سنوات من الغربه
يومُ لا يشبه الألف يوم التي قبله ولا التي بعده , في هذه القرية الصغيرة , التي حُشرت بين جبلين يحرسانها من الغرباء و الأعداء وربما من الخير نفسه , تقافزوا فرحا.
في هذه القرية لا فضل لنهار على ليل , تطل الشمس من خلف جبل لتنام خلف آخر, يظهر القمر بخجل من وراء أحد الجبلين ليختفي خلف آخر , هطل الفرح مطرا. هنـا لا فائدة من حساب الأيام , فحسابها يجر الويلات عليهم , تثور الأحزان حينها و الأشجان, قبروا حنينهم ليعيشوا , استسلموا لليأس , ونسوا الأيام , فلا فائدة من حسابها إلا عندما يقدم أحدهم إجازة هنـا يحسب الأيام بالثواني علها تسرع قليلا بل كثيرا ليعود. جاءوا إليها مرغمين , بحثا عن الحياة , تبعوا مطهرهم الخاص , فقد هطل هنـا رغما عنهم و عن حارسيها الأمينين , وأهلها. في آخر القرية سكنوا , يلوكون غربتهم و أمانيهم و يحلمون بالعودة , جمعتهم المنفية كما يسمونها , تحولوا أخوة "إن المصائب يقربن المصابينا" و ربما وصلوا للأنا.* وعاد حامد رماهم القدر هنـا وأدار ظهره , ربما تناساهم أو نساهم من فرط الزحام, صرفوا الكثير من سنوات عمرهم فيها , حاولوا العودة وكانت خيبة الأمل في النهاية تنتظرهم , ليعودوا غرباء منكسرين , وكأن مرارة الغربة وحدها لا تكفي, يجتمعون في أوقات كثيرة صامتين لا يتكلمون وماذا يقولون , ينظرون إلى بعضهم بعيون ملؤها الخوف لا تكاد ترى شيئا , تنتقل من زاوية إلى أخرى ولا ترى شيئا , سوى العودة, أوطانهم أصدقائهم أمكان تحملت شغب طفولتهم و أوهامهم " الشمس أجمل في بلادي من سواها, والظلام حتى الظلام - هناك أجمل, فهو يحتضن العراق"*. خالد فني أشعة كان أقدمهم وصولا إلى المنفية يتذكر كيف وصل , يستقبل كل من يصل حديثا يحدثه بقصته مع المنفية عله يرفع روحه المعنوية ويمتص صدمة الغياب , في بداية الأمر فشل كثيرا واستقال بعض من أتوا إلى المنفية ولكن بمرور الوقت كسب الكثير من الخبرة وأصبح خبيرا في امتصاص صدمات الغياب و أقنع كثيرون أرادوا الاستقالة بالعدول عن رغبتهم. وصل خالد في اليوم الألف من ذلك اليوم, الطريق إليها متعرج كأنه أفعى, ينتظر الموت القادمين بشهية مفتوحة , لا يأبه بخوفهم ولا بالغربة التي تنتظرهم وهي الأخرى موت لكن بشكل آخر , وصل ليجد قرية موحشة يطبق عليها جبلين فتحولت إلى عنبر من إحدى السجون السياسية , قدم ورقة اعتماده كموظف جديد إلى المدير الذي رحب بقدومه لكن ماذا تفعل قطرات الماء مع نارا اجتاحت خلايا جسده بأكمله , لتبدأ رحله البحث عن سكن يحوله وطن "منازلنا تصغير لأوطاننا " , بحث عن "عزبه" للموظفين فلم يجد , كل العمال أجانب كما سماهم الموظف , أحتار أين يذهب وأين يسكن , لم يسعفه الكرم العربي المتعارف عليه , فأهل هذه القرية لا يرحبون بالغرباء ولو كانوا أتين لخدمتهم , يعتقدون أن الغريب أتى ليأخذ "مكان عيالهم" , "عيالهم" الذين لم يكملوا "سنه ساته" , أحتار خالد أين يذهب لتمتد له يد أجنبيه , دله على شقة يمكن أن يستأجرها , هنـا أرتاح خالد قليلا , فالوحشة تبدأ صغيرة وتكبر مع الأيام والسنوات , لا تخمد ولا تضمحل , بعدها يقول خالد قدم الشباب أفواجا أفواجا , وهم كما ترى الآن . يجلس الغرباء كل يوم على قهوتهم التي يعدونها بأنفسهم , يطحنون البن والهيل والمسمار وتطحنهم الغربة , يعدون القهوة ليتذكروا أمهاتهم وقهوتها المسائية , وتلك الأحاديث التافهة وشجارهم مع إخوتهم ومن منهم يأخذ الفنجان الأول , سٌيِج كل أحد منهم بسياج الغربة يطوقه أينما ذهب كما يطوق الجبلان المنفية , يشعرون إن العودة أبعد ما تكون عن أحدهم , أبعد من مدنهم , من أحلامهم قبل التخرج وهي الأخرى خذلتهم لم يسمح الحارسان بدخولها إلى أن أتى ذلك اليوم فغير الكثير , بدت حياتهم بعده أفراحا و ألوانا فالعودة قربت ومد القدر يده لهم بعد جفاء طويل. في ذلك اليوم أتى خالد راكضا إليهم يحمل ورقة بيده , دخل العزبة بعد أن دفع الباب بقوة كاد يتهشم معها , التفتوا إليه مستغربين من هذا التصرف الأحمق, راح يغني ويرقص , "على بلده المحبوب وديه" لم يفهموا شيئا من هذه التصرفات بدت لهم غريبة غاية في الغرابة. صرخ خالد , حامد جاك نقل , جاك نقل , قوم أرقص تقافزوا فرحا لم يباركوا لحامد بل أكتفوا بالرقص فرحا , كأن الخبر يعني كل أحد منهم , بدأت هذه الليلة الغريبة لمدينة قابعة على تل من الحزن والكآبة , بدأت أفراحا في تلك العزبة المنطوية على ذاتها , أفراحا لم يشهد الجبلان مثلها من قبل أرخيا قبضتيهما على المنفية , سمحوا للفرح أن يمر أو مر رغما عنهما , استمر الفرح لسنوات بعد رحيل حامــد.