صانع الملح
الناقل :
mahmoud
| الكاتب الأصلى :
جـبـير المليـحان
| المصدر :
www.arabicstory.net
البيت
الطيني
الكبير داخل
المزرعة
، تحيط به
أشجار النخيل
و
التفاح
و
التين
و
الرمان
، وهو عائد من المسجد مقترباً من الباب شم الرائحة اللذيذة لأرغفة الحنطة، فتح الباب مبتسماً، وجدها بجانب
النار
تقرب الدلّة من
الجمر
. سلم وجلس. ابتسمت له . وصبت فنجاناً فاحت منه رائحة
الهَيْل
. ناولته
التمر
. فأخذ واحدة تقطر دبساً و ألقاها في فمه و أتبعها برشفة من فنجانه .. قال :
ـ الرائحة لذيذة !
ـ أشارت إلى الإناء المعدني اللامع المغطى ، وقالت :
ـ (
النديلات
)
1
!
قال : بل هي رائحتك ! ضحكت و قامت .. قائلة بدلال :
ـ أمامك طريق طويل.. خذ فطورك !
نظر إليها باسما وهو يتناول طبق الفطور .. و عندما انثنت تدلت الجديلتان
الذهبيتان
.. فاستفز جلسته وتحرك صوبها .. ومد يده ، فراغت، أمسكها .فتملصت، لكنه أطبق عليها بذراعيه .رفعت رأسها إليه فبرق بياض العينين الكحيلتين، وافتر الثغر عن البرد . وضعت سبابتها على شفتيه ، وأشارت بعينيها إلى باب الغرفة المجاورة المفتوح ..قائلة بما يشبه الهمس :
ـ الأولاد !
على القطيفة الممددة بجانب
النار
، خفتت ضحكاتهما وتحولت إلى همس محموم ............ و عندما قام قال :
ـ أين ثوبي المدبوغ ؟ !
هنا .. و أشارت إلى ثوب مُمَوَّهٍ
بالبني
و
الأحمر الداكن
.. كان معلقاً على الجدار .
ـ لن أتأخر !
ودعها بابتسامة رضا كبيرة وهي تتمنى له السلامة .
علق بندقيته فوق كتفه ، و منظاره في رقبته ، وتحسس الخنجر الفضي المعلق بالحزام الجلدي . بجانب مخلاته .
نادته : ألن تأخذ الشكوة ؟
2
أشار بيده ضاحكاً . ومشى متجاوزاً السور
الطيني
المحيط ب
المزرعة
من كل جوانبها .. ثم خرج من الباب الكبير المفتوح دائماً , بانت له أشباح الجبال بعيدة و غامضة ، وهي تحتزم بغمام كثيف يغطي سفوحها
،وكأنها تخفي سراً . قال :
ـ علي أن أصل مع
شروق الشمس
..
أسرع خطاه و كأنه يركض .. أقدامه تنتقل فوق حصى البطحاء محدثة صوتاً واضحاً في هدوء المكان ، غبار خفيف يعلو من خلفه ثم يهبط فوق الحصى . شجيرات الطلح والسدر والعوسج والرَّال والسِّلَّى و النِّقْدْ تتناثر في الفلاة .. التفت و لاحت
حمرة الشفق
، نظر إلى القرية فلاح شبحها بعيداً جداً ، فأسرع الخطى .. وصل السفح مقتحماً الضباب .. وسلك دربه المعروف .. قال :
ـ الريح مواتية ولن تشم الذئبة رائحتي .. تشمم ثوبه المدبوغ بمحبة .. وتوقف عند
شجرة
سُوَّيْد
3
.. قطف مجموعة من عناقيدها الناضجة و ألقى ببعض الحبات اللامعة في فمه ، ووضع الباقي في مخلاته . قال : سآخذ المزيد للأولاد بعد عودتي .. مشى صاعداً بدون صوت : قافزاً من صخرة إلى أخرى وكأنه ذئب .. يختار الصخور الملساء ويقفز .. سلم صخري أملس، قال ذلك، وضحك .. و عندما ارتفع التفت . بدت القرية كشريط طويل من النخيل والدور .. ومن خلفها امتدت سهول مفتوحة دون نهاية .. كانت الشمس على وشك البزوغ .. فارتفع مع الصخور بحذر، و توقف عند الصخرة الكبيرة . أنزل البندقية .. ومد منظاره :
ـ
هذا هو الغار .. ستخرج الذئبة مع شروق الشمس تماماً . لو كان مهب الريح من ناحيتي لشمت الرائحة فوراً و أفسدت خطتي.. لست بحاجة إلى قتلها .. أريد بلورات الملح فقط ..لكن هل تفهم ذلك ؟ إنها لم تنس أن اثنين اقتحما بيتها وهي تبحث عن صيد و اختطفا جراءها . تذكر حديثة تلك الليلة ، وهم يجلسون متحلقين حول النار و إبريق الحليب بالزنجبيل .. لقد بكى الولد الصغير ، ولاذ بحضن أمه .. ما كان لي أن أقول أن اثنين قد لبسا ثوبي الصيد المدبوغين ، وكمنا بالقرب من الغار، حتى إذا خرجت منه ، وابتعدت دخلا الغار، و وجدا ستة جراء لم تفتح عيونها، فقتلا أربعة و وضعا اثنين في كيس وعادا بهما إلى القرية حيث باعاهما إلى تاجر في المدينة .. جلس يراقب مخرج الغار .. وهو يحدث نفسه .. لن ننسى كيف كانت تعوي و تدور بالقرب من البيت الذي احتفظ به الصيادون بالجروين.. تدور و تعوي حتى الفجر.
تسللت
أشعة الشمس
الأولى إلى فوهة الغار .. فدقق النظر : رآها .. تخرج .. تقف .. وتحرك رأسها إلى الجهات . لابد أنها تبحث عن شيء .. ربما تحدد الجهة التي تقصدها .. عادة تخرج للصيد في
الليل
، وتعود مع الفجر .. لكنها عندما تلد .. تغير وقت الصيد، وتخرج مع شروق الشمس .. لا تبتعد كثيراً . و تعود في الضحى .. بكل تأكيد أن في الغار جراء .. رفعت رأسها إلى الأعلى وعوت عواء متصلاً
وطويلاً. .. ثم وضعت ذيلها بين قائمتيها مهرولة و هي تنسل نازلة إلى الجهة الأخرى .
انتظر قليلا .. مشى بحذر حتى صار قريباً من باب الغار وتوقف .. أنزل بندقيته وجهزها ..تلفت في كل الجهات . مد بصره بعيداً ..
الشمس
ترتفع .. و القرية تستيقظ .. تسلل إلى الغار .. في زاوية كانت مجموعة من الجراء الصغيرة ، برؤوس
حمراء
كبيرة ، تصخب بالحركة والعواء الضعيف ..لابد أنها شمت رائحتي .. علي أن أسرع .. بدأ يكسر بلورات الملح اللامعة المتدلية من سقف الغار .. يجمعها بيديه ، و يضعها في الكيس المعلق بحزامه، ثم يتوقف ويطل إلى الخارج .. يجيل بصره متأكداً أن صاحبة البيت لم تعد .... امتلأ الكيس .. ألقى نظرة على الجراء ونزل مسرعاً وهو يشعر بسعادة ..
وبطاقة كبيرة للركض .. عندما ابتعد عن الغار منحدراً .. تمهل ، وغنى بيتين من الشعر، وهو يجمع في مخلاته ما يجده من الحميض والفروع وحوَّا البَوّ4.. .. وصل إلى السفح و أدار نظره إلى الجبل الشامخ: كان يسطع تحت الشمس كأسطورة.. و بطرف خنجره اجتث مجموعة من
الجَهَقْ
.. وكون باقة من
السِّكَبْ والنِّفَلْ
، و قال في نفسه : ستفرح بها ..ثم انحدر مغنياً باتجاه القرية .
دخل من الباب الكبير متجها إلى البيت الطيني ، وصل بالقرب منه .. كان الضحى يتمدد رخياً فوق الأرض .. و
شجرة العنب
القريبة ، تتمدد فوق مساحة واسعة مشكلة مساحة من الظل . تنحنح فاشرأب عنق المرأة ، وخفق قلبها وابتسمت .. هاهي تجلس في الظل فوق حصير مفروش ، تصنع سلالا للعناقيد ؛ تُمْسِكُ خُوْصَتَيْنِ أو ثلاثاً ، من الخوص الطري الأبيض ، وتبللها بالماء ، وتشكلها بأناملها حزاماً رقيقاً.. الحزام يستطيل ويستطيل من تحت أناملها، منحدرا على حجرها ، ثم يلتف دوائر بجانب فخذها. تهز رأسها بحركات إيقاعية وهي تغني بصوت خفيض. الصبيان يلعبان في التراب؛ يدوران دون انقطاع حول دائرة واسعة رسماها فوق الأرض . تهب نسمات باردة محركة
سعف النخيل
و
أوراق
الأشجار
. أغصان العنب المتدلية لا تتحرك كثيراً . الرجل يقبل باسماً، ينزل بندقيته عن كتفيه . و يلقي بمخلاته إلى الطفلين، يتسابقان لالتقاطها، و يجريان بفرح إلى أمهما.. وصل إلى المرأة وهي ترفع رأسها مبتسمة ، أخرج من حزامه باقةالأعشاب ، شم رائحتها ، انحنى وقبل رأسها ، و وضع الروائح في حجرها . قامت ، وضمته ، ثم قادته إلى مكان القهوة .سأل:
ـ لم يلمسوه ؟
وهو يشير إلى كومة من أغصان يابسة صفت كهرم ، و أعدت في أقصى زاوية الظل .
ـ لا .. تعال ..القهوة ..
يمشيان ، يقترب من وجهها ويباغتها قاطفاً شفتيها ، .. تسحبه من طرف يده فيسقط ضاحكاً على ظهره ثم يستقيم . تناوله طاسة الماء فيعب منها ويمسح فمه وشاربيه بظهر كفه .. تناوله فنجان القهوة وتمد له قدح التمر .. الصبيان قريبان ينظران إليهما يتهامسان ، ويضحكان ، يقتربان وينثنيان ، تمسك بيديه ، وتسقطه على ظهره فوق البساط .. يرفع يديه مستسلماً. يتضاحكون .. ويبدؤون الأكل .. يقوم و يتوجه إلى الزاوية، يوقد
ناراً
في الهرم الصغير ، و يعود للجلوس و الأكل معهم .يراقب احتراق الغصون ، ثم يقوم ويغطيها بالرمل على مهل حتى تنطفئ ولا يتبقى غير
الدخان
. يعود ليتمدد فوق الحصير واضعاً يده اليمنى فوق عينيه. يقترب منه أحد الصبيين ويداعب لحيته . يبتسم .. ثم يقوم إلى الكومة ، يخرج قطع الفحم وينظفها بخرقة ويصفها بعناية فوق قطعة قماش . كومة الفحم تشكل هرما صغيرا . يتربع أمامها و يضعها بجانب ركبته .. يفتح صرة ويخرج منها ميزاناً صغيراً بلون
الذهب
.. يمسح النجر الصخري الكبير
الأدهم
الجاثم بجانبه ..يضع في كِفَّةِ الميزان قطعا من الفحم، وفي الكفة الأخرى قطعاً من البلور اللامع . ينظر إلى الكفتين المتوازيتين بعناية حتى تتساويان ، يفرغ ما فيهما في فوهة النجر .. يُقَطِّرُ فوقه نقطاً من الماء بأطراف أصابعه . يشير بيده إلى الصبيين ، يبتعدان ، ثم يرسمان دائرة جديدة، ويبدآن بالركض حولها . يكشف الرجل عن ساعديه ويمسك بيد حجرية طويلة ملساء لونها
أخضر
.يدق الفحم بحذر شديد. يتأنى بين كل مرة يهوى بها على خليط الفحم والقطع.بعد كل ثلاث دقات يقطر نقط الماء . عيناه على الفوهة تماماً.. المرأة تسف الخوص والأولاد يدورون دون ضجيج .
من الطريق القادم يصل صوت نحنحة رجل . يقترب الصوت . المرأة تلملم جدائلها الطويلة ، و تغطي وجهها و جدائلها . والصبيان يكفان عن الدوران .يظهر رجل :
ـ السلام عليكم .
يرد الرجل الآخر السلام وهو يقف .. يمشي بالرجل مرحبا، إلى حيث أدوات القهوة، يمد يده مواصلاً الترحيب ، يُجْلِسُ الرجلَ على البساط
الأحمر
النظيف ، يصب له فنجانا . يشرب الرجل فنجانه، فيصب له آخر، يصب فنجانا ثالثا ، يناوله الفنجان وهو يقول :
ـ لدي عمل لا أستطيع تأخيره !
يشير إلى النجر الجاثم ويقول :
ـ أصنع بارودا .
يفغر الرجل فمه ويهم بالقيام .. فيقول له الرجل :
ـ استرح . هاك الدلة !
يتناول الرجل دلة القهوة .. ويذهب الآخر إلى النجر .
يفرغ الرجل من قهوته ، ويلتفت صوب المرأة .. أصابعها الطويلة تعمل برشاقة، وذراعاها البيضاوان يبرزان وهي تَسُفُّ.. يقول الرجل بصوت عال :
ـ ماء ... أريد ماء !
يشير الرجل الآخر إلى الصبيين .يتراكضان إلى قربة الماء المعلقة . يصب أحدهما منها في طاسة ، ويذهب ويناولها إلى الرجل فيشرب ويضع الإناء ويمسح فمه .ينصرف الصبيان . الرجل يرفع رأسه ويحدق في العناقيد الذهبية المتدلية ، يبتسم . ويقف. يمد يده و يلمس العناقيد، يمرر أصابعه بنعومة عليها ، ثم يقطف عنقودا كبيرا. يجلس مقابلا المرأة ، يمسك العنقود بيد ويبدأ أكل الحبات وهو ينظر إلى المرأة و يبتسم . الرجل الآخر يدق الخليط بتمهل وحذر. يخطف نظرة عاجلة إلى الرجل ، ويدق . تلتقي عيناه بعيني المرأة . تلملم أغراضها وتقوم متجهة إلى باب البيت القريب . يتابع آكل العنب الجديلتين الذهبيتين المضفورتين تتراقصان حتى أسفل الظهر .تختفي المرأة .يمصمص شفتيه وهي تختفي . الرجل يهوي على الخليط بقوة . المرأة تنادي من داخل البيت .. يضع اليد الحجرية فوق صحن النجر ويقوم . يقفز الآخر نحوه مطوحا ببقايا العنقود ، ممصمصاً شفتيه ، ويقول :
ـ تصنع بارودا ؟ هل أساعدك ؟
ـ استرح . إنه خطر !
يقترب منه الرجل ويقول :
ـ هل تحاربون ؟
ـ الخطر في كل وقت ..والحرب قائمة أبداً !
ـ كيف تصنعه ؟
الرجل واقف .ينظر إلى البيت . ويقول :
ـ من هذا الفحم والكبريت والملح .
ـ من أين تأتي به ؟
ـ من هذه الجبال .. ويشير بيده إلى الجبال البعيدة العالية .ويضيف وهو يخطو إلى البيت:
ـ نستخدمه للصيد غالبا !
ينظر إليه الرجل ، وينظر إلى النجر .. الآخر يدخل إلى البيت .. ويلمح في عيني المرأة أسئلة غاضبة .. فيقول :
ـ ضيف ..و سيذهب ... اطبخي لنا الغداء !
ـ ولكن ....
لم تكمل المرأة ؛ فقد هرع الرجل على دوي انفجار شديد .. كانت الدجاجات تفر ، وأسراب العصافير تملأ الجو ، والرجل ممدد على الأرض. وقد تلطخ وجهه ويداه بالسواد والدم ....