شجر الأرض

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : جـبـير المليـحان | المصدر : www.arabicstory.net

 

خروج

 

 

 

 

و تكوم فوقي حزن يشبه الجليد ، حزن تكوم .

 

ولم أبك و أنا أخطو خارج باب السجن ، لم أبك .

 

فأخذت أنظر إلى السماء، والطيور التي ترفرف في الأفق تتحول إلى نقاط تشبه أيدي مسافرين يودعون شاطئا يرحل .

 

طيور ، و طيور ، و طيور .

 

و الهواء بارد ، الهواء ، والبحر ؛ و للبحر رائحة شهية .

 

قدماك الآن عليهما غبار .

 

قلت سر إلى البحر .. وستجد ظلا لبهجة صغيرة بين الأمواج ، فرحا صغيرا ، ....فرح ، ربما .

 

سترى نوارس ترفرف معها عيناك حتى الدموع ،الدموع ..

 

وربما شاهدت حورية البحر تمسك بيدك ، و تذهب بك حيث العوالم السرية في الأعماق .. سترى الأرض بعيدة . هذه الأرض بعيدة ، نعم فهي بعيدة . و ستحاول أن تكون قريبا من سطح الماء بما يكفي أن تسمع همس عاشقين لا يريانك ، و أن تكون قريبا لترى المسافة بين نفسين ، و شفتين .

 

عاشقان : يريان الماء .. يريان الحياة .. عاشقان .. للحياة .. الحياة .

 

الآن العاشقان بجانب البحر : شاب و فتاة ؛ الشاب يتمنطق بحيوية ضاحكة ، و يدلي بساقيه في المياه ، و كأنه يلعب ؛ الشاب يلعب ، و فتاته تهمس بضحكات صغيرة خجلى، و مثمرة ، و كأنها شجرة مليئة ..و الفتاة تلتفت إلى الخلف دائما . ربما هناك عينان تترصدان حركاتها . ربما أسكنت في رأسها خوفاً ما ، رجل يترصد الضحكات الخجلى للفتاة المثمرة ... قلبها يركض بفرح و خوف .

 

أنت الآن قرب البحر و ترى رجلا..وفتاة و شابا يلعب..تراهم. مرارا . تكون بجانب البحر ، و تراهم ..مرارا .

 

كنت أول الأمر تطلق نحوهم عصافير ضحكة مريحة، و غبطة بهيّة .عصافير الضحكة تطير ، و ترفرف بجانبهم من مسافة غير مزعجة .. العصافير ترمي من مناقيرها وردا صغيرا يشبه بهجتك الصغيرة ، و هما لا يريان: فالشاب يدلي بساقيه في الماء ، و كأنه يلعب ، و الفتاة تشبه الضحكة .. مرارا و مرارا و العاشقان يخطان حديقة حلم سيأتي ؛ تسمعهما يهمسان طريقا للغد .. يريان الماء ، والحياة .

 

في المرة الأخيرة ، وحين اقتربت من قلبيهما ، كانا يغنيان عن حلم طري وصغير : يخطان أرضا هي جزء من ضوء العيون ، يلتفتان حيث يمتد شارعهما الصغير و يضحكان ، و هما يؤشران نحو المنازل المتآلفة ، و يرسمان بينها بيتا دافئا مثل كفيهما ، و منه ينطلق أطفالهما بضحكات متعافية ، و في هذا الحلم ينموان ويريان الحياة .. همست لضحكتك :

 

ــ لابد أنهما يخيطان أيامهما القادمة كعش لطائرين جميلين .. !!

 

ثم رأيت كيف نمت الأعشاب في يد الشاب ، و هو يبذر أصابعها في فسحة خضراء في كفيه ، و كيف ضحكت بضحكات مثمرة ، و كيف اقترب الفتى و زرع طعما في شفتيها ، و انطلقت حولهما فراشات ملونة ، و حطت النوارس برفق .. قلت :

 

ــ حريتهما : حياتهما ؛ إنهما يبنيان وطناً .. هذه هي الحياة !!

 

حتى جاء الرجل المتكرر.. و مشى مقتربا من ضحكة الفتاة .. توجّه نحو هما مباشرة يهزّ غضباً أسود ، ........... ركضتُ نحو مزرعة حلمهما .. و أخذتُ أصرخُ ، و الطيور تفر إلى حيث السماء البعيدة جدا .. السماء بعيدة .. بعيدة ..و أنا ركضت نحو الرجل ، و وضعت أصابعي حول رقبته ، و أسقطته على الأرض ، و تعاركنا ، و ضربت رأسه ، ضربته ، و سحبته إلى البحر حيث غمست رأسه عدة مرات في الماء حتى أخذني الرجال الذين جاؤوا ...

 

أناس كثيرين جاوؤا ، يركضون ، ويصرخون ..النوارس حلقت بعيدا بعيون خائفة .. و الفتى يركض في دوائر و كأنه قد أصيب بالجنون ، فيما الفتاة تقوم و تسقط ، تقوم و تسقط وسط عباءتها ، و غبار أحلامها، .

 

ثم أخذوك إلى السجن. أخذوك .

 

تتذكر الآن الضابط ، و أنت مكبل ، هو يقول لك :

 

ـ و تضرب الرجل !!

 

و أنت تقول :

 

ـ ضربت رأسه !

 

ـ و لماذا رأسه ؟

 

و هو يلتفت إلى مساعده ذي النجوم اللامعة فوق أكتافه أيضا ، و يغمز له ، و يبتسمان ، و تقول:

 

ـ حتى أنظفه !!

 

و يخبط على طاولته بمرح و هو يبادل مساعده ابتسامة كبيرة ، وكأنهما يقولان : لقد وجدنا صيدا طريفا .. و يقول :

 

ـ و لماذا غطست رأسه في الماء ؟!

 

ثم يلبس وجها صارماً ، و يقول :

 

ـ كنت تنوي إغراقه ليموت ؟ هذه نية قتل متعمدة !!

 

و تقول :

 

ـ كنت أنوي غسل ما برأسه من الأوساخ !!

 

و يضجان بالضحك ، حتى تتخيل أنهما سيبولان في سراويلهما ، ثم يأمر الجندي بأن يأخذك إلى الزنزانة :

 

ـ يا جندي ؛ خذ هذا إلى الزنزانة .

 

تذكر أن الجندي دفعك برفق أمامه ، و كنت تمشي حالما بأنك تدخل إلى قلب أرضك ، قلبها ، و تنظر من عينيها إلى طول الأرض ، و كأنك ترى لوحة كبيرة فرشت فوق خارطته ، ملئت حروفا : الح ب مم نو ع ، ح ب ل ا ....... حروف كثيرة ، كثيرة ، مبعثرة ، ضائعة ، أكثر من النخل و العشب ..الحب .. الحب ، و فلوله هاربة .

 

 

 

 

* * *

لا تحلم :

 

 

 

 

أنا رجل خرج من السجن الآن و تكوم فوقي حزن يشبه الجليد ، و مع هذا كان الهواء باردا :الهواء بارد ، للبحر رائحة شهية .ضرب هواء جديد رئتيّ، التفت خلفي . التفتّ وكان الشرطيان يحرسان البوابة .. و آخر كان في البرج الصغير في زاوية المبنى الأبيض المدلهم ، آخر هناك ، و أسلاك شائكة .. قلت : مهلا لا داعي للأحلام الكبيرة .. فالصغيرة لم تأت . أنت شجي بالأرض ، و ها أنت تمشي ببطء محاولا نفض كومة الحزن التي دفنتك .. اذهب عن هذا السجن .. ابتعد : رأسك يقول ذلك ؟ و قلبك ينبض بقوة بحب النخيل .. أين تفر ؟ عليك أولا أن تمشي حتى تختفي هذه الأسلاك و الجنود .. لكنك ستجدها أمامك ، و عن اليمين ، و عن الشمال ، في كل مكان ، فأنت في الأرض ، أرض واسعة ، و فوقها السماء واسعة أيضا ، والبحر واسع ، و كثير من عصافير حلمك أنت ، و عصافير الفتى والفتاة ، والناس ، تملأ الفضاء ، و السماء ومدى البحر ، ثمة مساحات خضراء يانعة كالمدى ، و قلوب شتى تشبهه ، و أناس تحت أكداس الحزن مثله .. كثيرون يمشون داخل هذه الأسلاك و هم يبيتسمون كما تفعل الأشجار ويحملون أحلامهم كالغيوم .. وعيونهم تغطي مساحة الصحاري الكثيرة بأمطارها . عليك أن تسير مع الآخرين نافضا غبار الحزن ، حالما .. احلم . احلم كثيرا، و دع أرضك تمتلئ بالحلم .. دع ذلك يتسع ، و يتكائر حتى تغص الطرقات بضياء الأحلام و تفيض .. و سترى أن أحلامك تمشي على قدمين .... و أن الحب ينبت كالعشب في نواصي الطرقات .. و أن فلوله الهاربة تعود كالجند المنتصرين ..تدخل إلى أرضك ، إلى قلبه ، و تنظر من عينيه ، و ترى العاشقين يخرجان من حلم الماء بعيون متسعة على مدى البحر تزفهما طيور بيضاء و هما يخططان أرضا ، ويغرسان عشا طريا .

 

 

 

 

* * *

ليس حلما :

 

 

 

 

مهلا مهلا : أنت لا تحلم .. أنت في أرضك .. تتذكر الجندي و هو يدفعك بلطف .. كنت تمشي مهمهما بأغنية بعيدة .

 

تلتفت لترى وجه الجندي الذي يدفعك برفق ، تنظر في دهشة عينيه الغضة ، عيناه كعيني الشاب الذي يتمنطق بحيوية ضاحكة ، و يدلي بساقيه في المياه و كأنه يلعب ؛ الشاب المتمنطق بحيويته يدفعك برفق ، يصلصل الباب الحديدى ، و تسمع خطوات الجندي مبتعدة .. تغني وسط الزنزانة.

 

تراك تمشي ، تأتي السماء بمائها و يجيء البحر مغنيا للغيوم ..تنساب الموسيقى ، ترى أشباحا كثيرة لشباب ـ يتمنطقون بأفراحهم ، ويدلون بسيقانهم في المياه ، ، و كأنهم يلعبون، و كأنهم يخططون أرضا ، و يغرسون أعشاشا ، و يبتسمون لأطفال متعافين ـ وأشجارا ، أشجارا ، و تمد يديك ، تنظر كيف يعانق الماء الماء ، و كيف ترتفع أكف الأمواج ، وتلمس أصابع المطر الطرية ، ترقص معها و يمتزجان ، ثم يذوبان في الخضم الواسع .. تقول ليس مهما بعد ذلك أين يتجهان فقد أصبحا جسدا من الماء يمشي كيف يريد ، دون أن تعصف به الريح ، أو تزجره الطرقات .

 

 

 

 

* * *

الآن :

 

 

 

 

امض : فالأرض ممتلئة بأعشاش الأحلام .الأرض تلد العاشقين