قرية المريخ !!

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : جـبـير المليـحان | المصدر : www.arabicstory.net

ناصر الولد الصغير ، ذو الجسم النحيف الخفيف ، ركض لمدة طويلة ، ركض حتى تعب ، وعندما تعب جلس قليلاً والتفت .. كانت دياره بعيدة ، شاهد لمعان المركبة الفضائية في الشمس ، قام و ركض بكل قوته ليلحق بها : ( إنه حلمه الكبير الذي راوده طويلاً ، أن يسافر و ويطأ تربة المريخ الحمراء ..) ، كانت المركبة تتلألأ مبتعدة ، وهو يحاول الطيران ؛ للحظة أحس أنه عاجز ، وكادت تفر من عينيه دمعة ، ولكنه صرخ منادياً صديقته الريح :

- يا ريح تعالي ..بسرعة تعالي .. يا ريح !‍

 

لحظات والريح تلفه بردائها و تحمله خفيفاً مثل صقر ، الأرض تبتعد ، والمركبة اللامعة تقترب ، هاهي .. إنه يلتصق بها ، أغمض عينيه ……ذلك ما قالت له صديقته :

 

- ستحتاج إلى عينيك في المستقبل !

 

ربتت على خده بنسمتها الخفيفة ثم عادت إلى الأرض لتلعب مع الأشجار و أمواج البحر .

 

لا يدري ناصر كم بقي طائراً ، ولكنه شعر فجأة أن ريحاً ملونة - برتقالية أو حمراء تقريباً - تضعه بهدوء على تربة المريخ الحمراء الناعمة .. أوه..

 

- يا للفرح !

 

هكذا هتف …تلفت في كل الجهات ، ولم يشاهـــد غير ( سوجورنير* ) تفر من أمامه كخنفساء حديدية صغيرة ، وتلفّ لتختفي خلف الصخور .. قرر- بعد تفكير قصير - أن يأخذ الجهة الأخرى : ( تذكر قول جده الكبير : إذا احترت فالتفت .. ! ) استدار ، و مشى بشكل لين ، حتى تجاوز الكثير من الصخور و الحفر وبعض الأودية الصغيرة الجافة ، تراءى أمامه ، الآن تل متوسط الحجم ، بدأ يصعده على مهل ، أحس بسعادة غامرة ، لكنه أحس - وسط السكون المطبق - بأصوات بعيدة ، وعندما أشرف على قمة التل شاهد من تحته نهراً صغيراً وعلى ضفته قرية ، انحدر بسرعة حتى وصل إلى النهر ، و وقف مندهشاً : كانت مياهه ملونة ، بل أنها خيوط ماء ملون تجري بهدوء تام . قال في نفسه سأغامر و أتذوقها : شرب من الخط البرتقالي فإذا هو ماء برتقال ، كان بجانبه ماء أحمر فإذا هو ماء الفراولة ، ثم ماء التفاح ، ثم غطس يده في ماء أسود فإذا هو ماء الباذنجان : كانت آلاف المياه الملونة لفواكه و خضار ، و أشياء لا حصر لها ، ضحك لنفسه وقال :

 

- لو درى بها صاحب البقالة لصنع منها المثلجات !

 

في هذه الأثناء وجد نفسه وقد قطع النهر دون عناء :

 

- نهر صغير و غريب ! ‍‍.

 

قال لنفسه .

 

القرية الآن أمامه ، استغرب أن يرى الكثير من الرجال الجالسين ، كانوا يرونه دون أن يثير ذلك أي حركة لديهم .. تقدم إلى أولهم وحياه ،فلم يرد . أومأ له بيده فرمش الرجل بعينيه ، ولم يتحرك . كان ناصر جائعاً ، ولذلك فقد أخذ صبره ينفد ، وبدأ يصرخ في القوم الجالسين دون حراك ..دار عليهم بصراخه ، وفجأة رأى مجموعة من الرؤوس الصغيرة ، تطل من خلف أحد البيوت . اقترب منها فهاله حجم الأذنين الكبير لهؤلاء الأولاد : أذنان مدورتان كطبقين في كل رأس ، التفت إلى الرجال الجاثمين في أماكنهم : فشاهد لكل منهم أذنين مدورتين كطبقين صغيرين … أصابه خوف مبهم ، وحب للمغامرة ، و شيء من الغضب ، فركض نحو الأولاد بكل قوته … حتى إذا وصلهم حياهم و هو يلهث :

 

-أنا ناصر .. من هناك ! .

 

و أشار إلى المدى الواسع حيث الأرض الزرقاء معلقة في أقاصي السماء ! .

 

فتقدم ذو أكبر طبـقـين في رأسه وقال :

 

- أهلاً ... هل شربت من ماء فواكهنا .. وخضارنا ؟

 

- نعم ‍!

 

- ما رأيك !؟

 

- أنتم محظوظون . فلستم بحاجة إلى الشراء أو الطبخ .. إنكم لا تشترون هذه الفواكه .. أليس كذلك ؟

 

- نعم ولكننا مللنا منها ، لقد أكلناها طوال السنين ‍،أنتم في الأرض تعملون .. ألا ترى إلى آبائنا الجالسين ؟

 

- ! ؟

 

- إنهم يجلسون هكذا من دهور !

 

- ألا يعملون ؟

 

- إن عملهم التأمل ! ‍

 

- كيف ؟

 

- إن هؤلاء هم مجلس القرية .. مجلس الحكماء ‍!

 

- حكماء ؟ ولكنني حدثتهم و لم يردوا عليّ !‍

 

- آه .. ألا تعرف أن ما من حكيم في هذه القرية إلا و هو أصم ؟

 

- أصم؟

 

- نعم ، إن عاداتنا تقضي أن يقوم كبير القرية يثقب طبلتي كل من يريد أن ينضم إلى مجلس الحكماء !

 

- كيف؟

 

- يدعوه إلى النوم ..

 

-إلى النوم؟ كيف؟

 

- يحضرونه ، ويجلسونه : ثم يبدؤون العزف له بأبواق خاصة حتى تترنح رقبته - بعد أن ينام رأسه ، و يصبح ثقيلاً مثل الحجر !

 

-ثم ماذا؟

 

-يقوم كبيرهم بخرق أذنيه .. فيفرّ مذعوراً من الألم ، ويظل يصرخ . ويصرخ حتى يخر في الأرض .. إن مات نُفِيَ ، وإن عاش قضى بقية وقته في سكون تام !

 

- كيف يُنفى الميتون ؟

 

- يُرمون خارج هذا الكوكب !

 

-و الألم .. ماذا تفعلون لمن تثقب أذناه ؟

 

- هو حياتنا ..لكن الحكيم ينساه بعد أن يتعمق في رؤية الأشياء ..فليــس لديه ، الآن ، غير عينيه . هكذا يقولون !

 

-و لكن هل يوافق جميع الرجال على ذلك ؟

 

- اسألهم بنفسك ، فلست غير طفل !

 

- و لكن لماذا هذه الطريقة العجيبة ؟

 

-يقول كبير الحكماء : إن الدنيا ضجيج ، و الأصوات ملهاة تصرف الحكيم عن التأمل و التفكير في الأمور الكبيرة !

 

- آه ..

 

كان طفل بجانبه ، يهمس بطبقي جاره :

 

( انظر إلى عينيه ، إنه يستغرب أن ينبذ الموتى خارج المريخ ، قل له : أننا نقذف بهم نحو الشمس ليحترقوا ، و بعضهم يتساقطون على الأرض كشهب ملتهبة .. هل نسأله ؟ ) ، استدار الإثنان إليه ، وقالا ساخرين :

 

-يا ناصر .. ربما كنت أحد الذين رماهم الأجداد ‍!!

 

استدار ناصر ليعود ، فاستوقفه أحدهم :

 

- لا تغضب ! . نود أن تبقى معنا هنا طويلاً .

 

- شكراً ، لا . . لدي مدرسة ؟

 

-مدرسة ؟ ما هي ؟

 

-إنها المكان الذي أتعلم فيه .

 

-هل هي عملك ؟

 

-نعم إنها عملي ‍!

 

-ما لونها ؟ و هل بها نهر ملون ؟

 

صرخ أحدهم بقوة :

 

- لماذا لك أذنان صغيرتان ؟!

 

ردّ بسرعة :

 

- إنني أسمعكم بقوة !

 

و انهالوا عليه بأسئلة لا حصر لها ، كان الرجال الجالسين بجوارهم يهزّون رؤوسهم بصمت ، و هم يتأملون .. نظر في ساعته ، فرأى وقت عمله يقترب ، ودّ لو دعا بعض هؤلاء الأولاد للعودة معه ، ولكنه قال في نفسه : ( ماذا يحصل لهم عندما يرون فواجع أرضي ! ) ، قال لهم :

 

- وداعاً !

 

صرخوا جميعاً بقوة :

 

- لا .. لا .. لا ..

 

سألهم باستغراب :

 

- ماذا تريدون ؟!

 

قال أحدهم :

 

-أرنا ما في جيبك !!

 

صاحوا جميعاً :

 

-نحن نرى البذور .. أعطنا البذور .. أعطناها .. و علمنا الزراعة !!

 

لبسه سرور لا يوصف ، أحس أنه مزرعة كبيرة واسعة ، غنية .. ومليئة بكل الأشجار ، و الثمار ، والجميع فيها يأكلون .. والطيور تأكل وتغرد ، والحيوانات .. حدق بعيداً ، فرأى قرص الأرض موغلاً ، وباهتاً ، ود لو بكى .. لكنه نفض نفسه بعزيمة ، وقادهم إلى النهر .. قسمهم إلى مجموعات و وزع عليهم البذور ، وعلمهم كيف يسقونها .. و مع اقتراب المغيب قال لهم :

 

-وداعاً !

 

هزوا رؤوسهم ، و اصطفقت آذانهم … صفّـر ناصر لصديقته الريح الملونة ، حيث كانت تتلاعب فوق الرمال الحمراء ، فجاءته راكضة كغزال ، وضعت أمامه سريراً مرصعاً بنجوم صغيرة لامعة ، نام فوقه ، قالت له الريح : أغمض عينيك .. لمح مجموعة من الأطفال تندس في سريره ، وتغمض عيونها .. ابتسم ثم أغمض عينيه ، و قال لصديقته : سأحلم بنهر صغير ملون ، هزّت رأسها موافقة .. طار ، و طار .. وعندما فتح عينيه ، كان شبح المركبة الفضائية يقترب عائداً من الأرض ، هنأ نفسه قائلاً :

 

-لقد سبقتها !

 

تلفت حوله فلم يشاهد غير أشباح أطفال بعيدين ، هناك في آخر الشارع ، ربما كانت آذانهم كبيره ، قال لنفسه ( سأتأكد من وجودهم غداً في غرفة صفي ، أو في المدرسة ) ، تذكر أنه رأى اثنين أو ثلاثة من قبل ، بل وكانت أذنا أحد المدرسين كبيرتين ، ضحك بصوت عال ثم جذب غطاءه ، و أغمض عينيه و هو يقول :

 

 

- كيف للإنسان أن يعرف ما سيفعله الأطفال في المستقبل ؟؟‍‍!