القارورة

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : صالح الأشقر | المصدر : www.arabicstory.net

جلبت شقيقتي صورتها ! 

 

وجهها مستدير وصغير , وفي عينيها ظل غامض وخفي ينم عن خوف أو دهشة . كانت طفلة مهيأة لتصبح زوجة وحسب ... هكذا هو قدرها المجهول ومستقبلها الغامض . ومنذ أن علمت بأن دورها بدأ يقترب , حتى أخذت تنتابها حالات من الاضطراب والحزن والعزلة والهياج الليلي .

 

كانت إذا هدها التعب اليومي , تصعد إلى غرفتها وترمي جسدها المنهوك وروحها الخائرة فوق السرير , وتنتحب بصوت خفيض .

إذا طرق باب المنزل , وسمعت أصواتا غريبة وهمسات متبادلة , تجتاحها حالة الهياج وعدم الاستقرار . تارة تصعد إلى غرفتها , وتارة تختفي في حجرة علوية مهجورة , وربما تدخل إلى الحمام وتتمدد تحت الماء لوقت طويل .

أصبحت ترتاب من كل الزيارات والمواعيد المقررة سلفا .كل زائرة أو ضيف قد يحمل بين يديه تفاصيل حياتها المقبلة .

* * *

وكان عليها أن تنتظرني وكان علي أن أبحث عنها .

* * *

صار هاجس المرأة يطاردني ويستحوذ على خيالي ويقلقني . أصبحت مفتونا بمراقبة النساء وحركات أجسادهن وتمايل خصورهن . بدأت أقرأ وأتعلم لغة الجسد . كان أكثر ما يشدني ويغريني هو الجسد الملفوف والبارز والصاخب . وكلما عبر ظل أمامي عوى المجنون في داخلي : أريد امرأة ! غدت كلمة زواج تعني امرأة لا غير . حفظ النسل والاسم وتكوين عائلة, كلمات فارغة لا معنى لها. وكنت على أحر من الجمر, في انتظار الفرح السعيد !

* * *

كنت أحاول أن أقرأ صورتها .. أن أجد في ملامحها شيئا ما قد يفضي إلى ذاتها وشخصيتها وعواطفها . لم أجد هناك غير الخوف الكامن في عينيها .

قلت لنفسي بحكمة واسعة : الصورة لا تعطيك مفاتيحها من أول وهله , وربما تزول غلالة الخوف والقلق في وقت لاحق .

كانت الليلة الأولى مثل فيلم سينمائي طويل صامت وغامض .

الغرفة واسعة ومعطرة , وأثاثها جديد وفاخر . الستائر حمراء ومسدلة .

الضوء خافت , وباقات الورد منثورة بنظام في الزوايا , وعلب الشوكولاته بالقرب من النافذة , بجانب وعاء فضي كبير مليء بالتفاح والبرتقال .

هناك مرايا في كل مكان :أبواب خزانة الملابس مزينة بالمرايا , وواحدة كبيرة قبالة السرير , وتحتها أصناف عديدة وملونة من العطور في قوارير صغيرة وكبيرة , ومصفوفة بأحكام . لفت نظري قارورة جميلة على هيئة امرأة نصف عارية .

كأنما هذه المرايا قد شيدت من أجل مراقبتي والشهادة علي !

كانت هي واقفة .

شعرها ملفوف على شكل قبعة مهرج , ووجهها مطلي بألوان قزح , ويبدو عليها الإعياء الشديد . ثوبها الأبيض يلتصق بقوة بجسدها , وكأنها أدخلت فيه بقسوة .

جلست على طرف السرير وعيناها مغمضتان , وهناك رعشة طفيفة تصدر عن جسمها . قلت ترى بماذا تفكر البنت هذه اللحظة !

اقتربت منها .. وضعت يدي على ركبتها .. اقتربت أكثر .. ازداد ارتعاشها وأخذت ترتجف . بعد قليل فتحت عينيها , ورفعت رأسها , ونظرت إلى عيني طويلا , وأجهشت بالبكاء .

قلت لها بصوت متردد .. أنت في غرفتك الآن , فلما هذه الملابس الثقيلة , وكأنك مسجونة بداخلها !

* * *

كنت أنا السجين والسجان ... الظالم والمظلوم .. الفاتح والمهزوم . . الرقيق والسيد .وهناك في الأسفل تتجمع القبيلة , على أحر من النار , في انتظار الصباح والدم المباح