استيقضت على شروق يوم خريفي ، مددت يدي لأفتح نافذة غرفتي المحاذية
لمخدعي ، أبى الباب أن يفتح. الجو بارد في الخارج ، قطرات من الندى الليلي تبلل
الشبابيك الحديدية، فتزيدها برودة.
شغلت المذياع لأطلع على الأخبار الصباحية . كلمات تتدفق متزاحمة بين شفتي
يكسرها صوت المذياع.. يمتد اللسان يسبكها لتخرج سليمة.
في ركن من غرفتي كانت هناك زهرة بنفسج ، هيأتها في أصيص لتحيا ، لكنها ذبلت
بعدما حجبت عنها بناية فرعونية ضوء الصباح وهوائه . عصفورة سقطت داخل غرفته.
خذلت حينما بحثت عن شربة ماء حاولت الإنفلات خارجا لم تستطع. ترتطم بحائط
الغرفة مرات حين كررت، فماتت في غربة.
بغرفته في الجانب الآخر من البيت داخل فضائها الموحش كان يجلس وبين يديه
قيثارة . يصنع لحنا. يعزف الحانا لكبار الملحنين " بيهوفن " موزار"
تداعب أنامله أوتارها كما يداعب الحنين دواخله والنوم جفونه . يذكر حينما كان يعزف
لها موسيقى " فلامينكو" تملأ خواء الغرفة. تحت ضوئها الناعس يحتل مكانا، يرتب
أنغامه على نوتة يثبتها في ورقة. تتأوه القيثارة نغما كما تتأوه انفاسه حسرات على
فراقها . فيصعد العزف فضاء الغرفة ، يلامس أشياءها معلقة على الجدران . مبعثرة
فوق سجاد يبسط بشكل فوضوي. لمسات أنامله لأوتار القيثارة ، نظراته صوب النوتة،
دندنة لمعزوفة حزينة . لحن يحكي من خلاله قصة حياة وموت. كانت النغمات في
وحشة الغرفة ، تنساب سجية تلامس سمعي فيهتل لها دمعي وفيا . فأحس
بعذابه، بوفائه. تبكي غمامة الخريف لبكائه كلمات أنينها نغمات تتشظى على عتبة
الموت.
يذكر حينما كانت تغازله بنظراتها، بضحكاتها، بلمساتها. يجمع خيوط سراب فينسج
صورة الحياة. يحبك قصة عشق للحبيب . نثرتها الأيام برتابتها . لم يعد له من وفاء غدا
هذا اللحن ، منهمك في خلقه، شاحب الوجه ، سقيم الجسم . ضاعت نبرات صوته
تجمدت أجزاء جسده ، لاتتحرك الآ عيناه وأنامله، هو لايريد الآ ذلك.
يشخص ببصره الى ورقة النوتة ، ويداعب بأنامله أوتار القيثارة ، يعزف هذا اللحن
ودموعه تنهمر على خديه. احساسه هو الذي يعزف وقلبه هو الذي يحكي ، تتكلم
جوارحه عبر لحنه الأخير هذا.
توسط خشبة المسرح ، كل الأضواء مسلطة عليه ، عمد أن يجلس وظهره للجمهور ،
يريد اخفاء حزنه ، انه الآن يحكي قصة فراق حزينة بأنغام معزوفة لحن أخير.
الصمت يطبق على القاعة .. كل أضوائها منطفئة الا أضواء الخشبة. تتردد عبر فضائها
من قيثارته جمل موسيقية . أكمل العزف . أضيئت القاعة ، حينما استدار لم يكن
هناك أحد يستمع اليه ، كانت القاعة فارغة الا من طيف أسود كان يحتل مقعدا في
الصفوف الأخيرة.
في ذاك المساء ، قصدته زائرا. غرفته تجاور غرفتي . وجدت بابها نصف مغلق.. طرقته
بلطف لكني لم أتلق جوابا . دلهت الغرفة بتردد . كان يرقد فوق السرير والقيثارة على
يمينه والنوتة فوق صدره والعصفورة ميتة تحت فراشه.. ناديته لم يستجب لي ،
اقتربت منه .. حركته جثة . سويت القيثارة وعزفت اللحن.
حينما تركت الغرفة وجدت جمهرة من الناس محلقين باصرين نحوي، في عيونهم
دموع و في نظراتهم حسرات وعلى شفاههم بسمات حزينة