الولد

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : جـبـير المليـحان | المصدر : www.arabicstory.net

كان صغيرا عندما فتح عينيه.

رأى العالم كبيرا .. خاف .. بكى.

ضمته أمه ، و أرضعته ، لكن عينيه ظلتا تشاهدان العالم كبيرا.. كان يرى العالم واسعا و يبكي ، ويركض إلى أمه .

كبر قليلا:

و خرج إلى الشارع .. رأى أشياء كثيرة كثيرة ..

خاف و عاد باكيا لأمه ..

كبر أكثر :

و لاحظ أن الأشياء من حوله ، كل الأشياء تتحرك .. لا .. ليس ذلك فقط .. بل إن لها أصواتا .. أصوات كثيرة كثيرة .. خاف و عاد إلى البيت ...

كبر أيضا :

و لاحظت أمه أنه لا يملك غير البكاء .. والصراخ الشديد ..كانوا يتحدثون إليه ، و كان يصغي صامتا ، و لكنه لا يتحدث.. أبدا لا ينطق ..

أخذته أمه ، بعد أن خافت عليه كثيرا إلى الطبيب ، و هناك بكى كثيرا .. و لم يسكت حتى عندما دس الطبيب في يده بالونا صغيرا على شكل طيارة .. تأمله ، و احتضنه ، و ظل يبكي ..

قال له الطبيب قصة طريفة عن ولد يحب أكل الحلوى كثيرا .. و لذلك فقد مرضت أسنانه .. سكت و كشر عن أسنانه الصغيرة البيضاء .. فضحك الطبيب .. لكنه لم يتكلم .. فحص الطبيب أذنيه ، و حلقه .. و قال لأمه :

- ابنك سليم !!

- و لماذا لا يتكلم ؟

- أنه سليم .. و ذكي ، و يسمع كل ما يقال .. و سيتحدث .. لا تقلقي ..

الأم حملت ابنها و خرجت و هي تكاد تبكي .. لماذا لا يتكلم كالأولاد الآخرين .. قالت له ذلك ، و مرّت بدكان ، و أخذت له العصير الذي يحبه ، و قطع البسكويت اللذيذ ، و قالت : ستخبرني عن طعمها في البيت .. ابتسم لها ، و هز رأسه .. فرحت الأم لابتسامته ، فعادة لا يعرف غير الصراخ ..

بشرت أباه و أخوته .. و تحلقوا حوله .. ابتسم لهم .. لكنه بكى عندما أخذوا يلحون عليه..

قال الأب ساخرا :

- لو كان الكلام من فضة فالصمت من الذهب !

ضحك الولد .. تركوه مع أخته الصغيرة ..كانت أكبر منه بعامين .. حدثته عن المدرسة .. قام و أحضر حقيبتها ، و أخرج كراسة الرسم و الألوان .. و أشار لها أن ترسم له ، قالت :

- هل تريد أن أرسم لك ؟ هزّ رأسه بالنفي ، فقالت :

- هل تريد أن أعلمك الرسم ؟ هزّ رأسه موافقا ، فقالت له :

- لم أسمعك .. ماذا تقول ؟

- أن أرسم ... قال ذلك بصوت خفيف !!

صرخت البنت على أمها ، فبكى الولد بصوت عال ...

لم يتحدث في ذلك اليوم ، و لا حتى في الأيام التالية . لكن أخته كانت تعلمه الرسم كل يوم .. و في الأسبوع الأخير عندما يكونان لوحدهما يبدأ الحديث معها بصوت خافت .. كان يقول لها جملا جميلة :

ـ العالم مليء بالأشياء .. العالم مزدحم بالأصوات .. الكلام كثير جدا ..أحب الرسم .. الألوان جميلة .. السماء.. البحر .. الشجر .. الغيوم ... و صف طويل من الكلمات ، كلها يقولها بصوت خفيف ، و يرسمها في كراساتها ....

كبر الولد ، و كان يحدث أهله بصوت خفيف ، و عندما يكون في الصف يظل صامتا حتى يسأله المعلم ، فيقف ، و يقول كلاما موجزا لا يتعدى الإجابة .. و عادة ما تكون إجابته مميزة .. ثم ينهمك في الرسم ..

كبر و هو قليل الكلام .. لكنه كان يحدث أخته كثيرا ، و يقول لأهله بعض الحكايات ، و عندما يسأله أصدقاؤه عن سكوته الطويل ، يبتسم ، و يقول لهم ، و هو يرسم بألوانه الكثيرة :

ـ العالم مليء بالأصوات .. و الضجيج ... هيا نرسم ، و يبتسم