراه بخمسمائة.
وذات يوم أعطى شريكه متاعاً وأعلمه أنَّ في ثوب منه عيب وأوجب عليه أن يبين العيب عند بيعه. باع شريكه المتاع ونسي أن يبين ولم يعلم من الذي اشتراه، فلما علم أبو حنيفة تصدَّق بثمن المتاع كله.
وكان أبو حنيفة يجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة فيشتري بها حوائج الأشياخ و المحدثين و أقواتهم وكسوتهم و جميع لوازمهم ثم يدفع باقي الدنانير من الأرباح إليهم ويقول: أنفقوا في حوائجكم ولا تحمدوا إلا الله فإني ما أعطيتكم من مالي شيئاً ولكن من فضل الله عليّ فيكم.
كان الخليفة أبو منصور يرفع من شأن أبي حنيفة و يكرمه ويرسل له العطايا و الأموال و لكن أبا حنيفة كان لا يقبل عطاءً. و لقد عاتبه المنصور على ذلك قائلاً: لم لا تقبل صلتي؟. فقال أبو حنيفة: ما وصلني أمير المؤمنين من ماله بشيء فرددته ولو وصلني بذلك لقبِلتُه إنما وصلني من بيت مال المسلمين ولا حق لي به.
وقع يوماً بين الخليفة المنصور وزوجته شقاق وخلاف بسبب ميله عنها، فطلبت منه العدل فقال لها من ترضين في الحكومة بيني وبينك؟ قالت أبا حنيفة، فرضي هو به فجاءه فقال له: يا أبا حنيفة زوجتي تخاصمني فانصفني منها، فقال له أبو حنيفة: لِيتكلَّم أمير المؤمنين. فقال المنصور: كم يحلُّ للرجال أن يتزوج من النساء؟ قال: أربع. قال المنصور لزوجته: أسمعتِ. فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين إنما أحلَّ الله هذا لأهل العدل فمن لم يعدل أو خاف أن لا يعدل فواحدة لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، فينبغي لنا أن نتأدَّب مع الله و نتَّعظ بمواعظه . فسكت المنصور وطال سكوته، فقام أبو حنيفة وخرج فلما بلغ منزله أرسلت إليه زوجة المنصور خادماً ومعه مال وثياب، فردها وقال: أقرئها السلام وقل لها إنما ناضلتُ عن ديني وقمتُ بذلك المقام لله ولم أرد بذلك تقرباً إلى أحد ولا التمستُ به دنيا.
حرصه على مظهره: كان حريصاً على أن يكون مظهره حسناً تماماً لذا كان كثير العناية
بثيابه.
رأى مرة على بعض جلسائه ثياباً رثة فأمره أن ينتظر حتى تفرَّق المجلس وبقي وحده فقال له: ارفع المصلى وخذ ما تحته، فرفع الرجل المصلى وكان تحته ألف درهم، وقال له خذ هذه الدراهم وغيِّر بها حالك، فقال له الرجل إني موسر وأنا في نعمة و لستُ أحتاج إليه، فقال له أبو حنيفة: أما بلغك الحديث: " إنَّ الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " ؟.
طلبه للعلم: لزم أبو حنيفة عالِم عصره حمّاد بن أبي سليمان وتخرَّج عليه في الفقه و استمر معه إلى أن مات. بدأ بالتعلم عنه وهو ابن 22 سنة و لازمه 18 سنة من غير انقطاع و لا نزاع. يقول أبو حنيفة: " بعد أن صحبتُ حمّاداً عشر سنين نازعتني نفسي لطلب الرياسة، فأردتُ أن أعتزله و أجلس في حلقة لنفسي. فخرجتُ يوماً بالعشيّ وعزمي أن أفعل، فلمّا دخلتُ المسجد رأيتُه ولم تطب نفسي أن أعتزله فجئتُ فجلستُ معه، فجاء في تلك الليلة نعي قرابة له قد مات بالبصرة، وترك مالاً و ليس له وارث غيره، فأمرني أن أجلس مكانه. فما هو إلا أن خرج حتى وردت عليَّ مسائل لم أسمعها منه، فكنتُ أجيب وأكتب جوابي. ثم قَدِمَ، فعرضتُ عليه المسائل وكانت نحواً من ستين مسألة، فوافقني بأربعين وخالفني في عشرين، فآليتُ على نفسي ألا أفارقه حتى يموت و هكذا كان ".
وكان أبو حنيفة شديد الأدب مع شيوخه حتى أنه كان لا يتخلى باتِّجاه بيت شيخه حمَّاد كان إذا نام يحرص أن لا تتوجه قدماه باتجاه بيت شيخه حمَّاد. و قيل إن أبا حنيفة لم يكثر من الشيوخ مخافة أن تكثر حقوقهم عليه فلا يستطيع أداءها، فتأملوا في أدبه الرائع !.
ولعه بالفقه الفَرَضي: أولع أبو حنيفة بالفقه الفرضي بخلاف معظم علماء عصره الذين كانوا يقولون نحن مضطرون أن نُعَلِّم حكم الله في أمر حصل أمّا إذا لم يقع لا نحمِّل أنفسنا هذه المؤونة. ومعظم شيوخ أبي حنيفة كانوا على هذا المنوال وإن وُجِدَ فيهم من استجاز لنفسه أن يتوسع قليلاً فإلى حد محدود جداً. وأبو حنيفة كان على النقيض إذ كان يفرض الوقائع و إن لم تقع و كان يتأمل في حكمها و يعطي كلاً منها فتوى. هذا الأمر أعطى فقهه غزارة و غنى و مدعاة لأن يتبع الناس الفقه الأوسع والأكثر استجابة لواقع الحال، فما لم يقع اليوم سيقع غداً لاسيما عندما يكون هذا الإمام عالماً بعلم الإجتماع و خبيراً بالمشكلات التي ستنجم، مثال ذلك: لقي أبو حنيفة قتادة رضي الله عنه وهو عالِم من أجلِّ علماء الحديث فسأله ما تقول في رجل غاب عن أهله أمداً طويلاً ولم يُعرَف مصيره، فتزوجت امرأته من زوج آخر وبعد حين جاء زوجها، ما تقول في هذا؟ قال قتادة: أوقعت هذه المسألة؟ قال لا، فقال له و قد ظهر الغضب على وجهه: فلماذا تسألني عنها ؟ قال له هذا الكلام المهم: " إننا نستعد للبلاء قبل نزوله فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه ".
فتنته مع أبي هبيرة: كان أبو هبيرة والياً بالكوفة في زمان بني أميّة، فظهرت الفتن بالعراق، فجمع فقهاءها ببابه وفيهم ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود بن أبي هند، فولّى كل واحد منهم صدراً من عمله، وأرسل إلى أبي حنيفة فأراد أن يجعل الخاتم في يده ولا يُنفذ كتاب إلا من تحت يده ولا يخرج من بيت المال شيء إلا من تحت يد أبي حنيفة. وكان المقصود حمل أبي حنيفة على الولاء له قسراً وقهراً أو إغراءً بالإكثار من المسؤوليات والمهمات، فامتنع أبو حنيفة وقال لو أرادني أن أعد له أبواب ماجد واسط لما فعلتُ!
سُجِنَ أبو حنيفة وضُرِبَ ضرباً مبرحاً مؤلماً أياماً متتالية حتى سقط فاقد الوعي.