- (مشينا) !
قلت ذلك لصديقي ؛ كنت أرى الطريق واسعا كالماء ، على الجانبين تتماوج الأشجار ، و الغيوم قريبة ، و الندى يمشي على الأشجار : متراقصا متمهلا إلى نخيل يانعة و قرى ....
- هل ترى ؟!
تلفتَ ، و سكن وجهه غبار حزين ، قال ، و قد ازداد أسى :
- متعرج هذا الدرب، و صعب ؛ و أشجار هذه المسيرة قصيرة ، لا أوراق خضراء.. السماء جافة .. الصحراء تمتد كطغيان .. كلهم يفرون من العاصفة الكبيرة القادمة . انظر الأتربة الموحشة تقرض الوجوه .
كان يدير بصره كناس تائهين ، قلت له :
- هل ترى ؟ هذه طريقنا .. أمامنا ما بقي لنا من حلم : انظر أمامك لترى .. انظر أمامك !
دار بعينيه في الذعر .. و الكلمات تتبخر من فوق رأسه .. و تواصل نواحه :
- الغبار .. الأتربة .. العاصفة .. أين الطريق ؟
كنا قد أشرفنا على حفل: الناس يزدحمون في الساحة ، منهمكين بنصب نخيل أفراحهم :
هي لأفراح مضت ؟ أو لأفراح قادمة ؟ .. الوجوه متعرقة ، و مبتهجة .. الساحة واسعة .. و سيول القادمين تتواصل ............
جذبته إلى حيث طريق الحفل ؛ رأيت غيوم الحلم تأخذ بالغناء ، و تتسع ؛ و تنبت حيث الناس يصطخبون ، وسعف الأحلام يتراقص فوق رؤوسهم بألوان شتى ....
اتسعت البهجة في الداخل على امتداد سنوات خلت .. و أخرى قادمة .
زهوت بفرح الحلم .
و مددت جذلي إلى صديقي : لكنني لم أجده مع الناس .. هو هناك : رأيته بعيدا ، وقد جفت عيناه ..وهو يتخبط منفردا في اتجاهات شتى ، و هو يحمل رأسا منحدرا أبدا :
كان فارا من الناس كغيمة دون ماء ؛ ابتعد ، ابتعد : فسال حزن قلبي على الأرض ، و بكى ...
رأيته ؛ ينتبذ مكانا قصيا عن ضوء الآخرين ، و يقتل نفسه .
ركضت إليه : و هو يحمل بين يديه جثمانه ، و يواريه .. كانت ظلال الأفراح قد اقتربت : جذبته .. حدثت عينيه الخابيتين و رأسه المنحدر .. لكنه بقي سرابا .
كانت غيوم كثيرة تتهاطل دون ماء .. غيوم من أناس آخرين ، في أراض كثيرة ؛ كانت تشبهه .. كلهم طفقوا يحملون جثثهم ، و يتجهون كالليل إلى المقابر .
توقفت نازفا كبكاء ..
و من بعيد :لاحت نساء كأشجار متفرقة .. كن يحملن الجثث ، و يمشين في الظل ـ كن في الغالب منفردات ـ غير أن واحدة ، أو أخرى، أو أخرى أيضا : كانت تكور يديها على انتفاخ غيمة هطلى في بطنها .. و تجلس منتظرة .........
ركضت إلى عيون الأطفال ....